لم يكن تعثُّر صفقة استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على المصرف المتحد المصري سوى أحد تجليات الأزمة المتصاعدة بين الرياض والقاهرة، التي لم تنجح حتى الآن جهود الوسطاء الإقليمين في احتوائها رغم ما أبدته مصر من مرونة خلال الأسابيع الماضية.
في الأسبوع الأول من الشهر الجاري أعلنت الحكومة المصرية أنها تعتزم بيع حصص 32 شركة مملوكة للدولة موزعة على 18 قطاعًا حتى مارس/آذار 2024، وذلك إما بطرحها في البورصة أو ببيع حصص منها لمستثمرين استراتيجيين أو كليهما، وستحدد بنوك الاستثمار الخيار الأمثل للطرح الذي سيشمل بنك القاهرة، والمصرف المتحد، وحصة الحكومة في البنك العربي الإفريقي الدولي، بحسب ما أعلن مدبولي خلال مؤتمر صحفي.
وبعد أيام من ذلك المؤتمر الذي كشف فيه عن الشركات التي تستهدف الحكومة طرحها، عقد مدبولي اجتماعًا مع وزيرة التخطيط هالة السعيد والمدير التنفيذي للصندوق السيادي، في إطار متابعة نتائج الجولة الترويجية للاستثمار في عدد من دول الخليج، وهي البحرين وعُمان وقطر والكويت والإمارات.
وزيرة التخطيط قالت إن الهدف الرئيسي من الجولة الترويجية، التي لم تشمل الرياض، هو تقديم العديد من العروض التعريفية عن الاقتصاد المصري، وشرح أهم الفرص الاستثمارية المتاحة فيه بصورة مفصلة، مشيرة إلى أنها ركزت في حديثها مع المستثمرين الخليجيين على أهمية تعزيز دور القطاع الخاص في المجال الاقتصادي، عن طريق إتاحة المزيد من الفرص الاستثمارية الواعدة لدخوله فيها، وزيادة نسبة مشاركته في أوجه التنمية المستهدفة.
استثناء الرياض من جولة السعيد الترويجية التي ضمَّت وفدًا من المسؤولين الاقتصاديين المصريين، هو تجلٍّ آخر للأزمة بين مصر والسعودية التي لا تزال تتمسك بعدد من الشروط حتى تعود المياه إلى مجاريها بين الجارين، بحسب ما ذهب مراقبون.
وذكرت تقارير صحفية أن الرياض نقلت للوسطاء الذين تدخلوا في محاولة تطويق الخلافات، رسالة شملت عددًا من الشروط يجب على مصر تنفيذها لتجاوز الأزمة أبرزها "إقالة ومحاسبة الإعلاميين الذين أساؤوا إلى المملكة وشعبها وحكامها، وتسريع إجراءات تسليم جزيرتي تيران وصنافير، وشروع الحكومة المصرية في تنفيذ أجندة إصلاحات اقتصادية تشمل تحجيم دور الجيش في الاقتصاد، حتى تستأنف السعودية الاستثمارات التي تعهدت بضخها قبل شهور".
وفي محاولة لجبر الشروخ التي أصابت واجهة العلاقة بين البلدين إثر نشر عدد من الكتاب والأكاديميين السعوديين والمصريين مقالات في الصحف الرسمية وتغريدات على السوشيال ميديا، شارك وفد إعلامي مصري برئاسة رئيس المجلس الأعلى للإعلام كرم جبر في المنتدى السعودي للإعلام الذي عقد بالرياض الأسبوع الماضي.
الوفد المصري التقى بمسؤولين إعلاميين سعوديين على رأسهم وزير الإعلام ماجد بن عبد الله القصبى، وحاول التأكيد على متانة العلاقة بين البلدين، وأوضح أن ما قام به بعض الصحفيين المصريين لا يعبر عن توجه الدولة التي عبر مسؤولوها في أكثر من موقف عن امتنانهم للدعم السعودي لمصر في أزماتها المتعاقبة.
يأتي ذلك بعدما فُسر اعتذار عبد الله الجحلان أمين عام هيئة الصحفيين السعوديين في اللحظات الأخيرة عن اجتماع أعضاء الأمانة العامة للصحفيين العرب بالرئيس عبد الفتاح السيسي الذي عقد في القاهرة بناء على دعوة الأخير، رغم تواجد الجحلان بالقاهرة، كتعبير عن غضب السعودية من تناول الإعلام المصري لأزمة البلدين.
ورغم ما تشهده العلاقات السعودية الإماراتية من خلافات، بعضها ظاهر والآخر مكتوم، بسبب تضارب مصالح البلدين في أكثر من رقعة بالإقليم، فإن ذلك لم يمنع أبو ظبي من التوسط لحلحلة أزمة المملكة مع مصر، التي ترى الإمارات أن تركها للغرق في وحل الأزمة الاقتصادية سيكون له تداعيات خطيرة على المنطقة كلها.
وفي إطار سعيه لوضع حد للخلافات، دعا الرئيس الإماراتي محمد بن زايد السيسي لحضور القمة العالمية للحكومات في إمارة دبي منتصف الشهر الجاري باعتباره ضيف شرف، لمنحه منصة يرسل من خلالها رسائل إلى حكام المملكة الذين عبروا في أكثر من موضع عن عمق خلافاتهم مع السلطة في مصر.
لا يمكن لوم الرياض على وضع شروط لاستمرار دعم مصر، اللوم كل اللوم على من أهدر الفرص وأسرف على ما ليس له عائد
وخلال حديثه في تلك القمة حاول السيسي تهدئة الأجواء مع الشركاء الخليجيين، ناسبًا إليهم الفضل في استقرار الدولة المصرية بعد التوترات التي شهدتها بلاده عقب الإطاحة بحكم الإخوان في 2013، "أول ما أسلط الضوء عليه هو الدعم الذي تلقيته من أشقائنا.. فلولا وقوف الأشقاء في الإمارات والسعودية والكويت، لولاه لم تكن مصر لتقف مرة ثانية"، مطالبًا بعدم الالتفات لما تتناقله بعض منصات الإعلام والسوشيال ميديا و"عدم السماح لها بالتأثير على وحدتنا".
واعتبر مرافقون للرئيس السيسي في تلك القمة أن كلامه عن الدعم الخليجي لمصر رسالة مباشرة إلى الرياض ومحاولة لتدارك انزعاج السعودية مما نشرته بعض منصات الإعلام المصري التي وجهت انتقادات وإساءات بالغة للمملكة وحكامها وشعبها، "لا تسمحوا للأقلام والأفكار ومواقع التواصل أن تؤثر على الأخوة بيننا"، أردف السيسي في كلمته.
لم تتجاوب الرياض مع المحاولة الإماراتية لطي خلافاتها مع القاهرة، كما أنها لم تتفاعل بعد مع رسائل الرئيس المصري، وهو ما بدا في عدم إتمامها صفقة الاستحواذ على المصرف المتحد، نتيجة عدم توافق المفاوضين المصريين والسعوديين على قيمة الصفقة وطريقة تنفيذها، "لو كانت الأجواء عادية وخالية من المشاحنات كان الطرف السعودي قبل شروط نظيره المصري لإتمام تلك الصفقة"، يقول مصدر مقرب من صنع القرار لكاتب هذا المقال.
ونقلت وكالة بلومبرج عن أشخاص مطلعين على سير المحادثات بشأن الاستحواذ على المصرف المتحد أن المناقشات بشأن المصرف المملوك للدولة، تعثرت بسبب كيفية حساب تأثير انخفاض قيمة الجنيه المصري على الصفقة.
ويريد صندوق الاستثمارات العامة السعودي، بحسب بلومبرج، تقييم البنك بالعملة المحلية، على أن يحدد المبلغ مستحق الدفع بالدولار في وقت الصفقة وفقًا لسعر الصرف في وقت التنفيذ، فيما يريد البنك المركزي المصري، الذي يمتلك 99.9% من المصرف المتحد، التقييم بالدولار منذ البداية.
وكانت السعودية تعهدت بضخ أكثر من 10 مليارات دولار في اقتصاد مصر التي تحتاج إلى النقد الأجنبي وطرحت للبيع حصصًا في عدد من شركاتها الحكومية، غير أنها لم تتلقَّ سوى جزء ضئيل من التمويل حتى الآن، إذ يراقب المسؤولون الخليجيون عن كثب تحركات الجنيه المصري في أعقاب ثلاثة تخفيضات لقيمة العملة خلال العام الماضي، حسبما نقل تقرير آخر لوكالة بلومبرج نشر نهاية الأسبوع الماضي.
وتريد دول الخليج أن ترى الحكومة المصرية تتخذ خطوات جادة بشأن الإصلاحات التي وعدت بها صندوق النقد الدولي لتأمين الحصول على حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار، وفق ما أوردته الوكالة.
وتشمل التغييرات الرئيسية الحد من مشاركة الدولة والجيش في الاقتصاد وضمان المزيد من الشفافية حول الأوضاع المالية للشركات المملوكة للدولة والشركات غير المدرجة في البورصة.
ومن المرجح أن يؤدي تأخير الحصول على التمويل لفترة طويلة إلى تعميق الأزمة الاقتصادية وزيادة الضغط على الجنيه المصري الذي يتوقع خبراء أن يتم تخفيض قيمته مجددًا، قبل أن تعرض مصر تقريرًا لصندوق النقد الدولي عن مدى تقدمها في تنفيذ تعهداتها نهاية مارس المقبل.
لا يمكن لوم الرياض ولا غيرها من العواصم العربية على التوقف عن دعم مصر أو وضع شروط لاستمرار الدعم، فتلك العواصم التي يتصارع بعضها على زعامة الإقليم في ظل الغياب المصري تبحث عن مصالحها وتريد أن تتحول القاهرة إلى تابعة لها تتماهى مع سياساتها ومواقفها مقابل ما تتقاضاه من مساعدات وقروض. اللوم كل اللوم على من أهدر الفرص وأسرف على ما ليس له عائد ولم يخطط جيدًا لأجندة إنفاقه فوقع وأوقع البلد كلها في هذا الموقف.