منشور
السبت 9 مارس 2024
- آخر تحديث
الأحد 24 مارس 2024
يثير الحديث عن إكمال ازدواجية قناة السويس الآن الكثير من التساؤلات عن جدوى المشروع وتوقيته؛ في ظلِّ أزمة اقتصادية طاحنة، ومع تنبيه عالي النبرة من خبراء الاقتصاد، وكذلك من المؤسسات الدولية المانحة للقروض، إلى ضرورة تخفيف، أو وقف، الإنفاق على مشروعات البنية الأساسية العملاقة، والاهتمام بالمشروعات الإنتاجية في كل الاتجاهات.
منذ أيام، فوجئنا بالفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، يعلن أثناء مشاركته في المؤتمر السنوي الدولي للنقل البحري واللوجستيات/Marlog، عن دراسة مشروع لازدواج القناة بالكامل، بالتعاون مع شركتين دوليتين، موضحًا أنَّ عملية الازدواج تلك تبلغ عشرة كيلومترات في البحيرات المرة الصغرى والكبرى، تضاف إلى التفريعة التي بدأ الرئيس عبد الفتاح السيسي حكمه بحفرها، لتصبح 82 كيلومترًا، ورأى أنَّ هذا من شأنه أن يزيد عدد السفن العابرة للقناة.
لن يقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك نية، حسب تصريحات ربيع، بحفر 80 كيلومترًا أخرى، 50 في الناحية الشمالية، و30 في الجنوبية، وبهذا يصبح للقناة خط آخر، أو تصير قناتين، تعبرهما السفن في الاتجاهين بالتزامن، فضلًا عن إقامة مشروعات تقديم خدمات جديدة مثل صيانة السفن وإصلاحها، والإنقاذ البحري، والتزود بالوقود، والإسعاف البحري، وتبديل الأطقم والتزود بالمؤن الغذائية والمياه.
أولوية التاءات الأربع
إذا تحدثنا عن التوقيت، فإنَّ هذا الحديث يأتي في وقتٍ تعاني فيه قناة السويس آثار التوترات الأمنية والجيوسياسية في البحر الأحمر، وخصوصًا باب المندب، منذ أن قرر الحوثيون في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي منع السفن الإسرائيلية من عبور المضيق، وامتد الأمر إلى السفن الأمريكية والبريطانية وأيِّ سفن أخرى تحمل بضائع إلى إسرائيل أو منها، فاضطرت أغلب السفن إلى العودة لطريق رأس الرجاء الصالح.
وهذا التهديد لم يسقط من حسبان ربيع بالطبع، إذ حَمَل حديثُه تقديرًا للخسائر المترتبة على قرار الحوثي، إذ ارتفعت أسعار نوالين الشحن للسفن المتجهة لمواني البحر الأحمر إلى 6800 دولار للحاوية مقارنة بنحو 750 دولارًا قبل الأزمة، علاوة على ارتفاع تكاليف وقود السفن، وتكلفة تأمينها، لتصل في بعض الأحيان إلى 10 أضعاف القيمة السابقة، وكان على المسؤولين عن القناة أن يقفوا بدقة على هذه الخسائر، فعقدوا سلسلة اجتماعات متتالية مع المؤسسات والخطوط الملاحية، وعدد من القيادات الملاحية الدولية، لبحث تداعيات الأزمة الراهنة في البحر الأحمر على القناة.
لا يلوح في الأفق ما يُبشر بأنّ السلطة ستمضي في طريق النجاة
وإذا كان تهديد باب المندب مؤقتًا ومرتبطًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة، فإنَّ انكماش التجارة العالمية لا يزال مستمرًا، لاسيما أنَّ كثيرًا من الشركات الغربية نقلت مصانعها إلى شرق آسيا، فيما يتعزز دور بترول غرب إفريقيا وبحر الشمال بديلًا عن نفط الخليج.
سبق لي أن قلت هذا وقت الإعلان عن حفر التفريعة الأولى، وتمنيت لو ذهبت الأموال التي جمعها الرئيس في أيام معدودات إلى التعليم وتنشيط الإنتاج، ومن ثَمَّ التشغيل، وأكدت أنَّ عائد المشروع سيكون ضئيلًا، وهو ما جرى بالفعل.
اليوم تتحدث السلطة عن أموال بدأت تتدفق من حصيلة "رأس الحكمة"، وبدلًا من توجيهها إلى ما يفيد أكثر؛ التاءات الأربع (التعليم، التصنيع، التصدير، التشغيل) أخشى أن يكون الإعلان عن حفرٍ جديدٍ في قناة السويس ثقبًا أسود يبتلع المال القادم، وكأنَّ هناك إصرارًا على الهروب من الطريق السليم للخروج من الأزمة.
بالطبع فإن هذه التساؤلات، بل الهواجس، هي الأقل وطأة، ليبقى السؤال الأهم هو عن تهيئة القناة لتدخل ضمن مسار "بيع الأصول" أو "تأجيرها"، وعن الإصرار على حشر مصر في زاوية "الدولة الريعية"، وهي عبر تاريخها المديد لم تكن أبدًا في هذا الموضع، ثم السؤال الأكبر عن إبعاد شبه جزيرة سيناء أكثر بمانع مائي جديد؟
ثقب أسود جديد
في المضمار نفسه، لم يمر سوى يومين على تصريحات ربيع، حتى فوجئ المصريون بقرار له أثر كبير في الاقتصاد في قابل الأيام، وقد تتولد عنه ضغوط شديدة، تجد معها السلطة نفسها ذاهبة إلى إدخال القناة ضمن المشاريع المرصودة لجلب نقد أجنبي وفير، يعيد لسوق الصرف توازنها، وقبله يُمكِّن أهل الحكم من الوفاء بما عليهم من فوائد للديون الطائلة.
فما تسميه السلطة "التسعير العادل للجنيه" أو "التعويم الحر" كان متوقعًا، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وغياب الحلول الناجعة، والإصرار على التسويف والترقيع والمراوغة، واعتماد الخداع المتقطع للسوق طريقًا لضبط سعر الصرف.
وهذا يشكل هروبًا من مواجهة الحقيقة، التي تقول دون مواربة إنه دون إنتاج واكتفاء وتصدير، وتعزيز دخلنا من السياحة، واتخاذ إجراءات تشجع المصريين في الخارج على تحويل العملة الصعبة، وقبل ذلك إفساح الطريق أمام القطاع الخاص ليستعيد دور ويعززه، سيتواصل التضخم، وترتفع الأسعار أكثر، فيزيد الفقر في ظل تدني الرواتب والأجور.
ومع الأسف، لا يلوح في الأفق حتى الآن ما يبشِّر بأنَّ السلطة ستمضي في طريق النجاة، مع الإصرار على تبديد كلِّ ما يأتي في مشاريع غير إنتاجية، أو إنشاء مشروعات إنتاج يتم إسناد إدارتها إلى من ليسوا أهلًا لذلك، فتفشل، وتتعمق الخسارة، وتستمر الأزمة، بل الكارثة.
وأمام كل هذا قد لا تجد السلطة أمامها من سبيل سوى التفكير في طرح مشروعات كبرى أمام مستثمرين أجانب، يدركون أنه لا يوجد في مصر الآن ما هو أهم من قناة السويس، لتصبح فرصة لمن لديه استعداد لضخ العملة الصعبة في شرايين الاقتصاد المصري التي جففها الفشل الإداري، والفساد، وإخفاق المشروعات التي تم إطلاقها خلال عقد من الزمن.
وإذا كانت الأموال التي جاءت من مشروع "رأس الحكمة" لم يفض منها الكثير ليذهب إلى الإنتاج في ظل ارتفاع فوائد الديون، فإن الحكومة ستجد نفسها بعد قليل في حاجة إلى تلبية احتياجات المصنِّعين، الراغبين في استيراد مستلزمات إنتاج، وحاجة أشد، كما عودتنا، للبحث عن مصادر لسداد الفائدة الجديدة عن القروض التي لا تتوقف عن طلبها وتلقيها، وهنا قد لا تجد أمامها أفضل من قناة السويس سبيلًا لتحقيق ما تريد.
وسيختلف الأمر من حيث الأثر على الاقتصاد الآني والمباشر، والمرتبط بالأوضاع الاقتصادية للقاعدة العريضة من الشعب، في حال ما إذا كانت هناك شراكة في مشروع ازدواج قناة السويس، أو كانت السلطة في مصر ستقوم بتمويله محليًا لتهيئة القناة أمام الراغبين في هذه الشراكة، أو حتى الاستحواذ على النصيب الأكبر، وفي هذه الحالة سيصبح مشروع "القناة المزدوجة" ثقبًا أسود يبتلع الكثير من الأموال بالعملة الصعبة، لتستمر المشكلة الاقتصادية رغم التعويم.