تصميم: أحمد بلال- المنصة
ماهيندا راجاباكسا، الرئيس الأسبق، ورئيس الوزراء السابق لسريلانكا

حوار مع صديقي السريلانكي عن أزمة الديون

منشور الأحد 4 يونيو 2023

قال لي صديقي السريلانكي(*) الذي التقيته في محاضرة نظمتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة "لقد بدت الأمور على ما يرام حتى قبل أربعة أو خمسة أشهر من انفجار الأزمة، ثم فوجئنا مرة واحدةً بعدم قدرة الحكومة على دفع المستحق عليها من فوائد وأقساط للدين، وتبع هذا إعلان الإفلاس الذي تابعه العالم".

فقلت له متعجبًا "بالتأكيد كانت هناك إشارات وعلامات لدى العالمين ببواطن الأمور: الاقتصاديون وخبراء المال ورجال الأعمال والحطابون في الجبال. خاصة وأنك منهم، كاقتصادي مرموق يقود اليوم التحليلات التي تفسر كيف ولماذا انتهت سريلانكا إلى ما انتهت إليه، فكيف خفيت عليك وعلى زملائك فداحة الأمر؟".

تبسم ضاحكًا من قولي وأجابني "هل كان لدى سريلانكا دين خارجي ضخم؟ نعم ولا شك. ولكن المسألة يا صديقي لا تكمن في أن يكون لديك دين كبير مهما بلغت نسبته من الناتج المحلي، بل القدرة على خدمته. هل تعلم ما هي أكثر الدول استدانة في العالم إذا نظرنا إلى حجم الدين العام من الناتج المحلي؟ اليابان".

بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي في اليابان 256% في 2021، ولم تكن وحدها ضمن الاقتصادات الكبرى، فالولايات المتحدة نفسها لديها نسبة دين إلى الناتج سجلت 126%.

وتابع "نسبة الدين إلى الناتج عندنا في سريلانكا بلغت في 2022 ما يساوي 113.8%، لكن قبيل إعلان الإفلاس بعجزنا عن الوفاء بالالتزامات في مواعيدها لم يزد الدين الخارجي عن 69% من الناتج القومي. وهذه بالطبع كانت اللحظة التي ساح فيها الخبر في كل أرجاء الدنيا، بما جعل مصريًا مثلك يحرص كل هذا الحرص على معرفة الدقائق عن بلادي البعيدة، التي لم تكن محل اهتمام لدى المصريين من قبل، ربما باستثناء ما يعرفونه عن الشاي السريلانكي".

عاجلته بسؤال آخر، "إذا كانت سريلانكا مثلها مثل الاقتصادات الكبرى غارقة في المديونية، لماذا لم نسمع إلا عن إفلاسها وإفلاس دول شبيهة بها مثل لبنان وزامبيا؟ ألا يرجع هذا إلى أن تلك الاقتصادات الكبرى لديها من القدرة على السداد ما يولد ثقة واستقرارًا في أسواق المال، وبالتالي تتمكن تلك الحكومات من الاقتراض بشكل مستمر من أجل سداد ما عليها، حتى ولو أدى هذا إلى وصول حجم الدين الكلي إلى تلك الأرقام المفزعة التي نراها في اليابان أو أمريكا؟".

اتفق معي صديقي السريلانكي وأضاف، "كانت المشكلة ببساطة شديدة أنه في 2022، مع ارتفاع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي وعلى وقع اندلاع الحرب في أوكرانيا، لم يعد من السهل الاستمرار في الاقتراض من أجل الوفاء بالالتزامات المستحقة علينا من قروض سابقة. لقد كانت المشكلة قائمة من قبل الحرب، ولكن انخفاض أسعار الفائدة على الدولار هو ما أوحى بأن المشكلة بعيدة، أو بأنه لا توجد مشكلة أصلًا".

وتابع قائلًا، "أتدري يا صديقي إن نسبة الدين الخارجي إلى الناتج القومي الإجمالي قد ارتفعت في بلادي من 39.9% في 2011 إلى 72% في 2020، أي في أقل من عشر سنوات؟ وخدمة ذلك الدين الخارجي تضاعفت أربع مرات كنسبة من صادراتنا السلعية والخدمية وأشكال الدخل الأولي الأخرى، مثل تحويلات العاملين بالخارج، من 9.3% إلى 39.3%؟ أي أننا صرنا ندفع تقريبًا 40% من كل إيراداتنا الدولارية لخدمة الدين الخارجي".

قلت له مندهشًا، "زيادة بالغة الضخامة في أقل من عقد. ما الذي يفسِّر هذا التغيُّر الكبير؟ علام أنفقتم كل هذه الأموال التي اقترضتموها من الخارج؟".

توسع راجاباكسا في الاقتراض من الخارج في مشروعات ذات جدوى مشكوك فيها

تنهد صديقي وبلع ريقه ثم تابع، "بنينا أحد أكبر موانئ العالم: ميناء هامبانتوتا الدولي بتمويل صيني كبير. لقد بدا حينها استثمارًا جيدًا، لأن سريلانكا كما تعرف تحتل موقعًا متميزًا للغاية في المحيط الهندي، وطالما كانت صلة رئيسية بين تجارة الصين والخليج العربي وشرق إفريقيا منذ الأزمنة القديمة".

 إذن ما المشكلة؟

قال بنبرة حزينة، "لم يخضع قرار بناء الميناء وتطويره للكثير من الدراسة. كانت سريلانكا في 2009 قد أنهت حربًا أهلية طويلة ومدمرة كلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ومئات الآلاف من المشردين في نزاع استمر نحو أربعين سنة، أنهاه الرئيس ماهيندا راجاباكسا بالحسم العسكري ضد المتمردين، ليقود البلاد بعدها في رحلة التعافي الاقتصادي والبناء. في ذلك السياق توسع راجاباكسا في الاقتراض من الخارج في مشروعات ذات جدوى مشكوك فيها".

 عاجلته، "مثل الميناء الذي تحكي عنه؟".

قال، "نعم، فالميناء على سبيل المثال تكلف نحو مليار دولار، واكتشفنا بعدها أنه لن يأتي بالعائد الكافي لسداده لسنوات طويلة مقبلة. ولكن أضف إلى هذه القائمة مطارًا دوليًا جديدًا تكلف نحو ربع مليار دولار ولكنه يستقبل بالكاد عشرات المسافرين يوميًا، ثم تلاه استادًا دوليًا للكريكيت، وهي في منزلة كرة القدم لدينا في جنوب آسيا، يتسع لـ35 ألف متفرج".

ما شهدناه في سريلانكا كان العند من الحكومة بالإصرار على الوفاء بكل الالتزامات حتى ولو عن طريق الاقتراض

سألته متضررًا، "لماذا إذن وقعت الكارثة بعدها بسنوات؟".

فقال، "بدأنا في الاعتماد بشكل متزايد على الاقتراض الخارجي من أجل خدمة القروض التي لدينا بالفعل. وبما أن الاقتصاد لم يكن قادرًا على توليد الموارد الكافية للسداد، توسعنا في الاقتراض قصير الأجل، والذي ارتفع نصيبه من الاحتياطي الأجنبي السريلانكي من 33.56% في 2010 إلى 90% في 2012، ثم إلى 123% في 2016 (أي أصبح الاحتياطي بالسالب لأنه مكون بالأساس من أموال اقترضناها)، حتى وصل إلى 148% في 2020، ليتضاعف تقريبًا عند 274% في 2021! أتدري ما يعني هذا؟ يعني أن التزاماتنا قصيرة الأجل تبلغ تقريبًا ثلاثة أضعاف ما لدى المركزي السريلانكي من دولارات".

انتهت استراحة شرب القهوة بين جلسات المؤتمر الذي جمعني صدفة بالاقتصادي السريلانكي، وخرج علينا المنظمون يدعوننا إلى العودة إلى الجلسة، وبينما كنا نتحرك بتباطؤ سألته سؤالًا أخيرًا، "عرفت منك أصول الأزمة، لكن لماذا تركت الأمور لتتفاقم على هذا النحو الكارثي؟".

فقال، "الدرس المستفاد هو أنه عندما يصبح أكثر من نصف ما تقترضه هو لسداد القروض القائمة، خارجية كانت أم داخلية، عندها عليك أن تدرك أنها لحظة مناسبة للتوقف عن السداد ودعوة المقرضين بهدوء إلى إعادة جدولة وإعادة هيكلة أو إعدام جزء من الديون. لكن ما شهدناه في سريلانكا كان العند من الحكومة بالإصرار على الوفاء بكل الالتزامات، حتى ولو عن طريق الاقتراض بشروط أسوأ وبتكلفة أكبر".

وتمتم قائلا "تضخَّم الدين وتضخمت معه خدمة الدين ثم حدث ما كان مُحتمًا وهو التوقف عن السداد، ولكن بتكلفة أكبر وفي وضع أسوأ. أسأل بوذا أن يجنب شعوب العالم شر الوقوع في فخ الاقتراض من أجل سداد القروض".


* هذا الحوار متخيَّل من وحي محاضرة ألقاها الاقتصادي السريلانكي نيشان دي ميل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في 12 مايو 2023.