DALL.E
الديون الأمريكية في عهد ترامب

الديون الأمريكية أكثر خطورةً في عهد ترامب

منشور الأحد 1 يونيو 2025

كأحد الحاصلين على الدكتوراه في العلوم السياسية، أجد نفسي بصورة شبه دائمة في حاجة للتطفل على مجالات أخرى لمحاولة فهم ظواهر من المفترض أن تقع في صميم تخصصي. فتارة يقودني اهتمامي بالاقتصاد السياسي الدولي إلى دراسات التمويل، وتارة أخرى يأخذني حديث التجارة العالمية إلى البحث في تقنيات تصنيع الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية وأشباه الموصلات.

واليوم أجد نفسي في متابعة لاهثة وراء تحليلات مالية حول أسواق السندات الأمريكية، وما يبدو تراجعًا من صناديق الاستثمار العالمية عن الاستثمار في الديون الحكومية الأمريكية، الذي يتزامن مع خطوة تاريخية من موديز بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.

حالة الاضطراب في أسواق المال المقومة بالدولار قضيةٌ لا يمكن أن تكون أمريكية فحسب للمفارقة، إذ تؤثر في اقتصادات العالم بأسره بما فيها اقتصادنا المصري بحكم التشابك المالي والنقدي الذي ينبع بالأساس من أن الدولار  هو العملة الرئيسية الحاكمة للتعاملات الدولية وللأصول المالية.

مهمتي اليوم هي أقرب إلى الترجمة بنقل نقاش فني في دوائر التحليل المالي إلى جمهور أوسع من المهتمين والمهمومين بمصير الاقتصاد العالمي، ومصيرنا معه.

الأغنى هم الأكثر استدانة 

كنقطة انطلاق للنقاش، علينا أن نبدد في البداية التصور الشائع عن أن الدول الأفقر هي صاحبة المديونيات الأكبر في الاقتصاد العالمي. ما يساهم في نشر هذا الاعتقاد هو الاعتماد على قياس الدين كنسبة من حجم الاقتصاد، وإذا أخذنا بهذا المقياس سنجد اقتصادات شديدة الضآلة تنافس السبعة الكبار على المراكز الأولى عالميًا في الاستدانة.

في تقديرات 2025 يتربع السودان على قمة الاقتصادات ذات المديونية العامة الأكبر في العالم بأسره بواقع 252% من الناتج المحلي، بمعنى أن إجمالي القيمة الدولارية لديون الحكومة السودانية تبلغ مرتين ونصف الناتج المحلي الإجمالي للسودان.

يلي السودان في تلك القائمة اليابان بنسبة 235%، ثم سنغافورة بنسبة 175%، وتأتي الولايات المتحدة ضمن أكثر الدول استدانةً بنسبة 123% من الناتج المحلي الإجمالي (وهو الاقتصاد الأكبر في العالم). فهل يعني هذا أن "مفيش حد أحسن من حد"، وأن السودان كاليابان، ولبنان كاليونان، وزيد مثل عبيد؟

ما ساعد بلدانًا مثل الولايات المتحدة على التوسع في الاستدانة أنها بلاد غنية تتمتع بعملات قوية

الإجابة القصيرة هي "بالطبع لا"، فإن ضخامة نسبة الدين للناتج في دول مثل السودان ولبنان تعزى بالأساس إلى ضآلة إنتاجها، وهو أمر يمكن تفهمه في إطار مآسي الصراعات الدولية والمحلية التي تعاني منها هذه البلدان، بينما على النقيض فإن نسبة الدين مرتفعة في أمريكا واليابان رغم أنها منسوبة لاقتصادات ضخمة، ما يعني أن القيم المطلقة للدين في هذه الدول مكونة من أصفار كثيرة لدرجة قد نشعر بالإعياء إذا حاولنا إحصاءها.

ما ساعد بلدانًا مثل الولايات المتحدة واليابان وكثير من الدول الأوروبية الغنية على التوسع في الاستدانة خلال العقود الماضية بهذا الشكل أنها بلاد غنية تتمتع بعملات قوية، ما ينعكس على شروط الاستدانة بالإيجاب ممثلةً في انخفاض أسعار الفائدة وارتفاع تصنيفها الائتماني، وهو نقيض وضع الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل التي تعاني من ارتفاع مديونياتها العامة.

يتحقق هذا تمامًا في الحالة الأمريكية في الأربعين سنة الماضية، فمن ناحية ارتفع الدين الفدرالي الأمريكي من 3.41 مليار دولار في 1980 إلى 35.5 مليار في 2024 بمقدار زيادة 1000%، أي أنه تضاعف عشر مرات في ثلاثين سنة كقيمة مطلقة! (مع العلم أنها عقود من التضخم المنخفض)، أما كنسبة من الناتج فقد ارتفع من 33% إلى 123% في الفترة نفسها، أي بمقدار 370%.

ورغم ذلك تمتعت الحكومة الفدرالية الأمريكية بأفضل درجات التصنيف الائتماني طيلة الفترة، باستثناءات قليلة، ما سمح للحكومة بالتوسع في الاستدانة طالما أن أسواق السندات والأذون الأمريكية هي الحصن الحصين للاستثمار الآمن، لا داخل الولايات المتحدة فحسب بل العالم بأسره، إذ يملك المستثمرون الأجانب رُبع رصيد الدين الحكومي الأمريكي.

أين تكمن المشكلة إذن؟

ببساطة شديدة يبدو أن إجراءات وسياسات ترامب شديدة التقلب في الشهور الثلاثة الأولى من رئاسته، كشفت عن أوجه ضعف في الاقتصاد الأمريكي، خاصة في قدرة الحكومة الفدرالية المستقبلية على الوفاء بالتزاماتها مع تضخم الدين العام لهذه المستويات القياسية، وقد انعكس ذلك في الارتفاعات المتتالية لسعر الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية، التي تعد انعكاسًا لتقدير المستثمرين لمخاطر إقراض الحكومة الفدرالية في المدى البعيد فإذا هي تقترب من أعلى مستوياتها في عشرين سنة.

ولكن ما الجديد؟ فقد سبق القول بأن التصنيف الائتماني للحكومة الفدرالية طالما كان قويًا على مدى عقود رغم بعض التقلبات، فلماذا القلق هذه المرة؟

الجديد أولًا أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بالتصنيف الحصين الذي ارتبط بها لعقود، فقد بدأ تفكك هذا الحصن ببطء في 2011 عندما خفضت ستاندرد آند بورز تصنيف الديون الأمريكية لأول مرة تحت الدرجة الأعلى في هذا المجال AAA، تلتها فيتش بعد فترة طويلة 2023، ثم أخيرًا موديز في مايو/أيار الحالي، رغم أن التصنيف لا يزال جيدًا جدًا لكنه لم يعد ممتازًا إن جاز التعبير.

تنبع مخاوف المستثمرين ووكالات التصنيف بالأساس من وصول حجم المديونية المتراكمة طيلة عقود إلى مستويات بالغة الارتفاع، ما يقلل من مساحة المناورة المتاحة للحكومة الأمريكية لجذب الاستثمارات اللازمة في أدوات الدين للقيام بما يسمى بـ"تدوير الدين"، أي الاستدانة لسداد ما هو مستحق من الديون القائمة بالفعل وهكذا.

ولا شك أن وجود ترامب وسيطرته على الأغلبية الجمهورية في الكونجرس يضيفان ولا يخصمان من هذه المخاوف، خاصة وأنه يتبنى مشروع قانون لموازنة السنة المقبلة يخفض بشكل جذري من الإيرادات الضريبية، التي ستؤدي لزيادة في الدين الحكومي الفدرالي بمقدار 3.8 تريليون دولار، ما أثار مخاوف المستثمرين في الدين الحكومي من عدم قدرة الحكومة الفدرالية على الوفاء بالتزاماتها أو الاتجاه لطباعة الدولار لسداد الديون المستحقة، ما يعني رفع معدل التضخم من جهة، وتآكل قيمة الأصول المالية المقومة بالدولار من جهة أخرى.

لا شك أن أصحاب رؤوس الأموال الكبرى في الولايات المتحدة (1% من السكان الذين حازوا على نحو 22.4% من الدخل الإجمالي في 2021) سيكونون سعداء بإعفائهم من المزيد من الضرائب بما يتيح لهم الاستثمار في الدين الحكومي وغيره مقابل الحصول على عائد، لكنهم في الوقت نفسه قد لا يفضلون الحصول على إعفاء ضريبي يؤدي إلى أزمة مالية تأكل أصولهم المالية نفسها، إذ من الأفضل الحفاظ على صحة الأوزة التي تبيض ذهبًا بدلًا من ذبحها بحثًا عن الذهب المرجو داخلها.