يعيش المصريون تحولات عنيفة خلال العامين الماضيين بفعل التضخم، إذ ارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، الذي يعبّر عن معدل التضخم، بأكثر من 100% خلال الفترة من يناير 2022 حتى أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
في المقابل يقدِّر محللون في قطاع بنوك الاستثمار أن متوسط دخل الفرد في القطاع الخاص نما بأقل من معدل التضخم، ولم يرتفع بأكثر من معدل زيادة الأسعار سوى دخل موظفي الحكومة، الذين يمثلون النسبة الأقل من العاملين، ما يعكس أثر الضغوط التضخمية على تآكل قيمة الأجور خلال الفترة الماضية.
يناقش هذا التقرير مع الخبراء إلى أي مدى استطاع العاملون تعويض تضخم عامين في أجورهم الاسمية، وكيف ساهم الغلاء المتراكم في إعادة ترتيب أولويات الأسر المصرية.
كيف تآكلت دخولنا خلال الفترة الماضية؟
ارتفع متوسط دخل الفرد في القطاع الخاص إلى 9 آلاف جنيه شهريًا مقابل 4800 جنيه قبل عامين بنسبة نمو بلغت 87.5%، بينما ارتفع متوسط الدخل الشهري للعاملين في الحكومة إلى 20 ألف جنيه، بدلًا من 9 آلاف جنيه بنسبة نمو 122%، حسب محلل في شركة الأهلي فاروس لتداول الأوراق المالية لـ المنصة.
وحسب مسح سوق العمل لعام 2023، تقتصر نسبة العاملين في القطاعات التابعة للدولة على 21% من المشتغلين، بينما تتوزع النسبة الباقية بين القطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي والعمل لدى الذات والعمل غير المأجور.
"القطاع الحكومي كان أفضل حظًا من القطاع الخاص الذي لم يشهد زيادة في الأجور بالمستوى نفسه، في ظل كفاح الشركات الخاصة من أجل الاستمرار في بيئة عمل صعبة للغاية نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية التي تعصف بمناخ الاستثمار"، كما يقول محلل الأهلي فاروس، الذي طلب عدم نشر اسمه.
ورفعت الحكومة الحد الأدنى للأجور 5 مرات خلال العامين الماضيين، ففي يناير/كانون الثاني 2022 ارتفع من 2000 إلى 2400 جنيه، ثم إلى 2700 جنيه في يناير 2023، وفي يوليو/تموز 2023 وصل إلى 3000 جنيه، ثم في يناير 2024 ارتفع إلى 3500 جنيه، قبل وصوله إلى 6000 جنيه اعتبارًا من مايو/أيار الماضي وحتى الآن.
رغم اتخاذ الحكومة قرارًا بزيادة الحد الأقصى للأجور إلى 6 آلاف جنيه، فإن العديد من شركات القطاع الخاص لم تستجب للقرار، "ما ضاعف من تآكل القوة الشرائية وخلق صعوبات أكبر في مواجهة تفاقم الأعباء المعيشية، وتعميق التفاوت الاجتماعي بين المصريين"، كما تقول محللة الاقتصاد الكلي دينا الوقاد لـ المنصة.
يستمر التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية في الارتفاع، إذ تحرك عند مستوى 26.4% في سبتمبر/أيلول الماضي بزيادة طفيفة عن الشهر السابق له، ولا توجد مؤشرات واضحة للسيطرة على مستوى التضخم في المدى المنظور.
ويتوقع صندوق النقد الدولي في تقرير آفاق الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أن يظل التضخم مرتفعًا خلال العام المقبل 2025 عند 24.1%.
تقشف في ميزانية العائلة المصرية
في مقابل زيادات القيمة الاسمية للأجور على مدار العامين الماضيين، كانت العديد من السلع تزيد بوتيرة متسارعة مع التضخم المتفاقم، ويرى محلل فاروس أن الأجور لم تقدر على ملاحقة الأسعار ما دفع قطاعات واسعة للأسر لتقليص إنفاقها الحقيقي على الغذاء والأولويات الرئيسية خلال العامين الماضيين بنسب تتراوح من 30 لـ40%.
ويتفق نائب رئيس قسم البحوث بشركة النعيم، هشام حمدي، مع الرأي السابق، مقدرًا تراجع الطلب على أنواع من السلع الغذائية بنسب قد تصل لنحو 40% خلال العامين الماضيين، قائلًا لـ المنصة "الإقبال أصبح أكبر على السلع الأرخص من حيث السعر، وهو مؤشر على زيادة مستوى الفقر".
"الزيادة في الأجور لا تتناسب مع الارتفاع السريع في تكاليف المعيشة، والفارق ده خلق ضغط على الدخل الفردي للأسر، ما أضعف القدرة الشرائية"، يقول حمدي.
زيادة السلع أعلى من التضخم
تعكس بيانات أسعار السلع الغذائية، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفاع بعض السلع بأكثر من معدل التضخم خلال العامين الماضيين، ما يظهر وطأة زيادة الأسعار خلال تلك الفترة، خاصة في حالة السلع الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.
خلال الفترة من يناير 2022 إلى أكتوبر 2024 ارتفع سعر القمح بـ176%، واللحم الجاموسي 167.5%، والدجاج البلدي 173.4%، والأسماك 195%.
ارتباك خطط التشغيل والاستثمار
"لم ينج مجتمع الأعمال من تداعيات التضخم المتفاقم، فالشركات تعاني من ارتفاع شديد في تكاليف الإنتاج، نتيجة الزيادة المطردة في عناصر التشغيل من طاقة ونقل وأجور ومدخلات الإنتاج، خاصةً المستوردة منها، علاوةً على ارتفاع تكلفة الاقتراض من البنوك إلى حوالي 30%" حسب نائب رئيس قسم البحوث بشركة النعيم.
دفعت التغيرات التي طرأت على عوامل الإنتاج العديد من الشركات إلى انتهاج سيناريو الانكماش حتى تبقى على قيد الحياة، وفق المحلل في شركة الأهلي فاروس، يوضح "عبر تبني عدة توجهات تشمل تقليص حجم الإنتاج استجابةً لتراجع الطلب، وخفض حجم العمالة للحفاظ على التكاليف، إلى جانب مراجعة الخطط الاستثمارية وتجميد التوسعات، تحديدًا في القطاعات غير القادرة على تمرير كامل الزيادة في تكاليف الإنتاج إلى المستهلكين".
ضرورة زيادة الأجور
وفي سبيل مواجهة آثار التضخم المفرط لأسعار السلع والخدمات، توصي دينا بتبني الحكومة لسياسات اقتصادية شاملة تتضمن تحسين الدعم وتوجيهه بشكل أكثر فاعلية للشرائح الأكثر تضررًا من التضخم، ورفع الأجور بشكل يتناسب مع معدلات التضخم لضمان حماية القدرة الشرائية للمواطنين، وتنفيذ سياسات نقدية متوازنة للتحكم في معدلات التضخم وتعزيز استقرار العملة.
هذه الحلول المطروحة لاقت ترحيبًا من نائب رئيس قسم البحوث في النعيم "الارتفاع المطرَد في الأسعار يهدد بانعدام الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، لذلك نحن في حاجة ماسة لاتخاذ إجراءات فعالة لتوفير الدعم للفئات الاجتماعية الضعيفة، وتعزيز برامج الحماية الاجتماعية، بالتوازي مع تنظيم الأسواق وزيادة الرقابة على التجارة".