برخصة المشاع الإبداعي من hippopx
صورة من أحد المنتجعات السياحية في مرسى علم

ليس بمواني اليخوت وحدها نبني الاقتصاد

منشور الثلاثاء 27 فبراير 2024

تنفس المسؤولون في مصر الصعداء بعد الإعلان الأخير عن مشروع تطوير مدينة رأس الحكمة الساحلية على يد شركة إماراتية تمتلكها حكومة الدولة الخليجية الصغيرة ذات التأثير الكبير إقليميًا ودوليًا، ومنح حكومتنا طوق نجاةٍ في وقتٍ بدت فيه الأزمة الاقتصادية الخانقة بلا مخرج، وتزايدت التقارير عن اقتراب الدولة من مرحلة العجز عن سداد أقساط الديون وفوائدها التي تبلغ هذا العام وحده 34.8 مليار دولار.

قبل هذا الإعلان كانت الأزمة خانقةً، وحتى الاتفاق الذي توصلت له مصر مع صندوق النقد الدولي في نهاية 2022 للحصول على قرضٍ إضافي لم يُنفَّذ منه سوى جزء يسير للغاية، دون أن تبدو في الأفق أيُّ فرصٍ لتجاوز الخلافات الناجمة عن تمسك الصندوق والمستثمرين بأن تتخذ مصر مزيدًا من إجراءات تخفيض العملة المحلية قبل ضخ الأموال.

ولكنَّ الأخطر من الأزمة كانت توابعها التي مثّلت قنبلةً موقوتةً بعدما فقد غالبية المصريين قدرتهم على التعايش مع ارتفاعات الأسعار المتوالية وعجز أي زيادات في المرتبات عن ملاحقتها، مع نقصٍ غير مسبوق في السلع الأساسية، وعودة ظاهرة الطوابير أمام المجمعات الاستهلاكية للحصول على كميات ضئيلة في مشاهد لم يرَها أغلب المصريين، بحجة النقص الحاد في العملة الصعبة المطلوبة لاستيراد احتياجتنا الأساسية التي تكدس الكثير منها في المواني.

هذه الصورة القاتمة بدأت تتغير نسبيًا بعد السابع من أكتوبر، وتصاعد الحديث عن الدور المصري المهم في استعادة الهدوء إلى المنطقة وخطط ما يسمى بـ"اليوم التالي لحرب غزة". ولم يعد ملف حقوق الإنسان، الذي تعهدت الإدارة الأمريكية الديمقراطية الحالية بتبنيه أولوية، نقطة نقاش حتى على جداول الاجتماعات المشغولة بمخاطر توسع الصراع الحالي إلى حرب إقليمية.

أشياء جيدة تحدث وحدها

هنا، تحركت المفاوضات فجأةً مع صندوق النقد الدولي، وأبدت مديرته تفهمها للظروف الصعبة التي تمر بها مصر بعد حرب غزة وانخفاض دخل قناة السويس مع تواصل ضربات الحوثيين في البحر الأحمر، وتخلت عن المطلب العاجل الخاص بضرورة المزيد من تخفيض قيمة العملة، وطالبت بالتركيز بدلًا من ذلك على مواجهة التضخم.

هذا الاستثمار الإماراتي السخي كان سيؤثر بدرجة أكبر لو ذهب إلى مجالات التصنيع

وبعد أن تعثرت المفاوضات مع دول خليجية لشراء الشركات الحكومية المطروحة للبيع مع رغبة تلك الدول في تخفيض قيمة العملة للحصول على أسعار منخفضة، تحركت العجلة مرة أخرى وعاد الحديث عن الصفقات الكبرى التي ستنقذ الاقتصاد المصري من أزمته العميقة.

لا يحتاج أيُّ مراقب كثيرًا من الذكاء ليدرك أنَّ أيًا من هذه التطورات لم تكن لتحدث دون مباركة الولايات المتحدة، صاحبة النفوذ والنصيب الأكبر في صندوق النقد الدولي، والمرتبطة بعلاقة استراتيجية مع دول الخليج والضامن الرئيسي لأمنها في مواجهة المخاطر الإقليمية، على رأسها إيران.

ضخ الشركة الإماراتية التي ستتولى تطوير مشروع رأس الحكمة 10 مليارات دولار من السيولة النقدية خلال أسبوع من توقيع الاتفاق، ثم 14 مليارًا بعد شهرين، وكذلك تحويل الوديعة الإماراتية في البنك المركزي؛ 11 مليار دولار، إلى العملة المحلية لاستخدامها في تطوير المشروع، وشطبها من الديون الخارجية، جاء بمثابة جرعة أكسجين قوية أنعشت من كاد يفقد قدرته على التنفس.

ولعلَّ هذا ما يفسر حالة المبالغة في الاحتفاء بالمشروع، واعتباره من إنجازات العهد الحالي، دون أي محاولة للتعلم من دروس الماضي الذي وصل بنا إلى نقطة نعتبر فيها تطوير مدينة سياحية جديدة طوقَ إنقاذ للاقتصاد المصري.  

لم تحقق أيٌّ من مشروعات البناء الضخمة التي أقامتها الحكومة المصرية طوال السنوات العشر الماضية النهضة المرجوة، لأن الاستفادة منها اقتصرت على فئة محدودة من القادرين، وهذا لا يشكّل قاطرةً لنهضة اقتصاد دولة في إقليم مضطرب، يعيش فيها 110 ملايين نسمة.

لا أفهم لماذا يرى المسؤولون في مجرد القدرة على استضافة أكبر مواني اليخوت في جبل الجلالة قبل سنوات، وفي رأس الحكمة اليوم، مصدرًا للبهجة، وهم يديرون بلدًا يعيش نحو ثلث سكانه تحت خط الفقر، فمواني اليخوت لا تبني الاقتصاد وحدها.


ماذا سنفعل في الحرب القادمة؟

لن أخوض هنا في الجدل الدائر حول ملكية الإمارات للأرض من عدمها. فهذه الحجج ليست هي الأكثر أهميةً في الدول الساعية لجذب الاستثمارات الخارجية، مع الوضع في الاعتبار أنَّ أيَّ مشترٍ أجنبي لن يقتطع الأرض من مكانها ويرحل بها وسيضطر للخضوع للقوانين المحلية مهما بلغت درجة الاستثناءات والتسهيلات.

كذلك فإنَّ من يطرحون تساؤلات عمّا إذا ما كانت الإمارات حظت بأسعار تفضيلية لشراء الأرض، يتناسون أنَّ هذه الأرض كانت ستبقى، لولا الاستثمار الخارجي، صحراءَ جرداءَ قيمتها العملية وحتى إشعار آخر "صفر"، ولم تكن الحكومة الحالية التي تقترب من الإفلاس بصدد إنفاق أيِّ أموال لتطويرها وتنميتها. كما سيوفر المشروع فرصًا للعمل قد تتسبب في تحقيق الطموحات الوردية الخاصة بتقليل الكثافة السكانية في الوادي، وإن كان تعمير سيناء أَوْلى باعتبارها الأقرب والأهم.

ولكنَّ التساؤل الذي لم أجد له إجابةً هو المتعلق بما إذا كانت مشاريع البناء والتعمير الطموحة هذه، هي البديل عن بناء قاعدة قوية لاقتصاد محلي تقوم على التصنيع والزراعة، تعزز الاعتماد على المنتج المحلي بدلًا من الوقوع تحت رحمة الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة في منطقة مضطربة، لا توجد مؤشرات أنها ستهدأ قريبًا.

حسنًا، ستقوم دولة الإمارات الشقيقة ببناء هذه المدينة العصرية الرائعة الصديقة للبيئة بما لديها من إمكانات مالية ضخمة، ولكن ماذا لو وقعت أزمة إقليمية شبيهة بما يحدث الآن إثر العدوان الصهيوني على غزة أدت إلى توقف السياحة وتراجع الاستثمارات الأجنبية؟ هل سنعود لصندوق النقد من جديد ونطلب قرضًا آخرَ ونحن نلوم الظروف الخارجية، ونبحث عن مشروع استثماري عقاري جديد؟

منذ بدأت العمل الصحفي، كنت شاهدًا على عدة مراحل اعتقدنا معها أننا بصدد الخروج من عنق الزجاجة، كما حدث بعد المشاركة في حرب تحرير الكويت عام 1991 عندما أسقطت دول خليجية وغربية جزءًا من الديون المصرية، ولكنَّ النشاط الاقتصادي بعدها تركز في المجالات المالية والعقارية لصالح فئة صغيرة مستفيدة، ولم تتحسن حياة غالبية المصريين من الفقراء، لتنفجر ثورة 25 يناير.

المؤكد أنَّ هذا الاستثمار الإماراتي السخي، أو أيَّ استثمار أجنبي آخر، كان سيؤثر بدرجة أكبر لو ذهب إلى مجالات التصنيع والتصدير أو أيِّ قطاعات إنتاجية أخرى تسمح لنا بالوقوف على أرضية أكثر صلابة، لا تهتز مع كلِّ أزمة إقليمية.

ولكن في النهاية، لا تملك حكومتنا السَنِية سوى شكر دولة الإمارات الشقيقة والتعبير عن خالص الامتنان والعرفان على هذه المنحة المهمة التي تسبق شهر رمضان مبارك، لتسمح لها بهدنة مؤقتة لالتقاط الأنفاس. تمامًا كما يتطلع الشعب الفلسطيني لهدنة خلال الشهر الكريم مؤقتة أيضًا، تتوقف فيها أعمال القتل الهمجية لجيش الاحتلال.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.