تذهب أغلب التحليلات إلى أن الجنيه المصري سيشهد تخفيضًا في مواجهة الدولار بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية فيما يعده البعض تعويمًا جديدًا. لكن هل يعني هذا بالضرورة تغييرًا في نظام الصرف أم مجرد تعديل في سعر الجنيه كما حدث عدة مرات بالفعل في السنتين الماضيتين؟
ليس بخافٍ على أحد أن صندوق النقد الدولي ومن ورائه أصدقاء في بلدان الخليج العربي يدفعون باتجاه تعديل نظام صرف الجنيه ليتمتع بالمرونة الكافية من خلال آليات السوق الحرة، أي العرض والطلب على الدولار ، وبما يعكس "السعر الحقيقي".
وخرج هذا الطلب إلى العلن في الاتفاق الذي صدق عليه الصندوق في ديسمبر/كانون الأول 2022، كما تجلى الضغط في اتجاه تعديل نظام سعر الصرف فيما يبدو امتناعًا أو تمنعًا من المستثمرين الخليجيين على اختلافهم عن المضي قدمًا في شراء الأصول الحكومية المعروضة للبيع، على أمل اجتذاب تدفقات دولارية تساعد على سد الفجوة التمويلية الضخمة التي يعاني منها الاقتصاد المصري ككل.
غموض التعويم المدار
على المستوى الجماهيري، هناك خلط شائع بين تعديل نظام صرف الجنيه بما يؤدي لتعويمه، أي ترك قيمته بشكل كبير لقوى السوق الحرة من عرض وطلب، وبين تعديل سعر الصرف بتخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار بقرار من البنك المركزي المصري.
والحق فإن الخلط هذا لا يعود لجهل الجماهير وعدم إلمامهم بألف باء السياسة النقدية وعلم الاقتصاد، بقدر ما يعود للغموض الذي يميز نظام سعر الصرف في مصر منذ اتفاق 2016 مع صندوق النقد الدولي، الذي كان من المفترض أن يشتمل على تبني نظام التعويم الكامل، أي أن يتخلى المركزي عن تحديد قيمة الجنيه المصري بصورة مباشرة أو غير مباشرة، معلنة كانت أو خفية، وأن يترك الجنيه لمصيره لتتحدد قيمته "الحقيقية" في ضوء قوى العرض والطلب.
انتهى التعويم المدار مع استنفاد المركزي المصري لاحتياطياته الدولارية
يتذكر كبار السن من أبناء جيلي قرار البنك المركزي بتبني نظام "التعويم المدار" في 2004، وهو نظام تأسس عقب أزمة عملة خانقة في 2003، على بناء البنك المركزي لاحتياطيات من النقد الأجنبي يدافع بها عن قيمة الجنيه في مواجهة الدولار، بالتزامن مع خلق سوق داخلية بين البنوك الخاضعة لرقابته يسمح لها بتداول ما تحوزه من دولارات.
وسُمي هذا النظام بالتعويم المُدار لأنه ليس نظامًا يعتمد سعر صرف رسمي بقرار حكومي أي بأسلوب بيروقراطي منفصل تمامًا عن قوى السوق، وهو النظام الذي كان سائدًا حتى التسعينيات، ولكنه في الوقت نفسه ليس تعويمًا كاملًا يترك الجنيه لحال سبيله عرضة لتقلبات السوق.
حقق نظام التعويم المدار استقرارًا نسبيًا وبعض المرونة طالما كانت لدى المركزي المصري دولارات كافية يضخها في الجهاز المصرفي، من خلال طروحات للبنوك، لتلبية الطلب على العملة الصعبة من أجل تمويل الواردات في المقام الأول.
لكن انتهى التعويم المدار، مع استنفاد المركزي المصري لاحتياطياته الدولارية في أعقاب الاضطرابات التالية على ثورة يناير/كانون الثاني 2011، لنصل إلى الاتفاق مع صندوق النقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، الذي بموجبه تخلت الحكومة المصرية رسميًا عن التعويم المدار لصالح ما كان يُراد أن يكون تعويمًا كاملًا.
لكن هيهات!
تعثر التعويم الكامل
سمح نفاذ مصر إلى أسواق المال العالمية، بالتزامن مع الاقتراض من صندوق النقد بين 2016 و2020 لما يزيد عن 20 مليار دولار، بإعادة بناء احتياطيات المركزي من النقد الأجنبي، وعاد المركزي إلى ما يمكن اعتباره نظام تعويم مدار، لكن بشكل غير رسمي إذ لا يستخدم البنك المركزي ما لديه من احتياطيات للدفاع عن سعر الدولار "شبه الرسمي"، وجرى استبدال هذا بالتنسيق مع البنوك الكبرى، خاصة أن أكبر اثنين منهما مملوكان للدولة، لتحديد نطاق لسعر صرف الجنيه في مواجهة الدولار.
أن يكون التعويم بقرار من البنك المركزي وإن كان بالتنسيق مع كبرى البنوك فهذا هو ما يجعله تخفيضًا لا تعويمًا
وبالفعل ثبَّت المركزي ومعه البنوك المصرية الكبرى سعر الصرف لمدة تقارب ثلاث سنوات بين 2019 و2022 حتى كان هروب رؤوس الأموال الأجنبية في فبراير/شباط ومارس/آذار 2022 ما استدعى تخفيضًا جديدًا للجنيه أمام الدولار بنحو 50%، ليرتفع الدولار الواحد من 15 إلى 30 جنيهًا.
رغم تخفيض قيمة الجنيه، فالتعويم المدار غير الرسمي هذا ظل هو نظام الصرف القائم بما تُرجم إلى تثبيت سعر صرف الجنيه على نحو فعلي منذ ذلك الحين عند 30.9 جنيه للدولار الواحد.
تزامن ذلك مع اتساع نطاق التعاملات في سوق موازية، أي السوق السوداء، التي يميل البعض إلى اعتبار السعر فيها معبرًا عن سعر الجنيه الحقيقي، فيما يرى آخرون أن السوق الموازية عرضة للكثير من المضاربة، ما يجعل سعر الصرف السائد فيها بالغ التقلب وأبعد ما يكون عن أن يصبح "حقيقيًا"، أيًا كان ما يعنيه هذا.
أن يكون التعويم بقرار من البنك المركزي، وإن كان بالتنسيق مع كبرى البنوك، فهذا هو ما يجعله تخفيضًا لا تعويمًا. ويبدو أننا سنشهد تخفيضًا وربما تخفيضات أخرى لقيمة الجنيه في الفترة المقبلة بما يرضي صندوق النقد ومن ورائه المقرضين والمستثمرين الخليجيين، حتى تتدفق الدولارات إلى الاقتصاد المصري.
لكن أن يصحب هذا تعديلًا في نظام الصرف بالتوجه إلى تعويم كامل للجنيه، فهو أمر مستبعد لأسباب عدة، لعل أهمها وجود تقليد مؤسسي طويل لسيطرة الدولة من خلال البنك المركزي والبنوك الكبيرة المملوكة للدولة، التي لا تشملها أي خطة للخصخصة في المرحلة الحالية، على تحديد سعر الصرف لارتباطه بمعدلات التضخم المحلية في ضوء اعتماد مصر الكبير على الواردات الاستهلاكية والإنتاجية، خاصة الغذاء والوقود، ما يجعل سعر الصرف مسألة ذات حساسية اجتماعية وأمنية تحول دون تركه فريسة لتقلبات قوى السوق، خصوصًا وأن هذه لن تعكس فحسب العرض والطلب الحقيقيين بل ستحمل كذلك الكثير من المضاربة.
لذلك يرى بعض المحللين أن قبول الدولة في مصر بتعويم كامل لسعر صرف الجنيه سيكون بمثابة انتحار.
في ظل غياب العوامل الهيكلية التي من شأنها أن تؤدي لزيادة الإيرادات الدولارية للاقتصاد المصري من خلال الصادرات السلعية والخدمية، ومع تردي شروط النفاذ لأسواق المال العالمية من أجل الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة لا لمصر فحسب بل لمختلف الاقتصادات الناشئة، فإن ندرة العملة الصعبة ستترجم إلى انخفاض في قيمة الجنيه، سواء اعترف به البنك المركزي في سعره شبه الرسمي أو ظهر في سعر السوق الموازية.
وفي ظل هذه العوامل، فالحديث عن نظام سعر الصرف لا يتعدى كونه تفصيلة لا علاقة لها حقًا بقيمة الجنيه في مواجهة الدولار، بقدر ما أنها تحدد القنوات المؤسسية التي من خلالها يتم توزيع التكاليف الناجمة عن التدهور في قيمة الجنيه.