"الدرس الذي تعلمناه هو أنك لا يمكنك الاعتماد على هذا النوع من الاستثمار" تصريح شهير لوزير المالية المصري، محمد معيط، عن استثمارات الأجانب في سوق الديون المحلية، قاله عام 2022 الذي شهد خروج تدفقات ضخمة للأجانب من هذه السوق أدت لتدهور سعر صرف العملة المحلية.
تتجلى مخاطر هذه الاستثمارات، حسب تصريح معيط، في أن المستثمر "يأتي فقط للحصول على عوائد مرتفعة، وما إن تحدث صدمة فإنه يغادر البلاد"، واستطاعت مصر تجاوز هذه الأزمة بثمن باهظ تمثل في ارتفاع سعر الصرف الرسمي بأكثر من 200% منذ بداية الأزمة، ليصل حاليًا لـ48.4 جنيه.
تعهدات تمويلية ضخمة من مؤسسات ودول صديقة لمصر، اقتربت من 60 مليار دولار، ساعدت على استقرار سعر الصرف، لكن ما إن تحسنت النظرة للجنيه حتى عادت الصناديق الأجنبية الكبرى لسوق الدين المحلي، التي باتت تُعرف شعبيًا بـ"الاستثمارات الساخنة"، لأن استقرارها غير مضمون.
يطرح هذا التقرير على ثلاثة خبراء الأسئلة الأكثر إلحاحًا بعد انفراج الأزمة، هل نطمئن لسماع أخبار نشاط الأجانب في سوق الدين المحلية، أم أن مستقبل الجنيه في خطر ؟ هل نعيد نفس أخطاء الماضي أم أننا على مسار الاستقرار؟
كم يبلغ حجم الأموال الساخنة بعد التعويم؟
حسب الاقتصادي في مؤسسة بنك أوف أمريكا، جان ميشيل صليبا، فإن صافي الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين المطروحة محليًا بلغ نحو 12 مليار دولار خلال مارس/آذار الماضي، وفقًا لبيانات حكومية قال إنه اطلع عليها في مقابلة مع المنصة.
وتمثل هذه التدفقات طفرةً كبيرةً في استثمارات الأجانب المالية في مصر، حيث تشير آخر البيانات المتاحة من البنك المركزي عن ميزان المدفوعات خلال النصف الثاني من العام الماضي إلى أن صافي إجمالي استثمارات الأجانب في محفظة الأوراق المالية في هذه الفترة لم يتجاوز الـ252.8 مليون دولار.
هذه الزيادة الهائلة للاستثمارات الساخنة ليست الأولى من نوعها على أي حال، إذ أشار وزير المالية في تصريحه قبل عامين إلى موجتين سابقتين من أزمات خروج الأجانب المفاجئ من سوق الدين المصرية، في 2018 نتيجة تغير ميل المستثمرين نحو تحمل مخاطر الأسواق الناشئة، وفي 2020 بسبب وباء كوفيد، بجانب أزمة 2022 الناتجة عن الارتفاع المفاجئ لأسعار الفائدة الأمريكية.
وقادت الموجة الأخيرة من خروج الأجانب إلى تسجيل عجز في المحفظة بنحو 21 مليار دولار خلال السنة المالية 2021-2022، ما أدى لاستنزاف جانب كبير من الأرصدة الدولارية في القطاع المصرفي، ومع ندرة الدولار ازداد الإقبال على سوق الصرف الموازية ما قاد لتدهور سعر الصرف الرسمي منذ هذا التاريخ.
ماذا عن مخاطر سعر الصرف؟
رغم العودة القوية للأموال الساخنة، يرى خبيران تحدثت لهما المنصة في مؤسستي بنك أوف أمريكا وبي إن بي باريبا إنه لا توجد مخاطر كبيرة على استقرار سعر الصرف، على الأقل في المدى القصير، بفضل سخاء تعهدات التمويل من المانحين الدوليين، التي تعزز من الثقة في قوة الجنيه وتجعلنا أقل تأثرًا بتحركات الأموال الساخنة.
وفي فبراير/شباط أُعلن عن شراكة بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وصندوق أبوظبي السيادي لضخ استثمارات إماراتية في مدينة رأس الحكمة، اعتبرتها الحكومة أضخم استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر الحديث، تلاها خلال مارس الإعلان عن حزم تمويلية من صندوق النقد والبنك الدوليين والاتحاد الأوروبي، ما جعل من شهر مارس بمثابة تاريخ انفراج أزمة الدولار.
"أعتقد أن مخاطر استقرار سعر الصرف محدودة في الأجل القصير، تعهدات التمويل الثنائية والمتعددة الأطراف ستساهم في تغطية احتياجات التمويل الأجنبي للبلاد بسهولة" قال الاقتصادي في مؤسسة بي إن بي باريبا، باسكال دوفو، لـ المنصة.
ويضيف دوفو "الاحتياج لتدفقات من أسواق المال الدولية، سواء في صورة نشاط Carry Trade أو طرح سندات يورو بوند، ليس قويًا في الأجل القصير".
ارتفعت مستويات التضخم لمستويات قياسية خلال العام الماضي مع تجاوز مستوى 40%
والمقصود بنشاط الـ Carry Trade هو استثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية، للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة، على غرار استثماراتهم في مارس، مع وصول العائد على أذون الخزانة أجل 364 يومًا إلى ما يقرب من 30% خلال هذا الشهر، وتجاوزه لهذا المستوى خلال أحد العطاءات.
ولم تطرح مصر سندات اليورو بوند في السوق الدولية منذ 2021، بسبب توقعات العائد المرتفع المطلوب من المستثمرين على هذه السندات مع تفاقم مخاطر الوضع المالي في مصر خلال الأزمة الماضية، وفي فبراير الماضي قال وزير المالية إن من المستبعد إصدار هذه السندات خلال العام المالي الذي ينتهي في يونيو/حزيران المقبل.
ويشير الاقتصادي في بنك أوف أمريكا، جان ميشيل صليبا، إلى أن المخاطر الأقل احتمالية على سعر الصرف في مصر تتعلق بخروج الأجانب من سوق الدين المصري لأسباب مرتبطة بالسوق العالمية، مثل حدوث ركود أو خسائر في الخارج.
التضخم الخطر الأكبر
على الرغم من أن تعليقات المحللين السابقين لا ترجح مخاطرة كبيرة على سعر الصرف في الأجل القريب، لكنهما اتفقا على أن المخاطر، إن وجدت، فهي ستأتي بالأساس من التضخم الذي يقلل من جاذبية أدوات الدين المقومة بالعملة المحلية.
ويتوقع صليبا أن تظل معدلات التضخم في مصر فوق مستوى 20% خلال بقية العام، مشيرًا إلى أن "استمرار التضخم عند هذه المستويات لعدة سنوات قد يؤدي لتآكل تنافسية العملة المحلية والحد من العوائد على المستثمرين في سوق الديون المحلية".
وارتفعت مستويات التضخم لمستويات قياسية خلال العام الماضي، بلغت ذروتها في سبتمبر/أيلول الماضي مع تجاوز مستوى 40%، واتساع نطاق تعامل المنتجين بالسعر الموازي للدولار الذي كان يتصاعد بوتيرة متسارعة.
ومارست الحكومة ضغوطًا على المنتجين لخفض الأسعار، بعد إتاحة الدولار منذ مارس الماضي، ما أدى لانخفاض التضخم في هذا الشهر إلى 33.1%.
"قد يكون هناك ضغط من السوق على العملة المحلية لعدة أسباب، منها معدلات التضخم إذا فاقت التوقعات (متوسط 35% خلال العام المالي 2024) والتي قد ترتبط بعوامل محلية أو خارجية مثل المخاطر الجيوسياسية" يقول دوفو.
العودة القوية لاستثمارات الأجانب في أدوات الدين أو تمويلات من مؤسسات ودول صديقة، استدعت إشارة صندوق النقد الدولي في بيانه الأخير عن برنامج الإصلاح الذي يموله في مصر بقيمة 8 مليارات دولار إلى ضرورة استخدام الأموال الجديدة بـ"حكمة"، حتى لا يعود الوضع المالي في البلاد للتدهور.
ويستبعد دوفو وجود مخاوف قوية في الوقت الراهن بهذا الشأن "أعتقد أن هناك مؤشرات على أن الحكومة تتصرف بشكل حكيم، مثل انخفاض صافي الالتزامات الأجنبية على البنوك والإفراجات المتصاعدة عن البضائع والإعلان عن الإدارة الحريصة لتمويل مشروعات البنية الأساسية الكبيرة".
وتعكس المؤشرات الأخيرة توجيه جزء من الحصيلة الأجنبية للقطاع المصرفي، ما أدى لانخفاض عجز صافي الأصول الأجنبية بهذا القطاع بقيمة 217.2 مليار جنيه، كما تم الإفراج عن بضائع بقيمة 8 مليارات دولار منذ مارس الماضي.
لكن الباحث في وحدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، محمد رمضان، يرى مؤشرات قد تقود للانحراف عن هذا المسار "الحكيم".
يقول رمضان لـ المنصة "يمكننا أن نرى بوضوح عودة الحديث عن مشروعات كبرى جديدة، سواء توسعة قناة السويس القائمة، أو المرحلة الثانية من العاصمة الإدراية، فيما يبدو أنه استمرار لنفس المسار في الإنفاق بكثافة على مشروعات البنية التحتية الكبرى".
وفي محاولة لطمأنة الرأي العام، صرح وزير المالية في وقت سابق بأن نصف إيرادات صفقة "رأس الحكمة" سيتم توجيهها لتغطية نفقات الموازنة العامة. ولترشيد الإنفاق على مشروعات الدولة الكبرى اتفقت المالية أيضًا مع صندوق النقد على وضع سقف لاستثمارات كافة الجهات التابعة للدولة.
لكن حجم الأموال التي دخلت الموازنة بالفعل من الصفقة مع الإمارات حتى الآن لم تتجاوز 179 مليار جنيه، وهو ما يمثل أقلّ من 12% من إيرادات الصفقة التي تبلغ 1.6 تريليون جنيه، عند تقديرها بالسعر الرسمي.
هل من مسار بديل؟
بينما يبدو حديث محللي بنك أوف أمريكا وبي إن بي باريبا أكثر تماهيًا مع تصورات صندوق النقد عن السيناريو المقبل لمصر، تبدو تصورات الباحث الحقوقي أكثر تشككًا في مسار الصندوق.
يرى رمضان أن وزارة المالية لا تزال تعتمد بكثافة على الأموال الساخنة، وبالقياس على تجارب السنوات الماضية، فالخطر لا يزال قائمًا، "طرح البنك المركزي لعدد كبير من عطاءات أذون الخزانة، وشراء الأجانب نسبة كبيرة من تلك العطاءات، مؤشر خطير على الاستمرار في الاعتماد على الأموال الساخنة" يقول رمضان.
ويعتبر رمضان أن "أصل الأزمة الحالية هي أزمة مديونية"، وبالتالي لا يمكن أن نعتبر مؤشرات من قبيل بيع الحكومة لأدوات دين جديدة دليلًا على الخروج من هذه الأزمة، ولكن مسار التعافي الحقيقي هو خلق إيرادات من نشاط إنتاجي.