توقفت طويلًا أمام ما نشرته مجلة الإيكونومست البريطانية عن الوضع في بلادنا هذا الأسبوع، لا سيما حين قالت إن "النظام العاجز في مصر لا يستحق خطة إنقاذ نظرًا لإدارته البشعة للاقتصاد، لكنه يجب أن يحصل على واحدة رغم ذلك، فالشرق الأوسط، الذي تشب فيه النيران بالفعل، لا يمكنه تحمل انهيار الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان".
هذه خلاصة تحليل المجلة المفصل نسبيًا عن الاقتصاد المصري، بما في ذلك السياقات السياسية والاجتماعية المحيطة به. ولا يمكن في حقيقة الأمر النظر إليه بمعزل عنها، كما تحاول الخطابات الرسمية، في سعي منها لفصل الاقتصادي عن السياسي، لتجنب الإقرار بأنَّ جزءًا كبيرًا من مأساتنا الاقتصادية يعود إلى أسباب سياسية، دون شك، وبلا مواربة.
ابتداءً، فإنَّ الإيكونومست لا تتحدث من فراغ، فخلفها أقطاب اقتصاديين وسياسيون كبار، وطالما تَحقَّق ما تقوله. ولا أنسى غلافها قبل ثورة يناير، الذي جاء بصورة الرئيس الأسبق حسني مبارك تمثال فرعوني يغرق في رمال الصحراء.
من ثَمَّ، فإنَّ وصفها وتحليلها يجب أن يؤخذ على محمل الجد، سواء من السلطة أو معارضيها، أو حتى الرأي العام الذي يضنيه تردي الأحوال الاقتصادية إلى مستوىً غير مسبوق، حتى أيام كانت مصر تخوض حروبها الحديثة والمعاصرة.
في ضوء هذا التحليل، هناك سبع ملاحظات أساسية لا بد من النظر إليها بعين الجد.
1. لا توجد مؤامرة
ربما يكون الخوف من انفجارٍ لن يتحمله الشرق الأوسط هو السبب الأساسي في قيام الغرب أو بعض دول الإقليم بمساعدة مصر اقتصاديًا على عدم الانهيار الآن، حتى لو كانت هي "المرة الأخيرة" حسب المجلة. لكن هذا برمته يتناقض مع ما تردده أبواق السلطة عن مؤامرة على مصر تريد انهيارها، مع أنَّ النظام الحاكم مطيع وتابع، ويكبت قوى مصر الراغبة في التمرد والتحقق والانطلاق.
2. عجز بلا أفق
هناك مسكوت عنه في تقرير الإيكونوميست، وهو أنَّ مصر باتت الآن تستحق "الشفقة"، وهي مسألة تغضب كلَّ مصريٍّ غيور على بلاده، يعرف قيمتها وقامتها، ويدرك أنها لا يجب أن تكون في موضع الاستعطاف، ولا من بين أصحاب المسكنة.
وهنا تدور أسئلة حيوية لا بد منها، موجهة بالأساس إلى أصحاب القرار: كيف وصلتم بمصر إلى هذه الحافة المهينة؟ كيف فشلتم على هذا النحو الذريع؟ وإلى متى سيستمر عجزكم عن فعل ما هو واجب الآن وهنا؟
3. دور الإعلام في سيناريو لبنان
قد تعني المناداة بعدم ترك مصر تدخل إلى اضطراب أو فوضى أو عجز تام، أنَّ هناك من يريد لها تجنب السيناريو اللبناني المخيف، وذلك في وقت يقول فيه كثيرون إن مصر دخلت إلى "طريق لبنان"، الذي يعني انهيار قيمة العملة الوطنية، وعجز البنوك عن رد الودائع الدولارية أو جزء منها إلى أصحابها، وإقدام التجار على بيع سلعهم للمواطنين بالدولار.
وقد يكون ذلك صحيحًا، أو يمكن لمصر، الشعب قبل الحكم، تدارك الأمر، فتنجو من درب الهلاك هذا، ما يعني أننا هنا أمام "احتمال" أو "افتراض" ستحققه الأيام القادمة أو تنفيه أو تبدده، وهو ما نأمله بالطبع.
تحولت السلطة إلى شهرزاد التي تؤلف كل يوم حكاية غريبة، لا لتسلية الشعب، بل لخداعه والتلاعب به
أما المؤكد عندي من دخول النموذج اللبناني إلى مصر، ولم تأت الإيكونوميست على ذكره، فهو ما جرى في الإعلام، حيث وجدنا بعض الإعلاميين وهم يظهرون انتماءهم لجهات خارجية، ويدافعون عن مصالحها، وبعضهم يلعب دور السمسار في تهيئة بيع أصول الدولة المصرية إلى الطرف الذي ينحاز له، أو بمعنى أدق، يؤجر منه.
هذه الظاهرة ستزيد بمرور الأيام مع ضعف قدرة السلطة المحلية على تنفيع الأبواق الإعلامية، أو في ظل تحكم الغريب في جزء كبير منها. وكما نعرف من المقولة الذهبية "من يملك يحكم"؛ فإنَّ آليات الحكم ستؤول تباعًا إلى غريب، سواء كان مالكًا في مصر أو وصيًا على ميزانيتها ليضمن سداد فوائد الديون.
هذا الوضع لن يجعل الإعلام فقط تابعًا للغرباء، إنما أيضًا للمتحكمين في آليات الضبط والربط والبطش والقهر، بدءًا بجمع المعلومات وانتهاءً بالسجن والقتل، وكل ما بينهما من وسائل الدعاية والتلاعب والتزييف، لتعبئة الشعب حول المسار الجديد الذي لا يليق بمصر أبدًا.
4. حكايات شهرزاد الفاسدة
لم يرَ المصريون، حتى الآن، ما يطمئنهم إلى أنَّ الوضع الاقتصادي في مصر ليس بالسوء الذي وصفته الإيكونومست، من قرارات أو إجراءات أو خطط تعلنها السلطة، إلا عبر إدارة الأزمة بالخداع أو الإرجاء أو كسب الوقت، وملء الفراغ بالحكايات العجيبة، التي تحولت معها السلطة السياسية إلى شهرزاد؛ فتؤلف كلَّ يومٍ حكاية جديدة غريبة، لا لتسلية الشعب أو تأخير نهايتها، بل لخداع الناس والتلاعب بهم.
وبينما كان ما تحكيه شهرزاد القديمة المتخيلة كله جمال، ومقصده خير، فإنَّ ما تلقيه شهرزاد الجديدة الواقعية، ليس فيه إلا ما يزيد الأمر سوءًا بمرور الليالي.
5. رصيدكم نفد
إنَّ اقتران السياسي بالاقتصادي مسألة مقطوع بها في الواقع، وكذلك في المعرفة والبحث العلمي وفي تجارب دول كثيرة، مع اختلاف الزمان والمكان. وجزء من المشكلة الاقتصادية المصرية الآن، يتعلق بفقدان المصداقية أو غياب الثقة، وهي مسألة طالما نبهت إليها، وأكدت أن الثقة هي الثروة العظيمة التي لا يجب أن تفقدها أي سلطة رشيدة.
يمكن لكثير من الكائنات والأشياء أن تبقى حية عند درجة الصفر، بل هناك ما يحتاج إلى تجميد كي لا يفسد. أما في السياسة، فدرجة الصفر تعني نفاد تحمل الشعب، وانتهاء صلاحية السلطة، لتبدأ المنازعة بينهما، وفق مبدأ "أكون أو لا أكون".
6. البوصلة المعطوبة
لا يجب أن تعطي السلطة ظهرها لكل المناشدات والنداءات والتي تتبعها اقتراحات وتوصيات تقول لها من الضروري إعادة النظر في التوجهات التي تمضي فيها.
وهنا التساؤل الأساسي: هل أذن السلطة في صمم عن أنين الناس؟ كيف يقرر أهل الحكم ما ينحرفون به عن المصلحة العامة، وأوله العمل أو المساعدة بالتخطيط والإقرار على توفير الضروريات من غذاء ودواء وايواء وكساء وتعليم؟ وكيف لا يدرك أهل القرار أن أي حديث عن إنجازات دون هذا يكون هراء، وأي حديث عن شرعية يذهب هباء؟
7. الحل يكمن في قلب المشكلة
ما تتجاهله الإيكونومست، وربما تخشى عليه من سوء الإدارة، هو القوة الاقتصادية الكامنة لمصر، وهي قوة كبيرة، لو وُظِّفت بعناية، وأديرت بكفاءة، ما كان يمكن لمصر أن تكون محلَّ استعطاف، أو سببَ مخاوف إن انفجرت الأوضاع فيها.
هذه القوة غير المستغلة، وأولها الموارد البشرية، هي التي تجعل كثيرًا من الاقتصاديين في مصر وغيرها، وبين صفوف المعارضين للسلطة، يرون أن المشكلة الاقتصادية العويصة التي تمر بها البلاد ليست عصية على الحل، المهم أن يتم الاعتراف بأننا في أزمة، ونبدأ الحل، الآن قبل الغد.