
صدق الصندوق وهو كذوب
ورد في حديث نبوي طويل أن الشيطان صَدَق في موقف محدد رغم أنه معروفٌ بالكذب، ومن ثم كَذُوب، وهي صيغة مبالغة تفيد بكثرة الكذب.
تذكرت الحديث عندما قرأت عن تأجيل صندوق النقد الدولي المراجعة الخامسة للقرض الذي جرى تقديمه إلى مصر بسبب ما يراه من مزاحمةٍ من الدولة لنشاط القطاع الخاص، وهو أمر تعرض لانتقادات متكررة خلال السنوات الأخيرة، وجرى تصوير الواقع في مصر وكأن أعمال الطرق والكباري والمدن الجديدة أكلت نصيب الشركات الخاصة من كعكة الاقتصاد.
لكن الواقع يقول إن استثمارات كل من القطاع الخاص والدولة كانت ضعيفةً للغاية خلال الفترة الأخيرة. المفارقة أن ضَعف كليهما قد يكون سببه "إصلاحات الصندوق" نفسها.
هل فعلًا يعاني القطاع الخاص من المزاحمة؟
لا شك أن أي ضغوط تقع على القطاع الخاص تمثل فعلًا مشكلة، وذلك لأن نصيبه في الناتج المحلي الإجمالي يقدر بنحو 70% و80% من التشغيل، ما يعني ببساطة أن مزاحمته تعني خنق القسم الأكبر من الاقتصاد المصري.
ويبدو الصندوق صادقًا أيضًا وهو يتحدث عن تراجع مشاركة القطاع الخاص، إذا ما قسناها بالتكوين الرأسمالي الإجمالي كنسبة من الناتج المحلي (أي نسبة الاستثمار في رأس المال الثابت مثل أدوات الإنتاج من إجمالي ما ننتجه سنويًا) سنجدها وصلت لأدنى مستوى لها في 2024 مقارنةً بأي فترة في تاريخ مصر منذ 1980، إذ سجَّل نصيب القطاع الخاص 5% من الناتج في العام الماضي مقارنة بمتوسط 31% للدول متوسطة الدخل و26% لجنوب آسيا و35% لدول شرق آسيا (باستبعاد الدول ذات الدخل المرتفع).
اضطراب أسعار الصرف وتذبذب معدلات التضخم يصعبان مهمة اتخاذ قرارات اقتصادية مستقبلية
أخذت مساهمة القطاع الخاص منحنى هبوطيًّا في السنوات العشر الماضية، إذ تراجعت من 7.26% في 2014، و9.30% في 2019 إلى 6.55% وصولًا إلى 5% في 2023 و2024 على التوالي.
لكن الأمر لا يقتصر على القطاع الخاص، ففي الفترة ما بين 2014 و2024 بلغ متوسط التكوين الرأسمالي الإجمالي (القطاع الخاص+الدولة) 15.65%، وهي نسبة هزيلة للغاية مقارنة بغالب الدول ذات الدخل المتوسط، وهي أقل بكثير حتى عن المتوسط المسجل في عهد حكومة نظيف (2004-2010)، الذي كان 19.19%.
وإذا نظرنا لمتوسط التكوين الرأسمالي الإجمالي في الفترة ما بين 1982 و2010، سنجده أعلى من النسبة الحالية، أي أننا نعيش فترةً هي الأقل في معدلات الاستثمار عامةً منذ عقود!
ولكن ما السبب؟
لكنَّ صِدق رواية الصندوق يتوقف هنا، لأن الصندوق يقدم لنا تصورًا يستند إلى أن مشكلة القطاع الخاص المصري وعزوفه عن الاستثمار (أو عدم قدرته) أتت بالأساس من مزاحمة الدولة له من خلال إنفاقها الاستثماري، وهو رغم انعكاسه في أعين الكثيرين من خلال كثافة إنشاء الكباري والطرق الجديدة ومشروعات البناء والإسكان فإنه إنفاق لا يزال هزيلًا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
يغفل الصندوق أو يتغافل عن عوامل أخرى كانت ولا تزال مؤثرة في استثمار القطاع الخاص، على رأسها الاضطراب الشديد في مؤشرات الاقتصاد الكلي، سواء من حيث ارتفاع معدلات التضخم أو الانخفاضات الكبرى المتتالية للجنيه المصري في مواجهة الدولار الأمريكي.
ولعل الأهم هو ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، وهو الإجراء الذي طالما دفع به صندوق النقد الدولي نفسه لمكافحة التضخم من جهة، ولتسهيل اجتذاب مصر للأموال الساخنة من جهة أخرى باعتبار أن برامج الصندوق مع الحكومة المصرية منذ 2016 وإلى اليوم ما هي إلا عبارة عن تيسير الطريق نحو المزيد من الاقتراض الخارجي.
لذا كلما كرَّر الصندوق حديثة عن "المزاحمة" وددت لو سألته هل يساعد الارتفاع الشديد والمزمن في أسعار الفائدة على الاستثمار؟
فلنتحدث عن التعويم والفائدة
لا يعني ارتفاع أسعار الفائدة سوى ارتفاع تكلفة الائتمان، بالتالي صعوبة الإنفاق على الاستهلاك أو الاستثمار، والأمر ذاته ينسحب على اضطراب أسعار الصرف بما يعنيه من اضطراب النفاذ إلى الواردات، الأهم من هذا وذاك أن الاضطراب في أسعار الصرف وما يتلوه أو يتبعه من اضطراب في معدلات التضخم يجعل من الصعب للغاية اتخاذ قرارات مستقبلية، وما الاستثمار إلا إنفاق في الحاضر ابتغاء عائد في المستقبل.
لعل هذا قد يسهم في فهم لماذا كان معدل نمو التكوين الرأسمالي (أي الإنفاق على الاستثمار الرأسمالي) في العقد الماضي (2014-2024) لا يعدو 3.44% متوسطًا سنويًّا مقارنة بـ17.3% في ظل حكومة نظيف (2004-2010)!
نعم قد تكون الدولة أو جهات فيها تزاحم القطاع الخاص، لكن لا يوجد أساس منطقي لاعتبار أن هذا هو السبب الرئيسي وراء هذا - ناهيك عن أن يكون الوحيد - مع تجاهل الظرف الأوسع للاضطراب الاقتصادي الكلي الذي في أسوأ الأحوال قد نتج عن روشتات الصندوق المتضاربة في مكوناتها.
تأثير هذه الروشتات لم يقتصر على القطاع الخاص فقط، لكنه تسبب أيضًا في ارتفاع معدل الفقر وتراجع الإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية كتجلٍ رئيسي من التقشف المفروض من الصندوق.
كما أنه مثيرٌ جدًا للانتباه أن "مزاحمة" الدولة للقطاع الخاص في نظر الصندوق لا تشمل المزاحمة على تمويل البنوك، فالدولة تستنزف الحصة الأكبر من أموال المصارف لتمويل الدين العام، وزادت هذه المزاحمة خلال السنوات الأخيرة مع ارتفاع خدمة الدين الحكومي إلى البند الأكبر في الموازنة العامة نتيجة الصعود المستمر في أسعار الفائدة.
بالطبع قد لا يرى الصندوق هذه مشكلة مع احتفائه المستمر بتوليد فائض أولي في الموازنة، وهي الكلمة الشيك التي تفيد إعادة تخصيص الموارد من شتى جوانب الإنفاق الحكومي لصالح سداد أقساط وفوائد الدين!
الخلاصة، قد يكون الصندوق على حق في رصده لمشكلة تراجع استثمار القطاع الخاص في السنوات الأخيرة، لكن كذب الصندوق في عزو هذا التراجع فحسب إلى "المزاحمة"، متجاهلًا الظروف الاقتصادية الكلية التي أسهم هو نفسه في خلقها، أو على الأقل فشل في علاجها مع تدخلاته المستمرة في العشر سنوات الأخيرة.