يروي التقرير المطول لصندوق النقد الدولي الذي صدر مطلع شهر يناير/ كانون الثاني الجاري في 107 صفحات، تزامنًا مع إعلان التوصل لاتفاق من أجل الحصول على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار، ما يشبه القصة الحزينة عن التدهور السريع والحاد للاقتصاد المصري على مدى عام واحد.
العنوان الرسمي لذلك التراجع الحاد هو اندلاع حرب روسيا ضد أوكرانيا، لكن سببه الحقيقي اختلالات جوهرية في بنية الاقتصاد نفسه جعلته معتمدًا على نحو أساسي على التدفقات المالية، التي دائمًا ما تكون عرضة لـ "الصدمات الخارجية" مثل الديون، وما يعرف بـ "الأموال الساخنة"، وتحويلات المصريين في الخارج ودخل قناة السويس والسياحة وتصدير النفط والغاز، والأهم الودائع الممتدة المتجددة لدول الخليج النفطية التي لولاها لأعلن عن إفلاس مصر رسميًا وعدم قدرتها ليس فقط على سداد ديونها، ولكن الأهم توفير الاحتياجات الأساسية لما يزيد عن 100 مليون مواطن.
إذًا تراجَع تدفق هذه المصادر المالية المباشرة، والريعية كما يقول الاقتصاديون، بسبب حروب تمتلئ بها منطقتنا المضطربة، أو هجمات إرهابية، أو وباء مثل كورونا، أو حتى حرب بعيدة مثل التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا، وأثرت على الاقتصاد العالمي بسبب الدور المباشر للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فيهتز الاقتصاد المصري وينكشف الوضع المالي السيئ لأنه لا يقوم على قاعدة إنتاجية حقيقية تعتمد على الصناعة والزراعة وزيادة الصادرات وخلق الوظائف في القطاعات المختلفة.
وإذا أضفنا للواقع الإقليمي والعالمي المضطرب سياسيًا واقتصاديًا توسع الدولة على مدى السنوات التسع الماضية في ما يسمى بالمشاريع القومية عالية النفقات تحت شعار إعداد البنية التحتية الضرورية لجذب الاستثمارات وتنمية الاقتصاد، فإن ذلك سيساعد بالتأكيد في فهم كيف تدهور بنا الحال بتلك السرعة، وإلى درجة أن الجنيه المصري فقد 65% من قيمته خلال 9 شهور، من مارس/ آذار حتى ديسمبر الماضيين.
وبينما أعلنت الحكومة في الصحف المحلية عن قرارها التوقف عن ضخ العملة الصعبة في أي "مشاريع جديدة" بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، فإن التعهد الرسمي الذي تقدمت به في خطاب النوايا المقدم لصندوق النقد الدولي هو "نحن ملتزمون بالتباطؤ في تنفيذ مشاريع الاستثمار العامة، بما في ذلك المشاريع القومية، للحد من الضغوط القائمة على سوق النقد الأجنبي والتضخم".
وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي أطلع فيها على إقرار رسمي من الحكومة أن المشاريع القومية التي طالما أثارت الجدل والخلاف من بين الأسباب الرئيسية للأزمة الاقتصادية الحالية، بدلًا من التمسك بالحجج الرسمية غير المفهومة التي تردد أن نفقات تلك المشاريع "خارج الموازنة" ولم تكلف الدولة شيئًا، بينما هي في الواقع كلفت الكثير والكثير وزادت الديون الخارجية لحدود غير مسبوقة وأدت إلى انهيار العملة المحلية بشكل مفزع.
ورغم مرور مصر بظروف مشابهة في موجة التعويم الأولى الرئيسية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، التي دفعت الجنيه لفقدان 50% من قيمته في ذلك الوقت قبل أن يتماسك نسبيًا، فإن التدهور لم يكن بهذه الحدة أو السرعة. ويتوقع خبراء اقتصاديون أن يتكرر سيناريو 2016 بعد موجات التعويم المتلاحقة الأخيرة، ولكن معدلات التحسن ستكون أبطأ وأقل فائدة للاقتصاد المصري.
وتقر الحكومة في خطتها للإصلاح الاقتصادي المرفقة بتقرير الصندوق أن الوضع على المدى القصير لن يشهد تحسنًا سريعًا، وستتواصل زيادة نسبة التضخم مع استمرار تدهور قيمة العملة المحلية في بلد يستورد غالبية احتياجاته الأساسية وغير الأساسية؛ بل إن بعض شركات الاستثمار العالمية ما زالت تطالب بالمزيد من التخفيض لقيمة العملة المحلية لتصل إلى 33 جنيهًا مقابل الدولار، وذلك لكي يعودوا للإقبال على شراء الديون المصرية وأذون الخزانة.
ورغم البدء في عودة الأموال الساخنة مرة أخرى، وإعلان المسؤولين عن تدفق 925 مليون دولار على مدى الأسابيع القليلة الماضية من مستثمرين أجانب، كذلك توقع ارتفاع قيمة الصادرات من الغاز والنفط وعودة المصريين في الخارج لضخ تحويلاتهم عبر البنوك بدلًا من الاعتماد على السوق السوداء وانتعاش السياحة، فإن كل تلك المصادر المالية لن تضمن بالضرورة العودة لوضع اقتصادي مستقر بشكل سريع وضمان سداد الالتزامات الخارجية من فوائد الديون وأقساطها واستيراد السلع الأساسية مثل القمح والبترول.
المبلغ المحدود لن يكون العصا السحرية لحل أزمة الاقتصاد في ضوء الالتزامات وتضخم الديون
ويستغرق الأمر، وفقًا لتقديرات الصندوق والحكومة المصرية، أربع سنوات هي مدة برنامج الإصلاح الاقتصادي والحصول على دفعات متتالية من قرض المليارات الثلاثة بناء على الالتزام الصارم بما ورد فيه، من أجل العودة بالاحتياطي النقدي في البنك المركزي إلى حدود 41 مليار دولار، وتغطية العجز المتوقع بـ 17 مليار دولار حتى العام المالي 2026/2027.
وقبل اندلاع حرب أوكرانيا، ورغم التراجع الكبير في الاقتصاد العالمي الذي تسبب فيه وباء كورونا، تجاوز احتياطي مصر من النقد الأجنبي، بما في ذلك الأموال الساخنة وودائع دول الخليج، الخمسين مليار دولار. وفي الفترة ما بين فبراير/ شباط ومارس الماضيين، خرج من مصر 20 مليار دولار دفعة واحدة سعيًا وراء أسواق أكثر استقرارًا وقادرة على توفير فوائد مرتفعة، كذلك الدولار نفسه الذي يمكن خروجه لدول وبنوك أخرى في أي وقت.
واضطرت مصر إلى اللجوء مجددًا لدول الخليج التي قامت بإيداع 13 مليار دولار في البنك المركزي، وليبلغ إجمالي الودائع الخليجية الآن 28 مليارًا من إجمالي احتياط أجنبي يبلغ 33 مليارًا. وهذا الوضع هو السبب المباشر الذي دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي للإشادة المتكررة بدول الخليج.
انقسم تقرير صندوق وصفحاته التي تفوق المائة بقليل إلى جزئين، الأول يشمل تقييم الصندوق لحال الاقتصاد المصري وتحديد الإصلاحات المطلوبة بتفصيل شديد وفقًا لجدول زمني صارم وعشرات الرسومات البيانية والجداول التوضيحية التي تنفي ما يردده بعض كبار المسؤولين بأن من ينتقدون الوضع الاقتصادي الحالي يفتقدون المعلومات والصورة الكاملة التي تسمح لهم بالتقييم.
كما يفرض الاتفاق قيودًا مشددة على البنك المركزي لمنع التدخل لضبط سوق الصرف، وعلى وزارة المالية التي التزمت بنشر تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، وتقارير دورية عن الشركات المملوكة للدولة وأصولها ومشترياتها وديونها ومنع حصولها على أي مزايا استثنائية، بما في ذلك توفير العملة الصعبة لشراء احتياجاتها، وضمان المنافسة المتكافئة مع القطاع الخاص.
أما الجزء الثاني فيتضمن خطاب نوايا الحكومة المصرية، وخطتها للإصلاح الاقتصادي التي تبدو متشابهة إلى حد كبير مع ما يطلبه الصندوق، مع اختلاف ملحوظ في وضوح اللغة المستخدمة بشأن تراجع دور الدولة في إدارة الاقتصاد والتخلي التدريجي عنه، ما عدا القطاعات الموصوفة بالاستراتيجية، لصالح القطاع الخاص الذي من المفترض أن يقود عملية التنمية.
لا شك أن خبرة الحكومة الطويلة في التعامل مع صندوق النقد الدولي جعلتهم يدركون جيدًا اللغة المطلوبة التي يفهمها خبراء الصندوق وممثلوهم المقيمون في مصر في مكاتب داخل البنك المركزي نفسه منذ عقود، وذلك لإقرار طلب الحصول على قرض جديد.
ومن السهل جدًا الخروج بكلام منمق باللغة الإنجليزية عن التوجه نحو تقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد والإشارة إلى سلسلة من إجراءات دعم القطاع الخاص وطرح كل أنواع الشركات المملوكة للدولة للبيع لمستثمرين إقليميين ودوليين ومحليين، بما في ذلك الشركات المملوكة للقوات المسلحة، بجانب شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام والاستثمارات المشتركة من خلال صندوق مصر السيادي.
لكن التنفيذ على أرض الواقع أمر آخر، تثبت التجارب السابقة أنه قد لا يتحقق بالضرورة، سواء لأنه لا يوجد لدينا أصلًا هذا القطاع الخاص القوي القادر على قيادة عملية التنمية، أو لأنه قد تحدث تطورات مفاجئة تقنع الصندوق نفسه أن الإسراع في بيع الأصول غير ممكن، سواء لحدوث احتجاجات سياسية واجتماعية أو لعدم وجود مستثمرين راغبين في الشراء، أو في حال تواجدهم فقد يقدمون أسعار شديدة الانخفاض يستحيل معها البيع. بالتالي فإن أقصى طموح الحكومة، وفقًا لوزيرة التخطيط هالة السعيد، هو أن تنتهي من بيع ما قيمته 2 إلى 2.5 مليار دولار بحلول منتصف العام الحالي.
من المؤكد أن هذا المبلغ المحدود لن يكون العصا السحرية لحل أزمة الاقتصاد خاصة في ضوء الالتزامات المطلوبة وتضخم الديون وفوائدها. لكن المقلق أكثر هو أننا نكرر السياسات نفسها مع توقع الحصول على نتائج مختلفة، ونبني مدنًا وسط الصحراء توقعًا لقدوم مستثمرين لم يأتوا بعد، وغالبًا لن يأتوا خلال المستقبل القريب على أقل تقدير.