قبل عامين كان عمرو علي، وهو موظف بالشركة المصرية للاتصالات، يواظب على شراء الشوكولاتة المفضلة لابنته البالغة من العمر 6 سنوات، كان سعر القالب الواحد حينها حوالي 22 جنيهًا، وهو رقم لم يكن يشكل عبئًا يذكر، لكن تضاعف سعر الشوكولاتة أجبر عمرو على التخلى عن هذه العادة تدريجيًا.
تتراوح أسعار قطع لا يزيد حجمها عن أصابع الكف بين 30-50 جنيهًا، ما جعلها تمثل نموذجًا لمعدلات التضخم المرتفعة التي عاشتها البلاد مع أزمة الدولار وضغوط زيادة أسعار الطاقة والوقود. كما ساهمت طفرة أسعار الكاكاو الخام خلال 2024 في جعل الشوكولاتة بعيدًا عن متناول أيادينا.
حلّي بُقك بخمسين جنيه
"الميزانية مبقتش تسمح. أحيانًا باشتري شوكولاتّي المفضلة وكتير باطنّش" يقول عمرو لـ المنصة واصفًا محاولاته لمواكبة الارتفاعات المستمرة في السلع والخدمات الأخرى.
تآكلت قيمة أجور قطاعات واسعة من المصريين خلال العامين الماضيين مع تدهور قيمة الجنيه، الذي أدى لارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، بلغت ذروتها في سبتمبر 2023 عندما تجاوز المؤشر 40%.
وعلى الرغم من نجاح البنك المركزي في ضمان استقرار سعر صرف الدولار منذ مارس/آذار الماضي، ساهمت مطالبات صندوق النقد الدولي بتعديل أسعار الطاقة في تغذية التضخم، إذ لم ينخفض عن مستوى 26%.
لا يتجاوز راتب عمرو الـ15 ألف جنيه، وهو دخله الوحيد للإنفاق على أسرة من زوجة وطفلين، ما يجعله يمثل شريحة واسعة من الطبقة الوسطى التي تكفي دخولها بالكاد لتغطية الاحتياجات الأساسية، وتضطر للتنازل عن الكثير من الرفاهيات.
أما المحاسب محمد صلاح فقد اتجه للاعتماد بشكل أكبر على الحلوى الرخيصة الممزوجة بالبسكويت "بدلًا من شراء باكو بأربعين ولا خمسين، بقيت أشتري كيلو للبيت يقعد فترة كنوع من أنواع التوفير" يقول لـ المنصة.
هذا التغيير اللافت في نمط الاستهلاك يرصده إبراهيم عادل، صاحب كشك "الوكالة"، الذي له عدة فروع بمدينة 6 أكتوبر في محافظة الجيزة، يقول لـ المنصة "تلاجة الشوكولاتة بقت الركن المهجور في حركة البيع من فترة، أقل باكو سعره 40 جنيه، والسحب أكتر على المنتج المصري زي كورونا وكل ما هو في حدود العشرين جنيه، أما البار الكبير فالبيع منه قليل، الناس بقت بتشتريه في المناسبات والهدايا".
تسجل أسعار الشوكولاتة ارتفاعًا كبيرًا منذ أشهر، وبجولة سريعة في أقسام الحلوى بسلاسل السوبر ماركت، نلحظ أن سعر بار الأحجام الصغيرة لا يقل عن 12 جنيهًا، والمتوسطة 30، في حين كسرت بعض الأنواع حاجز الخمسين جنيهًا.
المضاربة في بورصة الشوكولاتة العالمية
لا يقتصر ارتفاع سعر الشوكولاتة على العوامل المحلية، ولكن المتابع للعقود المستقبلية لأسعار الكاكاو، المادة الخام للشوكولاتة، يلاحظ الطفرة الكبيرة خلال العامين الأخيرين، إذ تجاوزت الـ10 آلاف دولار للطن، بعدما كانت في حدود 2500 دولار في 2022.
وتواكبت هذه الطفرة مع نقص واضح في المعروض من ثمار الكاكاو، الذي دفع رويترز لأن تتحدث في مارس الماضي عن "أزمة شوكولاتة عالمية"، إذ تأثرت مصانع الكاكاو الكبرى ولم تعد تعمل بمستويات إنتاجيتها الطبيعية بسبب نقص الثمار.
التفسيرات الشائعة لنقص الإنتاج تفسر الأمر بظروف مناخ منطقة غرب إفريقيا، حيث تتركز 70% من زراعة حبوب الكاكاو عالميًا، لكن زيادة سعر الكاكاو ثلاثة أضعاف لا يعني أن المزارعين صارو أكثر ثراءً، فهم ما زالوا يبيعون الطن بنحو 1800 دولار. ولكن من يضارب على أسعار الخام بالأساس هم تجار العقود المستقبلية.
على خلفية هذه الأزمة يرجح خبراء أن يعمد مصنعو الشوكولاتة عالميًا إلى تقليل أحجام العبوات أو إضافة القليل من الكاكاو لصالح بدائل مثل الكراميل والمكسرات والفاكهة.
شركة Mars على سبيل المثال عمدت إلى تقليص حجم منتجاتها وتقليل كمية الكاكاو المستخدمة لتوفير النفقات.
الشركات المصرية في مواجهة التضخم
ليس الكاكاو وحده، لكن شركات الشوكولاتة واجهت خلال الفترة الماضية ارتفاعات في أسعار السكر والزبدة، بجانب زيادات الوقود والطاقة، ما رفع إجمالي تكاليف الإنتاج بمعدلات كبيرة، كما يقول أحمد الزهار مدير التسويق بشركة كورونا المتخصصة في صناعة الحلوى لـ المنصة.
ولا ينكر الزهار تأثير الضغوط الاقتصادية الحالية مع ارتفاع الأسعار على معدلات استهلاك الشوكولاتة، لكنه يؤكد "لا نواجه عزوفًا تامًا عن شراء الشوكولاتة، بل ترشيد للإنفاق من قبل الأسر"، مشيرًا إلى أن بعض الشركات لا تزال تحقق مبيعات جيدة.
ووفق المسؤول بكورونا، اضطرت الشركة إلى تخفيض إنتاجها في بعض الأحيان مع ضعف الاستهلاك المحلي، ما دفعها للتركيز أكثر على التصدير "الشركات المحلية تكافح للإفلات من شبح الإفلاس أو التصفية بسبب الزيادات المستمرة في تكاليف الإنتاج، إلى جانب ارتفاع أسعار الخدمات من غاز وكهرباء وخدمات شحن" يقول الزهار.
ويبدو انخفاض الإنتاج حالة متكررة بين الشركات المحلية، إذ يقول محمد خميس، مدير المشتريات بشركة فيينا للشوكولاتة لـ المنصة "خفضنا إنتاجنا للسوق المحلية بعدما استشعرنا أن قطاعات من المواطنين بقت بتتعامل مع الشوكولاتة كرفاهية، حاجة ينفع يستغنوا عنها".
ويقر علاء عيسى سكرتير شعبة الحلوى بغرفة القاهرة التجارية لـ المنصة بأن"سوق الحلوى المصرية بشكل عام تواجه حالة من الركود بسبب تقليل الاستهلاك نتيجة للوضع الاقتصادي".
وعلى غرار الاتجاه العالمي، لجأت شركة جولدن ستار للحلوى إلى تقليل حجم عبواتها بدلًا من تحميل كل زيادة التكلفة على السعر النهائي حسب مؤيد الشامي مدير المبيعات، الذي قال لـ المنصة "واجهنا صعوبات كتير بسبب زيادة مدخلات الإنتاج ومنها الكاكاو، غير تكاليف التشغيل وخدمات الشحن ورفع أجور العمال في مواجهة الضغوط الاقتصادية".
ويشير عيسي إلى أن الشركات بدأت تتأقلم على ارتفاع أسعار الكاكاو من خلال الاعتماد على أنواع أرخص سعرًا، فضلًا عن استخدام الشوكولاتة البيضاء ولبن البودرة.
الشوكولاتة كصناعة استراتيجية
خلال الشهر الماضي أعلنت Barry Callebaut السويسرية عن إنشاء مصنع شوكولاتة في مصر باستثمارات 30 مليون دولار، والتقى وزير الصناعة بمسؤول شركة نستله لتحفيزه على تعميق نشاط الشركة في مصر، وخلال يونيو/حزيران الماضي أعلنت Mars عن خطة لضخ استثمارات بـ250 مليون دولار تمتد حتى 2025، وقبلها أعلنت كوفرتينا في ديسمبر/كانون الأول 2023 عن مصنع جديد بـ200 مليون جنيه.
على الرغم من ثقل قطاع الشوكولاتة كنشاط استثماري في مصر، بجانب إسهامه في التجارة الخارجية بصادرات 260 مليون دولار في 2022، فإن المادة الخام الرئيسية له، الكاكاو، كانت مدرجة ضمن قائمة السلع التي يشدد البنك المركزي القيود على استيرادها، باعتبارها غير أساسية.
"القيود المفروضة على استيراد الكاكاو خلال السنتين إللي فاتوا أربكت السوق، فالدولة بتتعامل مع الكاكاو على أنه سلعة ترفيهية رغم أنه خام أساسي في الحلويات، ومينفعش يتزرع في مصر لأن مناخنا غير مناسب" كما يقول حسن الفندي، رئيس شعبة السكر والحلوى بغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات لـ المنصة.
ويرى الفندي أن صناعة الشوكولاتة تتطلب دعمًا أكبر من الدولة عبر تيسيرات مثل تسهيل الحصول على الخام "مصر فيها مجموعة من أهم مصنعي الشيكولاتة عالميًا، ولديها المزيد من الفرص وهي سوق جذابة".
وفي وقت سابق، انتقد الرئيس عبد الفتاح السيسي ارتفاع فاتورة تكلفة استيراد بعض السلع، من بينها الشوكولاتة، لكن تقريرًا لموقع العربية ذكر أن مصر تصدّر بقيم أكبر مما تستورد، مما جعلها تحتل المرتبة 13 ضمن أعلى الدول في تحقيق فائض تجاري من الشوكولاتة.
بعيدًا عن الدولة، يعتبر الفندي أن التضخم بات التحدي الرئيسي أمام هذه الصناعة في مصر، نظرًا للتأثيرات القوية لزيادة الأسعار على الاستهلاك، والتي يأمل أن تخف حدّتها مع التراجع المتوقع لمعدلات التضخم خلال العام المقبل، "نتمنى أن التضخم يتراجع وتنتعش مبيعات المصانع والشركات المصرية".
مثل الكثير من المستهلكين، صار عمرو يبحث عن أنواع الشوكولاتة الأرخص مُضحيًا بجودة المذاق، ويأمل في أن يتحسن دخله خلال الفترة المقبلة حتى يكون قادرًا على استعادة عادته الاستهلاكية البسيطة.