يجمع محللون على أننا في انتظار شهور ستشهد المزيد من موجات تضخم متتالية حتى نعود إلى مستويات معتدلة، ذلك بعد أكثر من عامين من التعامل مع معدلات تضخم غير مسبوقة.
ومع عدم ثبات قيم الأصول المختلفة تأثرًا بموجات التضخم، نبقى أمام ثلاثة ملاذات تتنافس على حماية قيمة مدخرات الأفراد من التآكل في أوقات زيادة الأسعار؛ شهادات الاستثمار والعقارات والذهب.
التضخم الذي ينتظرنا
"الزيادة الأخيرة في أسعار البنزين والوقود تجر خلفها موجة تضخمية على مختلف السلع والخدمات خلال العام الحالي، من المتوقع أن تصل إلى نحو 27% في ديسمبر/كانون الأول المقبل"، حسب رئيس شركة كونكورد إنترناشونال للاستثمارات كريم هلال لـ المنصة.
وتراجع التضخم خلال الأشهر التالية لمارس/آذار 2024 من مستوياته القياسية التي بلغها خلال 2023، بعد أن نجح البنك المركزي في القضاء على السوق الموازية للدولار، والحفاظ على استقرار سعر الصرف، لكنه عاد للارتفاع منذ أغسطس/آب الماضي بسبب زيادة أسعار الكهرباء والوقود بتوصية من صندوق النقد الدولي، حتى استقر عند 26.3% في أكتوبر/تشرين الأول.
ويشير هلال إلى أن توقعات التضخم خلال الربع الأول من العام الجديد لا تزال تحوطها الكثير من الغموض "التضخم سيتحدد بشكل أساسي حسب توجهات الرئيس الأمريكي الجديد بشأن تقليص أو توسعة دائرة الحرب في المنطقة".
بنهاية سبتمبر/أيلول الماضي، أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال كلمته باحتفالية تخريج دفعة جديدة من كلية الشرطة، أن منطقة الشرق الأوسط مهددة باتساع رقعة الحرب الدائرة حاليًا، موضحًا أن قناة السويس خسرت حوالي 6 مليارات دولار نتيجة هذه الأحداث.
بجانب المخاطر الإقليمية المتصاعدة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، فإن التزامات مصر بالمزيد من تحرير الطاقة خلال الأشهر المقبلة، وفق اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، سيساعد على إبقاء الضغوط التضخمية القوية لفترة.
"حتى وإن تأجل تطبيق بعض الإصلاحات التي يطلبها الصندوق، بناء على طلب الحكومة، لبعض الوقت، سيظل هناك التزام بتطبيقها وهو ما سيرفع معدلات التضخم خلال الفترة المقبلة"، كما يقول رئيس قسم البحوث بشركة عربية أون لاين لتداول الأوراق المالية مصطفى شفيع.
كان رئيس الوزراء المصري قال قبل أيام، خلال زيارة مديرة صندوق النقد الدولي، إن الطرفين يتفاوضان على مد أجل تطبيق بعض الإجراءات المطلوبة ضمن برنامج القرض الذي تم إبرامه في 2022.
الشهادات أمان ولكن ماذا عن العائد؟
بلغ متوسط التضخم خلال الفترة من أكتوبر 2023 إلى سبتمبر الماضي نحو 31%، ما يفوق عوائد الشهادات التي طرحها بنكا الأهلي ومصر مارس الماضي، وهي شهادات ادخار ثلاثية العائد بفائدة 30% متناقصة، بأجل ثلاث سنوات.
"الاستثمار في الشهادات البنكية لن يكون كافيًا لحماية المدخرات من التآكل أمام التضخم، لكنه يوفر عائدًا مرضيًا في نهاية المطاف"، كما تقول الخبيرة المصرفية سهر الدماطي لـ المنصة.
لكن الدماطي تشير إلى أن الاكتتاب في الشهادات ذات العائد المرتفع سيظل متاحًا لعدة أشهر على الأرجح، في ظل توقعات استمرار التضخم المرتفع، ما يمثل فرصةً للباحثين عن استثمار مدخراتهم بطريقة آمنة مثل البنوك.
العقار.. خطر صعوبة التسييل
في المقابل، يدافع البعض عن العقار باعتباره ملاذًا استطاع رفع أسعار الوحدات بوتيرة أسرع من التضخم خلال الفترة الماضية، "لما بترتفع أسعار الوقود، أسعار الحديد والأسمنت ومستلزمات إنتاج العقار بتغلى على طول، وبالتالي قيمة الوحدات. وده بيضمن تحقيق أرباح جيدة للمستثمر في العقار"، كما يقول المدير التنفيذي لغرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات المصري أسامة سعد الدين، لـ المنصة.
وشهد متوسط أسعار الوحدات العقارية في أكبر 10 شركات تطوير عقاري مصرية خلال الربع الأول من العام الجاري ارتفاعًا بنحو 115% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، حسب تقرير the Board Consulting للاستشارات العقارية، فيما بلغ متوسط التضخم خلال الفترة من يناير/كانون الثاني 2023 إلى مارس 2024 نحو 35%.
وفي يونيو/حزيران الماضي، توقع رئيس غرفة التطوير العقارى باتحاد الصناعات طارق شكرى مضاعفة مبيعات العقارات في 2024 إلى تريليوني جنيه مقابل تريليون جنيه العام الماضي بارتفاع 100%.
ويوضح سعد الدين لـ المنصة أن نسبة المناطق المعمرة والمبنية في مصر تمثل نحو 12% فقط من إجمالي مساحة مصر، وبالتالي لا تزال هناك فرص كبيرة واعدة تنتظر القطاع خلال سنوات طويلة مقبلة، خاصة بعدما جذب العقار أعدادًا كبيرة من مستثمري الدول العربية والأجنبية ما يؤكد قوة أرباحه وعوائده في مصر.
ومنذ سبتمبر الماضي، انتشرت توقعات تشير إلى احتمالية تشكل فقاعة عقارية قد تهبط بأسعار الوحدات بشكل كبير، وهو ما نفاه سعد الدين، مؤكدًا أن السوق المحلية تتداول هذا المصطلح منذ عشرات السنين ولم يحدث شيء، "بيانات الفترة السابقة تشير لمعدلات نمو كبيرة في السوق العقارية لا تقل عن 35% سنويًا".
ونقل مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري توقعات موقع Mordor intelligence، بنمو سوق العقارات السكنية في مصر من 18.04 إلى 30.34 مليار دولار خلال الفترة بين 2023-2028، بمعدل نمو سنوي مركب 10.96% خلال الفترة المتوقعة، مدفوعًا بطلب متزايد على الوحدات السكنية في المدن الرئيسية خاصة القاهرة.
الذهب.. سيولة مضمونة في أي وقت
"قد يبدو للوهلة الأولى أن العقار الاستثمار الأنسب للجميع، إلا أن في حقيقة الأمر الذهب الوجهة الأفضل، لسهولة تسييله في أي وقت، أو تقسيمه وبيع جزء والاحتفاظ بالآخر"، كما يقول المدير الإقليمي لشركة جولد إيرا أسامة الزرعي لـ المنصة.
ويشير الزرعي إلى أن سهولة التسييل باتت ميزة مهمة للذهب كملاذ في ظل ارتفاع معدلات التضخم الحالية، التي قد تضغط المدخرين وتجعلهم في حاجة لبيع أصولهم بسرعة لمواجهة أي أزمات مالية.
ويشير الزرعي إلى أن "المعدن الأصفر قيمة أصيلة يمكن لمالكها التعامل بها في جميع دول العالم، إذ يمكن بيعها لأي محل صاغة بأي دولة في العالم والحصول على الأموال بشكل فوري، وهو أمر لا ينطبق على العقار أو الشهادات البنكية"، حسب أسامة الزرعي.
يوفر الذهب للمستثمر فرصة شراء كميات بسيطة من المشغولات الذهبية، وفق الزرعي، "كما يمكنك الاختيار من بين العيارات 24 و21 و18 حسب المبلغ المالي الذي تملكه وترغب في استثماره".
وشدد الزرعي على أن أسعار الذهب دائمًا ما تتخطى أي ارتفاع في معدلات التضخم تحت أي ظرف، وبالتالي سيضمن المستثمر في قطاع الذهب الحفاظ على قيمة أمواله.
واستطاع مستثمرو الذهب خلال الفترة الماضية تحقيق مكاسب تعادل ضعف التضخم، إذ سجل سعر جرام الذهب 2180 جنيهًا لعيار 21 في بداية أكتوبر 2023، قبل أن يقفز إلى 3610 جنيهًا للجرام في سبتمبر الماضي بنسبة زيادة 65.60%، في وقت بلغ فيه متوسط التضخم خلال نفس فترة المقارنة نحو 31%.
بشكل عام، يظهر من خلال مقارنة بيانات التضخم بعوائد الملاذات الثلاث أن العقار هو الأكثر قدرةً على تثمير الأموال، لكنه الأكثر صعوبة في التسييل.
وحسب مقارنة المنصة للعوائد بالتضخم فإن كل من استثمر مليون جنيه في قطاع الوحدات العقارية التابعة للشركات الكبرى تمكن من تحقيق مكاسب بنحو 700 ألف جنيه خلال عام بعد خصم نسبة التضخم، بينما حقق أي شخص استثمر القيمة نفسها في قطاع الذهب أرباحًا في حدود الـ340 ألف جنيه، وخسر من وضع المليون جنيه في الشهادات البنكية نحو 10 آلاف جنيه من قيمة أمواله بعد خصم نسبة التضخم.