منشور
الثلاثاء 23 يناير 2024
- آخر تحديث
الثلاثاء 23 يناير 2024
عندما سَمِعْتُ التوقعات بعد الإعلان عن إجراءات التعويم في 2022، بأنَّ سعر الدولار سيتجاوز الخمسين جنيهًا، اعتقدت في البداية أنها من قبيل التهويل والشائعات التي تطلقها جماعة الإخوان.
لكن اليوم، تجاوز سعر الدولار في السوق السوداء حاجز الستين جنيهًا، وأصبح الحديث عن أن عملتنا المحلية المنكوبة قد تواجه المزيد من التدهور وقد تصل قيمة الدولار إلى مائة جنيه، فيما يبدو أنه كرة ثلج تتدحرج دون توقف لتسحق معها جيوب المصريين وقدراتهم المحدودة على تلبية احتياجات أسرهم.
والأسوأ على الإطلاق، غياب أيِّ ضوء في نهاية النفق، مع تحذيرات متواصلة من مؤسسات التقييم المالي الدولية من أنَّ الوضع يتجه فقط نحو المزيد من التدهور، حتى لو توصلنا لاتفاق جديد مع صندوق النقد يمنحنا المزيد من القروض بقيمة قد تبلغ ضعف المليارات الثلاثة التي كنا نطمح لها عند الإعلان عن التوصل لاتفاق بين الطرفين في نهاية عام 2022.
لم يكن الحصول على هذه المليارات الثلاثة سهلًا أساسًا، مع تلكؤ الحكومة المعتاد في تنفيذ الاتفاقيات التي تتوصل لها مع الصندوق مراعاة للوضع الداخلي المتأزم وارتفاع التضخم وأسعار كل المواد الأساسية، بما في ذلك الغذاء، وكذلك الخدمات بمعدلات صاروخية.
وامتنع الصندوق الذي يتخذ من واشنطن مقرًا له عن صرف الشريحتين الثانية والثالثة من القرض بقيمة نحو 700 مليون دولار حتى تنفذ الحكومة شروطه بخصوص ما يسمونه تحرير سعر العملة واتباع سعر صرف مرن. ومعروف بالطبع أنَّ أزمة الحكومة لم تكن تكمن في قيمة المبلغ الذي يعد صغيرًا بكل المقاييس، ولكن الأهم كان الحصول على شهادة صندوق النقد الدولي بأن الاقتصاد المصري عاد للمسار الصحيح، وبالتالي سيكون من الأسهل الحصول على المزيد من القروض لتجنب إعلان الإفلاس.
وبعد الآثار المدمرة للجائحة والحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد المصري، جاءت حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين في غزة لتساهم، غالبًا بإيعاز من البيت الأبيض في واشنطن، في دفع الصندوق إلى التراجع عن شرط الإقدام الفوري على تخفيض قيمة العملة المحلية مجددًا، والقول إنهم سيركزون بدلًا من ذلك على الإجراءات المطلوبة لمكافحة التضخم، وإبداء الاستعداد لمضاعفة قيمة القرض الذي سعت مصر للحصول عليه بشق الأنفس قبل عامين. كما تواردت الأنباء عن استعداد الاتحاد الأوروبي لتوفير بعض التمويل لمصر تحت لافتة المساهمة في جهود منع الهجرة غير الشرعية إلى الجنة البيضاء.
ولكن حتى هذا التوقع باقتراب التوصل لاتفاق جديد مع صندوق النقد لم يمنع مؤسسة موديز المالية من تخفيض تقييم مصر مجددًا من مستقر إلى سلبي. وقدرت مؤسسات الخدمات المالية الدولية أن تسديد قيمة فوائد الديون فقط سيستهلك ثلثي الدخل الإجمالي لمصر بنهاية العام المالي الحالي في يونيو/حزيران 2024. كما بررت تخفيضها لتصنيف مصر، مثل العديد من المؤسسات المالية الشبيهة مؤخرًا، "بالمؤشرات شديدة الضعف المتعلقة بالديون والانكشاف المتصاعد أمام مخاطر ارتفاع قيمة العملة الأجنبية والفائدة".
ولكنَّ السؤال الذي بقي بلا إجابة من أين يأتي المسؤولون عن الملف الاقتصادي بهذه الطموحات؟
لم يكن تخفيض العملة قبل نحو عامين أمرًا سهلًا أو مرحبًا به، بل عُدَّ مَعلمًا آخر من معالم التراجع المنتظم في أداء الاقتصاد الممتد منذ عام 2016 عندما ارتفع سعر الدولار فجأة من تسعة جنيهات إلى عشرين جنيهًا قبل أن ينخفض ويثبت لسنوات قليلة بسعر يقترب من 15.7.
ويرى خبراء اقتصاديون أنَّ ثبات سعر الدولار أكثر من ثلاث سنوات يؤكد مجددًا أنَّ الحكومة في مصر لم ولن تتخلى أبدًا عن التحكم في سعر الدولار في دولة تستورد ما يفوق 70% من احتياجاتها، وعلى رأسها مواد أساسية لا علاقة لها بالرفاهيات وطعام الحيوانات الأليفة، مثل القمح والبترول والمواد الخام والآلات اللازمة لتشغيل المصانع ولتمويل صفقات السلاح وأقساطها.
كان تخفيض قيمة العملة، أو تعويم الجنيه في 2016، كما هو الحال الآن، شرطًا صارمًا من صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار.
ولكن في ذلك الوقت، كان الدعم المالي الخليجي السخي ما زال طازجًا ومتدفقًا، ويكاد يكون غير مشروط. وهو عكس ما يحدث الآن تمامًا، بل بلغ الأمر حد اتهام الدول الخليجية التي دعمت مصر بعد تولي الرئيس السيسي لمنصبه في عام 2014 بالمساهمة مع المؤسسات المالية الدولية في الضغط على مصر من أجل المزيد من تخفيض قيمة العملة.
الافتراض الذي تمسك به النظام بعنف يرفض النقاش أو التشكيك، هو أنَّ الاقتراض الخارجي من أجل الإنفاق ببذخ على "المشروعات القومية" من طرق وكباري ومطارات ومواني ومحطات كهرباء ومدن جديدة، "مقدمة ضرورية" قبل تحقيق الانطلاقة الاقتصادية التي وعدنا الرئيس عام 2015 أن نرى نتائجها خلال عامين، لكنها ستمتد الآن حتى 2030 وفق آخر التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء قليل الحيلة مصطفى مدبولي.
كما يبرر النظام ذلك التوسع المهول في الإنفاق على مشروعات لا تمثل أولوية لأغلبية المواطنين من الفقراء بالرغبة في توفير فرص عمل لمئات الألوف من محدودي الدخل، الذين كانوا سيمثلون وقودًا للاضطرابات لو بقوا عاطلين عن العمل.
ولكنَّ السؤال الذي بقي بلا إجابة بالنسبة لي حتى الآن؛ من أين يأتي المسؤولون عن الملف الاقتصادي بهذه الطموحات والأحلام عن إمكانية تحول مصر فجأة إلى مركز عالمي للاستثمار في منطقتنا المضطربة التي لم تشهد يومًا واحدًا من الاستقرار منذ 2011، وأقدموا بالتالي على إغراقنا في مستنقع الديون الذي نعاني منه حاليًا؟
لقد تصرف النظام وكأنه صاحب حفل عرس ضخم سيدعو له آلاف الضيوف، وبالتالي أنفق ببذخ واقترض باستهتار وكله ثقة ويقين بأنَّ الفرح سيدخل كتب الأساطير بما احتواه من طعام وبرامج للترفيه. ولكن عندما حلَّ موعد العرس أخيرًا، لم يأتِ أحد من الضيوف، وبدأ منظمو الحفل يتشاجرون معه طلبًا لأموالهم وهو يقف عاجزًا عديم الحيلة.
وبعد انهيار الوعد تلو الآخر باقتراب الخروج من عنق الزجاجة لتنتهي الأزمة التي لا تنتهي، ربما تكون أول خطوة للإصلاح الضروري العاجل، إلى جانب البديهيات الخاصة بضرورة زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي والتوقف عن الاعتماد على مصادر الدخل الريعي الخاضع دائمًا للظروف الخارجية مثل السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج، هي أن تصارحنا الحكومة ولو لمرة واحدة بواقع حالنا وما يجب علينا توقعه في المستقبل القريب على أقل تقدير.
هل نحن فعلًا مفلسون؟ ما هي الوسائل التي تتخذها الحكومة للخروج من مستنقع الديون الحالي بجانب اقتراض المزيد والمزيد؟ لماذا تغلق الشركات العالمية أبوابها في مصر؟ استمرار حالة عدم اليقين هو أكثر ما يضر الاقتصاد المصري محليًا وعالميًا، وربما تكون المكاشفة والمصارحة هما المدخل لبدء إجراءات حقيقية للإصلاح الاقتصادي، لو كان هذا الأمر ما زال ممكنًا.