من غير المقبول أن تبقى التقارير الدولية الصادرة عن صندوق النقد والبنك الدوليين، وتقييمات مؤسسات التصنيف الائتماني العالمي، هي مصدرنا الوحيد للتنبؤ بمصير الاقتصاد المصري، الذي سيؤثر فينا نحن، كمواطنين، مع المؤشرات السلبية والتوقعات بعدم القدرة على سداد الديون الخارجية وفوائدها المتراكمة، واستمرار تصاعد التضخم، بالإضافة إلى تصاعد الضغوط لخفض قيمة العملة المحلية ورفع نسبة الفائدة، مما سيزيد المشكلة تعقيدًا ويُضاعف من شعور المواطن بالغلاء والظروف المعيشية الصعبة.
الأولى بإعلان الحقائق والأرقام، وبكيفية التعامل مع الأزمة وتأثيرها في المواطن المصري، هي الحكومة نفسها، التي من جهتها تفضِّل التزام الصمت، لأنها ترى أن نشر الأخبار السيئة يُثير الفزع والبلبلة بين المواطنين، وتعمل سرًا على حل المشكلات، التي تبدو أنها خرجت عن السيطرة ولم يبقَ أمامنا سوى انتظار معجزة من السماء تُخرجنا من دائرة الديون المغلقة المتراكمة المتصاعدة التي تقترب من نحو 165 مليار دولار، وحل هذه الأزمة بوسائل تختلف عن ما اعتدنا عليه خلال السنوات الماضية، من تخفيض قيمة العملة ورفع سعر الفائدة والاستمرار في الاقتراض من الخارج، لا لإطلاق مشروعات استثمارية تُدر دخلًا في المستقبل، بل لسداد أقساط الديون وفوائدها.
نحو الأسوأ
كمواطنين، لسنا بحاجة إلى التقارير الدولية أو الحكومية لنعرف أن الأمور تتجه نحو الأسوأ، ولم نكن بانتظار تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الدوري عن معدلات التضخم ليخبرنا أن الأسعار تزيد باستمرار وبوتيرة خارج نطاق السيطرة، خاصة في المجال الأكثر أهمية لغالبية المواطنين وهو توفير الطعام والمواد الغذائية، التي بلغ التضخم في أسعارها هذا العام مستوىً قياسيًا.
بحسب التقرير، بلغت نسبة التضخم بشكل عام خلال شهر يوليو/تموز 38.2%، مقابل 14.6% للشهر نفسه من العام السابق. وهذا المعدل هو الأعلى منذ العام 2017 عندما وصل إلى 35% في أعقاب اتفاق قرض صندوق النقد الدولي العام 2016 بقيمة 12 مليار دولار، لا نزال نسددها حتى الآن.
لم نكن نحتاج للغوص في الأرقام المعقدة والمخيفة التي ترد في التقارير الدولية لندرك أننا نعيش أزمة حقيقية، لا نلمح آثارها فقط في ضوء الانقطاع المتكرر للكهرباء، بل أيضًا في شح البضائع في الأسواق والعودة لظاهرة الطوابير للحصول على السكر والسجائر وربما قريبًا الأرز وبضائع أخرى.
ورغم التصريحات الرسمية المتفائلة دومًا في سعي فاشل لطمأنة المواطنين إلى انتظام الإفراج عن البضائع المتراكمة في المواني، فالحقيقة أن نسبة الاستيراد تراجعت من الأساس بسبب عدم توافر العملة الصعبة لفتح الاعتمادات، وهو ما دفع عددًا كبيرًا من أصحاب المصانع الصغيرة والكبيرة إلى إغلاق أبوابهم أو تعليق أعمالهم حتى تتحسن الظروف، كما فعلت مؤخرًا إحدى أكبر الشركات الصينية التي تنتج سياراتها التي تتمتع بالشعبية في مصر.
لم يكن ذلك القرار مستغربًا، في ضوء ما كشفته التقارير الرسمية مؤخرًا، من أن صافي الأصول الأجنبية التي تحتفظ بها البنوك التجارية المصرية سجل عجزًا قياسيًا في شهر يونيو/حزيران الماضي. وبلغ العجز الإجمالي للنظام المصرفي، بما في ذلك البنك المركزي، 27.1 مليار دولار.
ولكن مع اقتراب موعد المراجعة المؤجلة للاتفاق الموقع مع صندوق النقد الدولي قبل عام للحصول على قرض آخر بقيمة ثلاثة مليارات دولار، تتزايد الضغوط على الحكومة المصرية من أجل القيام بخفض آخر لقيمة العملة المصرية، وكذلك زيادة سعر الفائدة المقدمة من البنوك، وهو الأمر الذي سيفاقم من معدلات التضخم والغلاء بحكم أن مصر دولة مستوردة بالأساس، بما في ذلك العديد من المواد الأساسية الغذائية مثل القمح وغيره، وكذلك النفط والمعدات وغالبية مستلزمات الإنتاج.
في حالة مصر، فإن الدول الخليجية الشقيقة أصبحت تربط بدورها تقديم أي منح أو قروض بتنفيذ الاتفاق مع الصندوق
وعلى مدى الشهور الماضية، خفضت مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية الثلاث الأكثر شهرة، موديز وفيتش وستاندرد آند بورز، تقييمها لقدرة الاقتصاد المصري على سداد الديون، وكذلك التصنيف الائتماني للبنوك المصرية الكبرى. كما تراجع بنك "سيتي جروب" الأمريكي عن وجهة نظره المتفائلة بشأن السندات المصرية بسبب مخاوف بشأن التقدم البطيء للدولة في بيع الأصول المملوكة لها.
ورغم أن وزارة المالية رحبت بقرار مؤسسة موديز الأخير تأجيل تخفيض آخر للتصنيف الائتماني لمصر لمدة ثلاثة شهور بسبب المصاعب التي تواجه الاقتصاد المصري في ضوء اضطراب الأسواق العالمية، فإن المؤسسة الأمريكية ربطت عدم القيام بهذه الخطوة بتحقيق تقدم في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي المتوقعة في شهر سبتمبر/أيلول بعد تأجيلها من مارس/آذار الماضي.
وقالت الوكالة بوضوح إن قيام الصندوق بصرف الدفعتين الثانية والثالثة من القرض سيساهم في استعادة الثقة في الاقتصاد المصري وقدرته على الوفاء بالتزاماته.
ويسهل التصنيف المرتفع التي تمنحه تلك المؤسسات لاقتصادات الدول الحصول على تمويلات وقروض من المؤسسات الدولية، وهو البديل المفضل لدى الحكومة المصرية من أجل الاستمرار في الإنفاق على المشاريع القومية العملاقة التي لا تدر دخلًا سريعًا.
نهاية الاقتراض بلا حدود
وفي حالة مصر، فإن الدول الخليجية الشقيقة أصبحت تربط بدورها تقديم أي منح أو قروض بتنفيذ الاتفاق مع الصندوق، وما ورد به من التزامات على الحكومة، وعلى رأسها تقليص دور الدولة في الاقتصاد ومنح الأولوية للقطاع الخاص، إلى جانب الالتزام بسعر مرن للصرف، لأن ذلك سيسهل على الصناديق السيادية للدول الخليجية شراء الأصول المصرية بأثمان أرخص.
وأضافت موديز أن المضي قدمًا في برنامج الخصخصة وبيع الشركات المملوكة للدولة من ضمن العوامل التي ستساهم في استعادة الثقة في الاقتصاد، مع الوضع في الاعتبار أن المبلغ الذي أعلنت عنه الحكومة الشهر الماضي كعائد من بيع الأصول، 1.9 مليار دولار، لم يدخل الخزائن المصرية بعد، كما أنه لا يفي بالطبع ولو بجزء ضئيل من الالتزامات المالية المطلوب من مصر سدادها حتى نهاية العام كأقساط وفوائد ديون، ويقدرها البنك المركزي بنحو 11.3 مليار دولار.
ولكن الأهم، وما سيزيد من متاعب المواطنين المباشرة من نواحي المعيشة والغلاء، هو تأكيد موديز على أن استمرار نقص سيولة النقد الأجنبي كما يتضح من السوق السوداء التي يبلغ سعر الدولار فيها الآن 38-40 جنيهًا مقابل نحو 31 في البنوك الرسمية "يفاقم من احتمال خفض قيمة الجنيه في السوق الرسمية، وهو الأمر الذي سينتج عنه زيادة التضخم، وتكاليف الاقتراض، ونسبة الدين الحكومي العام إلى مستويات أكثر اتساقًا مع مستوى تصنيف أقل".
ومن المعروف أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أعلن قبل شهرين أنه لن يوافق على الاستمرار في سياسة التعويم. ولكن يبدو من التقارير الدولية أننا لا نمتلك فسحة من الوقت إذا أردنا أن نتجاوز احتمال إعلان إفلاسنا وعدم قدرتنا على سداد الديون، في ضوء التراجع المتواصل لمصادرنا من العملات الاجنبية.
لو كانت مصر بالفعل أكبر من أن تنهار بسبب التعداد السكاني الكبير، وحجم الاستثمارات الدولية الموجودة بالفعل التي ستتضرر حتمًا، فإن البديل الأهون سيكون الموافقة على إعادة جدولة ديوننا، وإن كان ذلك لن يتحقق سوى وفق شروط شديدة الصعوبة، ستفرض قيودًا صارمة على قدرة الحكومة على الاقتراض بلا حدود، كما فعلت طوال السنوات التسع الماضية.