في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، رفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أو 3% دفعةً واحدة في أكبر زيادة لأسعار الفائدة منذ 2018، بعدما كان المركزي في السيطرة على التضخم الناتج عن تخفيض الجنيه في نهاية 2016 عقب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ثم ما لبث أكبر بنكين في الجهاز المصرفي المصري: الأهلي ومصر، أن أعلنا عن طرح شهادات لسنة واحدة بسعر فائدة 25%.
ويرى كثير من الاقتصاديين أن رفع سعر الفائدة هو إجراء متوقع لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم في السنة الأخيرة على خلفية مجموعة من الظروف المحلية والعالمية، وبالنظر إلى أن مهمة البنك المركزي الرئيسية هي الحفاظ على استقرار الأسعار، وأن سياسة سعر الفائدة هي من الأدوات التقليدية المتاحة لدى المركزي لتوجيه الاقتصاد الكلي، فما الذي يعنيه رفع سعر الفائدة تحديدًا؟
مبدئيًا، لا يعني رفع سعر الفائدة شيئًا واحدًا للجميع فكونك مقترضًا يضعك في موقف مختلف تمام الاختلاف عن كونك مودعًا. من الناحية النظرية، يؤدي رفع سعر الفائدة إلى تشجيع الناس على الادخار لأنه يعدهم بعائد على أموالهم المودعة في البنوك، وبالتالي يقلل من المتداول من النقد على نحو يفترض أن يسهم في كبح جماح التضخم؛ أي يوقف من ارتفاع الأسعار أو يقلل منه.
وفي سياق كسياقنا الراهن الذي يقود فيه انخفاض سعر صرف الجنيه في مواجهة الدولار معدل التضخم المحلي، يكون رفع الفائدة أداة كذلك لمواجهة الدولرة، أي رغبة المواطنين في شراء الدولار أملًا في الحفاظ على قيمة مدخراتهم ما يسهم في تكثيف الضغوط على العملة الصعبة. أي أن رفع سعر الفائدة قد يضرب عصفورين بحجر واحد، أو هكذا يؤمل.
عادةً ما ينصب الاهتمام في تحليل سياسة سعر الفائدة على الأثر المنتظر على الاقتصاد ككل، وهو أثر ركودي لأنه يعني رفع تكلفة الائتمان أي الاقتراض من أجل الاستهلاك أو الاستثمار، ولكن كثيرًا ما تُعتبر هذه تكلفة أو تضحية مقبولة في المدى القصير حتى يتحقق استقرار في الأسعار في المدى المتوسط.
ولكن بعيدًا عن هذه التصورات الكلية والعامة، التي تخص تقدير تأثير ارتفاع سعر الفائدة على مؤشرات اقتصادية كلية كالتضخم أو النمو أو الاستثمار، فإن النظر على نحو قطاعي عادة ما يكشف عن أبعاد وجوانب سياسية لتغيرات السياسة النقدية وخاصة سعر الفائدة.
لتبسيط الأمر، سبقت الإشارة إلى أن سعر الفائدة هو علاقة كأي سعر نسبي بين مُقرض ومقترض فمن هما هذان في الحالة المصرية؟ يمثل المودعون من القطاع العائلي المصدر الرئيسي والأكبر للودائع في الجهاز المصرفي المصري، وهؤلاء أشخاص عاديون يودعون مدخراتهم لدى البنوك في صورة ودائع وشهادات.
وتكشف بيانات البنك الدولي عن مصر في 2021 أن 385 من كل ألف مواطن بالغ في مصر يملكون حسابًا في الجهاز المصرفي، ولا يعني هذا بالضرورة أن كل حساب يملكه شخص مختلف عن الآخر لأنه كما يعرف الكثير من القراء كثيرون منا، أبناء الطبقة المتوسطة، يملكون أكثر من حساب في أكثر من بنك، وهو ما يعني أن نسبة المودعين من إجمالي السكان البالغين في مصر هي غالبًا أقل من 38%.
رفع سعر الفائدة إلى 16% أو حتى وجود شهادات مطروحة بـ25% لن يجعل بالضرورة سعر الفائدة حقيقيًا
بغض النظر عن عدد المواطنين المتعاملين مع الجهاز المصرفي، فإن رفع الفائدة هو بمثابة هدية تقدم لهم للاحتفاظ بأموالهم في البنوك أمام تراجع معدلات الفائدة الحقيقية من ناحية، وتآكل قيمة الأصول المقومة بالجنيه من ناحية أخرى.
لكن في الوقت نفسه فإن رفع سعر الفائدة إلى 16% أو حتى وجود شهادات مطروحة بـ25%، لن يجعل بالضرورة سعر الفائدة حقيقيًا، لأن معدلات التضخم الفعلية قد تكون أعلى من تلك المعلنة رسميًا، إلا أن أي زيادة في سعر الفائدة تقلل من الأُثر السلبي للتضخم من ناحية، ومن التقلص في قيمة الأصول النقدية والعائد عليها للطبقات المتوسطة والمتوسطة العليا التي تحتفظ بمدخراتها في صورة ودائع وشهادات لدى الجهاز المصرفي.
فرفع سعر الفائدة هو إذن إجراء تعويضي لأصحاب الأصول النقدية حتى لا يتجهوا للدولرة أو يقرروا إنفاق أصولهم متدهورة القيمة على السلع والخدمات بما يزيد من معدل التضخم. وهو ما يثير التساؤلات حول من يتحمل تكلفة هذه الزيادة؟
ربما تكون الإجابة المباشرة والبديهية هي أن البنوك المودع لديها النقود هي من سيتحمل هذه الزيادة في سعر الفائدة لصالح المودعين. ولكن من أين تأتي البنوك بالأموال كونها وسيطًا في نهاية الأمر بين مودع ومقترض؟ والإجابة هنا من المقترضين، فمن هم هؤلاء في الحالة المصرية؟ إن الدولة في صورة الخزانة العامة هي أكبر مقترض من الجهاز المصرفي المصري، ولقد أصبحت كذلك في 2011 ولا تزال حتى يومنا هذا بينما تراجع اقتراض القطاع الخاص من الجهاز المصرفي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 42% في 2008 إلى 26% في 2015 ليسجل 27% فقط في 2020.
وطبقًا لذات بيانات البنك الدولي فإنه في 2020 اعتمد 10% فقط من إجمالي المنشآت والشركات في مصر على الائتمان المصرفي لتمويل الاستثمار، و4.3% منها فحسب لتمويل المصروفات الجارية مقارنة بـ 24% و26% كمتوسطات للدول الواقعة ضمن الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، وهي شريحة الدخل التي تنتمي إليها مصر. وفي المقابل تضخم نصيب الدولة من الائتمان المصرفي من خلال بيع الأذون والسندات المقومة بالجنيه المصري.
من هنا يمكن أن نستنتج أن ارتفاع سعر الفائدة لن يضرب القاعدة الأكبر من منشآت وشركات القطاع الخاص لأنها لا تتعامل مع البنوك بكثافة من الأصل لتمويل مصروفاتها الجارية أو الاستثمارية، بل إن الزيادة الأكبر في التكلفة ستقع على الخزانة العامة للدولة.
بالتالي يؤدي ذلك لتضخم بنود خدمة الدين، وهي بدورها الجزء الأكبر من الإنفاق الجاري، ومن المقدر في السنة الجارية أن تمثل خدمة الدين 54% من إجمالي الإنفاق الحكومي، ومعروف أن العجز في الموازنة هو نفسه مصدر من مصادر التضخم ما يعني تناقضًا محتملًا لسياسة رفع سعر الفائدة، على الأقل في المدى المباشر.
في نهاية المطاف فالدولة لا تأتي بالأموال من تلقاء نفسها، فهي إما تفرض الضرائب، وبالتالي تكون تكلفة خدمة الدين واقعة على دافعي الضرائب، أو تأتي بالأموال عبر الاقتراض لتستمر هذه الدائرة بلا نهاية.
وإذا أضفنا إلى هذه الصورة أن ارتفاع سعر الفائدة على الجنيه المصري قد اُستخدم بعد 2016 لجذب الأموال الساخنة عن طريق عقد اتفاقات مع صناديق الاستثمار الأجنبية تمكنها من شراء أذون خزانة بالجنيه المصري، للتمتع بسعر فائدة حقيقي بالغ الارتفاع مقارنة بالأسواق العالمية، مع التزام المركزي بإعادة تحويل الأموال المستحقة للدولار، يمكن لنا أن نفهم أن قائمة المقترضين تتسع لمؤسسات مصرفية وغير مصرفية، محلية وعالمية على حد سواء بما يزيد من التزامات الدولة تجاه أصحاب الأصول النقدية على اختلافهم، على حساب القاعدة الأكبر من غير المتعاملين مع الجهاز المصرفي ودافعي الضرائب.
الخلاصة، أن تحديد سعر الفائدة قرار سياسي بقدر ما هو اقتصادي، وهي ليست بمسألة فنية بحتة لا يمسها إلا الاقتصاديون وخبراء النقود والبنوك، وإدراك أثرها لا يكون على مستوى الاقتصاد الكلي فحسب، بل يجب تتبع الآثار التفصيلية على مستوى قطاعي، لأن كل تغير في سعر الفائدة يحمل تبعات توزيعية تنقل القيمة من فئة اجتماعية لأخرى.