قبل أيامٍ، سجلت أسعار السندات المصرية ارتفاعًا هو الأفضل منذ عامين، ما يعني أن المستثمرين الأجانب أصبحوا أكثر إقبالًا على شراء السندات المصرية في الأسواق الخارجية التي تتداول أوراق ديون طرحتها الحكومة المصرية منذ سنوات.
تحسُّن شهية المستثمرين تجاه الديون المصرية لم يأتِ بسبب نجاح الإصلاحات الاقتصادية في تعزيز إيراداتنا من النقد الأجنبي، بالعكس فقد أُعلن قبل أيام عن انخفاض الأصول الأجنبية للبنوك العاملة في السوق المصرية والبنك المركزي بنحو 27% في أغسطس/آب مقارنة بالشهر السابق، لكن الانتعاشة حدثت وفق وكالة بلومبرج الأمريكية بسبب زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وارتباطها بتوقعات لإبرام اتفاقيات استثمار ضخمة في المناطق الساحلية لمصر على غرار الاتفاق الإماراتي في رأس الحكمة.
يتناقض هذا الوضع مع غالبية ما تذهب إليه الدراسات المشغولة بالتنبوء بقدرة الدول النامية على الاستدانة من الخارج التي عادة ما تربط ثقة المستثمرين الدوليين بالنجاح الاقتصادي المحلي، أو تغيُّر أسعار الفائدة العالمية، وليس مدى القرب أو البعد السياسي من دولة نفطية.
لن نجد نظريات تساعدنا على التنبوء بمستقبل الجنيه ووفرة النقد الأجنبي في أدبيات أسواق المال التقليدية، ولكن ربما نحتاج لأن ننقب في نظريات الاقتصاد السياسي التي تتحدث عن ريعية الدولة، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة أننا نوشك على الدخول في حقبة جديدة من الريعية، يمكن أن نطلق عليها مجازًا الريع الساحلي.
أهمية الوعود السعودية حاليًا
تعتبر الكثير من التحليلات أن صفقة رأس الحكمة بمثابة النهاية لأزمة شح النقد الأجنبي التي تصاعدت خلال العامين الأخيرين، لكن عمليًا لا يزال البنك المركزي يفرض العديد من القيود غير المعلنة على الاستيراد، ما يوحي بأننا لم نبرح مربع الأزمة بعد وإن كانت أقل حدة.
وقد استشعرنا بشكل واضح مخاطر العودة لأجواء أزمة الدولار في أغسطس حين اقترب سعر الدولار الرسمي من 50 جنيهًا بدفع من خروج مفاجئ للأجانب من استثمارات الدين لأسباب تتعلق بالاقتصاد الأمريكي، ما يعرف بـأحداث الاثنين الأسود.
تبقى إيرادات رأس الحكمة رغم ضخامتها تدفقات استثنائية لا تضمن استدامة الاستقرار الاقتصادي
كان الاثنين الأسود بمثابة جرس إنذار لإمكانية تكرار صدمة 2022، حين خرج أكثر من 20 مليار دولار دفعة واحدة من سوق الديون المحلية، وكان أيضًا بمثابة تأكيد على أن تحذيرات المحللين من أن إيرادات رأس الحكمة، على الرغم من ضخامتها، هي تدفقات استثنائية لا تضمن استدامة الاستقرار الاقتصادي.
في مواجهة ذلك، كانت الأنباء عن العلاقات المصرية السعودية بمثابة رسالة للسوق بأن المزيد من الإيرادات الاستثنائية في الطريق، ففي أغسطس زار وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح مصر، وتحدث عن فكرة تحويل ودائع المملكة لاستثمارات، في صفقة مشابهة لما أبرمته مصر مع الإمارات.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي زار رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبوليى السعودية وهناك استقبله ولي العهد بالحديث عن استثمارات مرتقبة في مصر بخمسة مليارات دولار، ما أحيا التوقعات بإبرام صفقة رأس جميلة التي ذاع الحديث عنها بعد الصفقة الإماراتية، بجانب صفقة رأس بناس التي ذاع صيتها في سبتمبر الماضي.
امتصت هذه الأخبار الأثر السلبي لأحداث الاثنين الأسود، وعاد سعر صرف الدولار للاستقرار في السوق المصرية، وهكذا أصبح ترقب إتمام الاتفاقات السعودية بمثابة عامل طمأنة لتجنب مخاطر الخروج المفاجئ للأجانب من سوق الديون المصرية.
يختلف ذلك عن الآليات المعتادة التي تستخدمها الدول لتحسين الثقة في أدواتها المالية، ومن أهمها بالطبع تحسين التصنيف الائتماني للديون السيادية.
كيف يرانا العالم وكيف نرى أنفسنا
على عكس حالة الابتهاج التي تبدو على المسؤولين المصريين عند لقائهم بقادة ممالك النفط، يبدو وزراء المالية في حالة امتعاض من تعليقات وكالات التصنيف السلبية على الاقتصاد المصري، ما يوحي بأن مسؤولينا أكثر قدرة على التفاهم مع الخليج من السوق العالمية.
منذ بدء التصنيف الائتماني لمصر قبل نحو ثلاثة عقود، لم تضع أي من الوكالات الثلاث الأشهر، موديز وستاندرد آند بورز وفيتش، مصر، في تصنيف الاستثمارات الآمنة، أو ما يعرف بدرجة الاستثمار Investment Grade، ما جعل وزارة المالية في حاجة دائمة لتقديم فائدة مرتفعة على ديونها المقومة بالجنيه أو الدولار لتعويض المستثمرين عن هذه المخاطرة.
العائد على الاستدانة صار عبئًا ثقيلًا على الخزانة المصرية، خاصة خلال أزمة الدولار الأخيرة، ففي آخر طرح دولي لسندات مصرية مقومة بالدولار في السوق العالمية، وهو طرح الصكوك السيادية في فبراير/شباط الماضي، كان العائد عليه 10.8%، أي أن تقدير الأجانب وقتها للمخاطر المصرية يساوي +6% تقريبًا فوق الفائدة الأمريكية، لذلك لم نطرق أسواق السندات الدولارية من حينها، وما زالت هذه الخطوة مستبعدة حتى يناير/كانون الثاني المقبل.
قد لا نرى أنفسنا بهذا السوء، يظهر ذلك من تقديرات بنكي مصر والأهلي لفائدة الشهادات الدولارية، التي تزيد بما يقرب من 2% فقط عن الفائدة الأمريكية، لكن المستثمرين الدوليين لا يكترثون بتقديرنا لأنفسنا، بقدر ما يهتمون بتصنيفنا الائتماني الذي تدهور بشكل واضح منذ 2011 وما زال عاجزًا عن العودة إلى مستواه السابق.
أمام عدم قدرتنا على اتباع الطريقة التقليدية لتقليل رؤية الأجانب لمخاطر ديوننا، تبدو العلاقات الودية مع الخليج أكثر تأثيرًا، ليس ذلك أمرًا مستغربًا بالنظر لضخامة الأثر المالي لهذه العلاقات، فقد قفزت رأس الحكمة بإجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر إلى مستويات غير مسبوقة عند 46 مليار دولار.
نستطيع أن نتبين وزن هذا الرقم إذا علمنا أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العام المالي الماضي مثلت أكثر من ضعف عجز الميزان الجاري، بتعبير آخر فهي كانت كافية في هذه السنة لمحو كل العجز الناتج عن معاملات الاقتصاد الحقيقي، من واردات وخسائر قناة السويس إضافة إلى 20 مليار دولار فائض إضافي فوق هذا العجز.
تصنيف رأس الحكمة تحت بند "الاستثمار الأجنبي المباشر" يعطي مظهرًا خادعًا، صحيح أنه استثمار في المدى الطويل لكنه حمل الكثير من ملامح جدولة الديون، حيث تضمن إسقاط جزء من ديوننا الخارجية (ودائع الإمارات لدى المركزي) وتحويل مبلغ دولاري ثانٍ لوزارة المالية (ستتولى الأخيرة تحويله من دولار إلى جنيه لدى المركزي) في مقابل الشراكة على أرض سياحية، وذلك في مقابل منح الأرض للانتفاع بها، ما جعلها تشبه جزئيًا حالة استخدام الريع لسداد الديون.
ملامح الدولة الريعية
من أشهر الأعمال التي تناولت الأثر السياسي والاجتماعي لاعتماد الدولة على الريع هو الفصل الذي شارك به الاقتصادي حازم الببلاوي في كتاب صادر عن دار روتلدج البريطانية عام 1987*، استدعى مصطلح الريع من اقتصاد آدم سميث التقليدي، عندما كان يتحدث عن ريع الأراضي الزراعية، ليسقطه على الشكل الجديد لريع الخليج بعد طفرة أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي.
المنح الخليجية بمثابة ريع للنظام السياسي أشبه بالمكافأة التي يحصل عليها نظير دوره في السياسة الإقليمية
يفرق الببلاوي بين "الدخل" الناتج عن ربح رأسمالي، أي نشاط إنتاجي مثل بناء مصنع، وبين الريع الذي يعد مكافأة للمالك على حقوق ملكيته. وكان الاقتصاديون في هذه الحقبة مشغولين بدور الريع النفطي في إعاقة التنوع الاقتصادي في الخليج (أي عدم الاعتماد المفرط على البترول) لكن أعمالًا أحدث تناولت تنوع الصناديق الخليجية السيادية في استثماراتها الدولية لتعويض ضعف التنوع الداخلي.
وحاول أستاذ العلوم السياسية سامر سليمان أن يستدعي مصطلح الدولة الريعية من الببلاوي في بداية الألفية الجديدة**، ليتحدث عن أزمة تناقص مصادر ريع الدولة المصرية، والتي كان من أبرزها انقطاع المنح الخليجية في هذا الوقت بعد طفرة كبيرة في السبعينيات وبداية الثمانينيات.
اعتبر سليمان أن المنح الخارجية بمثابة ريع للنظام السياسي أشبه بالمكافأة التي يحصل عليها نظير دوره أو أهميته في السياسة الإقليمية. يمكننا أن نستدعي هذا المفهوم لواقعنا المعاصر مع اختلاف أننا نعيش حقبة زيادة وليس نقصان الدور الريعي.
يمكن أن نعتبر عودة الريع الخارجي لاكتساب وزن كبير في الاقتصاد وجه آخر لعملة عجزنا عن الاعتماد على أسواق المال الدولية خلال العامين الأخيرين، خاصة مع الارتفاع المتسارع للفائدة الأمريكية، فما هو الأثر لهذه العودة؟
استثمارات نعم مِنَح لا
عبرت قيادات الخليج أكثر من مرة عن رغبتها في تحويل نمط المساندة الذي تقدمه للاقتصاد المصري من المنح إلى الاستثمارات، وقد حاولت الحكومة ترجمة هذا المفهوم خلال 2022 من خلال طرح حصص حكومية في شركات تحقق أرباحًا قوية من التصدير، وهي شركات كثيفة الاستهلاك للطاقة ما يجعلها صورة معدلة قليلًا من صادرات الريع النفطي.
تعثرت الخصخصة في 2023 بسبب اشتداد أزمة الدولار وقتها، التي رفعت من مخاطر الاقتصاد بأكمله وخلقت خلافًا على تقييم الأصول الإنتاجية أو المؤسسات المالية مثل البنوك.
في مقابل قتامة المشهد في بداية هذا العام، الذي كان ينذر بتعثر في سداد الدين الخارجي أو السقوط في دائرة من التضخم المفرط، بدا أن الاستثمارات الحكومية الضخمة خلال العقد الأخير التي ركزت على توسيع شبكة النقل، خاصة مشروع القطار السريع خط مطروح العين السخنة، يمكن أن تساهم في زيادة أسعار الأراضي الساحلية.
تحاول الحكومة الفكاك من دائرة الريع الساحلي عبر التأكيد على أن هذه المشروعات ستحول سواحل مصر في المدى الطويل إلى مقصد للسياحة الأجنبية، أي مصدر مستدام للنقد الأجنبي، وبذلك تتحول تلك الصفقات من مجرد بيع أرضٍ إلى شراكة استثمارية، لكن من غير الواضح إلى أي مدى لدينا قابلية للتوسع في جذب الأجانب لسواحلنا، وما هي مخاطر أن يسهم التوالي السريع في هذا النمط من تخصيص الأراضي في فائض من المشروعات السياحية تمثل عبئًا وليس فرصة للربح.
والمسار الثاني للفكاك هو محاولات الحكومة لطرح أصول أخرى غير السواحل للبيع أو الشراكة في وقت يتسم بتراجع مخاطر تذبذب العملة، ما قد يجنبنا الخلاف على تقييم الأصول، مثل التحضير لطرح حصة البنك المركزي في المصرف المتحد، لكن هذا الطريق ليس ممهدًا بالكامل، بحسب مصدر مطلع على ملف الطروحات "برنامج الخصخصة متباطئ بسبب عدم ملائمة عروض الشراء في العديد من الصفقات خلال الوقت الراهن".
وأخيرًا الرغبة في تعميق الصناعة البادية في انتقادات رئيس الجمهورية لاعتمادنا على استيراد منتجات تتسم ببساطة صناعاتها، مثل ورق الفويل، لكن لا توجد استراتيجية واضحة للمضي بخطوات كبيرة في هذا المسار.
مشكلة السقوط في دائرة الريع الساحلي تكمن في أن صفقات بيع الأراضي تغدو عاملًا مغريًا لتوجيه المزيد من مشروعات البنية الأساسية نحو الأعمال التي ترفع من سعر الأرض وليس التنمية، ناهيك عن مخاطر انقطاع هذا الريع لأي سبب يجعل المستثمر الخليجي غير راغب في شراء أراضٍ جديدة.
والأهم أن تصبح دائرة ضيقة للغاية من العلاقات هي المؤثر الأكبر على الاقتصاد، إذ يتواصل مسؤولون مصريون مع أقرانهم من الخليج لعرض قطعة أرض ساحلية، تستهدف بالأساس جمهورًا من السياح الأجانب، وتستبعد باقي الأطراف بدايةً من مجتمع الأعمال المحلي إلى رجل الشارع العادي وتجعلها عناصر غير فاعلة ومجرد متلقٍ لنتائج ما يدور من أحاديث في الغرف المغلقة بدلًا من أن تكون شريكًا أو رقيبًا، وكلها معطيات تقودنا إلى مصير مجهول.