فليكر- حساب وزارة الخارجية الأمريكية
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان

العصر العربي الجديد

كيف تتمنى الإمبراطورية السعودية أن تعمل؟

منشور الجمعة 7 يوليو 2023

استضاف بودكاست "فنجان" مؤخرًا الإعلامي السعودي مالك الروقي في حلقة عن السياسة السعودية. لم أكن لأهتم بالسماع عن "إنجازات" النظام السعودي، ولا الكتابة عنه للقارئ المصري، لولا أن الإعلام في البلدين تم تدميره في العقد الأخير.

مالك الروقي هو أحد الوجوه الإعلامية الجديدة لعصر الصوت الواحد، ولد في 1991 وتعلم وتخرج في السعودية، وعمل مراسلًا حربيًا في الجبهتين؛ الجنوبية أثناء بدايات الحرب السعودية على اليمن، ثم درعا بسوريا، وحتى في العراق. ترقى في المناصب سريعًا، عمل كمستشار لجهات حكومية وشخصيات سياسية، حتى أصبح مديرًا للأخبار في mbc.

لكنه اختار أن يظهر في بودكاست فنجان، الذي يقدمه عبد الرحمن أبو مالح وتنتجه شركة ثمانية. وهو بودكاست يتوجه للطبقة السعودية الشابة المتعلمة، التي درست في الخارج، والتي يستهدفها النظام الجديد لبناء فانتازيا الوطنية، رغم أنه وفر لها امتيازات اقتصادية وبيئة استهلاكية لاحتواء رغباتها.

لماذا كان كل هذا؟

ظهرت شركة ثمانية كمنصة إنتاج وثائقية وبودكاست في 2016. كانت مبادرة خاصة لعبد الرحمن أبو مالح، تميزت بارتفاع السقف، وعفوية وصدق الحوارات، وبعد اغتيال جمال خاشقجي اقتربت من ملفات محظورة واستضافت معارضين وشخصيات مغضوب عليها، لكن كل ذلك انتهى في 2021 حين استحوذت عليها المجموعة السعودية للإعلام.

تحول بودكاست فنجان إلى حوار تليفزيوني تقليدي، يستضيف خبراء في التنمية البشرية أو مسؤولين حكوميين. وحمل لقاءه مع مالك الروقي عنوان عريض هو "كيف تعمل السياسة السعودية

الغرض الأساسي من اللقاء، كما يعلنه أبو مالح في البداية، هو محاولة تلمس إجابات لأسئلة معلقة. فمع وصول ولي العهد محمد بن سلمان للسلطة، وانفراده بها بعد عزل ابن عمه الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد، خاضت المملكة حروبًا وصراعات على مختلف الجبهات، بداية من غزو اليمن، ومقاطعة قطر، إلى التصعيد السياسي والاقتصادي مع تركيا ومشاحنات مع إيران في العراق.

ثم فجأة تغيرت الأمور؛ المقاطعة القطرية انتهت، العلاقات الدبلوماسية مع إيران عادت، واُستقبل بشار الأسد في الرياض استقبال الفاتحين. لكن بقي السؤال المعلق، لماذا كان كل هذا؟

السعودية من الوهابية إلي النيوليبرالية

يحاول الروقي، المقرب من دوائر ولي العهد، تقديم إجابات لتلك الأسئلة. وبغض النظر عن مقدار الحقيقة في حديثه، فالأهم هو التصورات التي يقدمها عن تاريخ السعودية ودورها الإقليمي.

يسأله أبو مالح؛ لماذا التغيير؟ فيجيب "لا ما في تغيير"، ثم يتحدث عن الملك عبد العزيز، وقواعد السياسة السعودية التي وضعها. يسأله أبو مالح عن الموقف من أمريكا، فيتحدث عن موقع الملك عبد العزيز من التعاون مع إيطاليا الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وكيف أدى ذلك إلى قصف الإيطاليين للأراضي السعودية. يسأله عن عودة العلاقات مع إيران، فيتحدث عن الصراع بين عبد الناصر والملك فيصل.


هذه العودة دائمًا للتاريخ، خصوصًا لدى المقربين من دوائر ولي العهد السعودي، ليس غرضها تقديم تبريرات تاريخية، بل تقديم سردية جديدة للتاريخ السعودي تتماشى مع، وتشرعن، السياسيات الحالية، وتؤكد اتصالها بالسياسات والأفكار التي وضعها الملك المؤسس. لأن شرعية الحكم في السعودية تظل بعد أكثر من مئة عام مستمدة من العهود والقواعد التي أقرها الملك عبد العزيز.

تتماشى السردية التاريخية التي قدمها الروقي في ذلك الحوار مع السردية التي قدمها ولي العهد نفسه في حواراته القليلة. مثلًا ينفي الروقي في حديثه عن السعودية وقيادتها السياسية أي أجندة أيديولوجية. فهو يرى أن منهج السلطة السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز هو اتباع المصلحة والمنفعة الاقتصادية والتجارية.

والروقي، مثله مثل النخبة الشابة الحاكمة المحيطة بولي العهد، واحد من أبناء التعليم والثقافة النيوليبرالية، يتصورون الحياة بورصة تجارية والغرض منها أن تؤسس وتعمل في شركة وترفع من قيمة السهم، ثم تموت بعد حياة حافلة بالعمل والصور التي توثق أنشطتك الاستهلاكية.

طوال حديثه، لم يذكر الروقي كلمة الإسلام، ولا العلاقة الوجودية بين النظام السياسي والتشريعي في المملكة والإسلام السني. بل في حديثه عن إيران والحوثي تلافى ذكر جوهر الصراع، وهو الخلاف الأيديولوجي والعقائدي بين النظامين.

وكأن الصراع السعودي الإيراني مجرد صراع مصالح اقتصادية ونفوذ سياسي، بينما الحقيقة أنه لولا وفرة أموال البترول لكلا البلدين، ما كان بإمكان النظامين السياسيين أن يستثمرا كل تلك المليارات في تأجيج الطائفية الدينية في المنطقة، والصراعات والحروب العبثية التي تروح ضحيتها دول وشعوب أخرى يستخدمونها كدرع لهم.

مكاسب الحكام وخسائر للشعوب

التفسير الوحيد الذي يقدمه الروقي لما حدث في العقد الأخير، هو أن محمد بن سلمان أراد وضع قواعد جديدة للعلاقات الدولية في الإقليم، وأن الحروب والصراعات كانت وسيلة للوصول إلى المفاوضات الحالية، وحين يسأله أبو مالح "لكن ماذا كسبنا؟"، يدور في إجابته، فالواقع أن قطر مثلًا لم تقدم أي تنازلات أو تغير سياستها، وأن نفوذ إيران لا يزال في سوريا ولبنان والعراق واليمن.

ولكثرة ترديده لكلمة "المصالح السعودية" يقفز السؤال مصالح مَن، الأسرة الحاكمة أم الشعب، ومن الذي يحددها؟ وهل لأي مواطن طرح بدائل لتلك السياسات؟ لقد تم إصدار أحكام بالإعدام على ثلاثة أشخاص من قبيلة الحويطات لاعتراضهم على الإخلاء القسري من أرضهم لمشروع نيوم، وتم فرض عمليات الهدم والتوسع على سكان مدينة جدة دون حوار مجتمعي، ودون استماع لاعتراضات المعماريين والأثريين.

في وجود الامبراطورية على الجميع أن يحني رأسه للشمس.

كيف تعمل السياسة السعودية إذن؟

نشر سلطان العامر، الباحث والزميل الزائر في مركز دراسات الشرق الأوسط في هارفارد، مؤخرًا مقالًا بعنوان النظام الإقليمي العربي وبشار الأسد، ودون أن يقصد ردَّ سلطان على ادعاءات الروقي.

فمثلًا، بينما يرى الروقي أن تحول السعودية تجاه بشار الأسد وإيران، سببه سعيها للبحث عن مصالحها، واستخدام الدبلوماسية لخلق نفوذ لها في الشام، يقول سلطان العامر إن السبب المعلن لتعليق عضوية سوريا بجامعة الدول العربية كان "تمسك الجامعة بوضع حد للعنف والقتل المستمر، وضرورة أن يستجيب النظام لتطلعات الشعب السوري في إجراء التغييرات والإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنشودة".

وتغيُّر الموقف يرجع، كما يقول مقال العامر​​، إلى ما حدث في مصر في 2013، حين انتهى حلم الربيع العربي، وزال الخطاب الإصلاحي و"برز خطاب ناشئ يتسم بموقف مشترك لا يتزعزع ضد الحركات الإسلامية. وعلى عكس سابقه، لا يقدم هذا الخطاب الجديد التزامات سياسية صريحة، بل يشدد بدلًا من ذلك على "الحقوق الأصلية" للمواطنين العرب، على النحو المنصوص عليه في إعلان قمة جدة، الذي يعطي الأولوية "للتنمية المستدامة والأمن والاستقرار وظروف العيش السلمي".

وفي إطار ذلك الخطاب، يُنظر إلى عصر العولمة أنه انتهى، ويُعتقد أن العالم يدخل مرحلة جديدة يتشكل فيها نظام دولي جديد. ويتجلى ذلك في الخطابين اللذين ألقاهما الرئيس التونسي قيس سعيد والأسد. أعلن سعيد أن "العالم يمر بتشكيل جديد" وأنه "لا ينبغي إعادة تشكيله مرة أخرى على حساب أمتنا وقدرات شعبنا. وبدلًا من ذلك، نريد أن نكون شركاء متساوين". بينما قال الأسد إن "النظام الدولي يتغير إلى نظام متعدد الأقطاب"، وبالنسبة له يوفر هذا للعرب "فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا مع حد أدنى من التدخل الأجنبي".

وإلى جانب هذا الفهم للعالم كان هناك رفض متكرر للتدخلات الأجنبية، جاء في إعلان جدة، وتكررت الرسالة نفسها في خطابات عدد من القادة، مثل مصر والبحرين.

ملكيات صغيرة تحت ظل الإمبراطور

تعمل السياسة السعودية لصالح ترسيخ النموذج السعودي، دولة مركزية جميع مفاتيحها في قبضة رجل واحد، لا يُناقش أو يُحاسب. ويختلط في عقله علم السياسة بالإدارة، فيرى نفسه رئيسًا لشركة لا بلد ومواطنين. ويصبح هدفه كيفية تحويل كل ما في البلد لشركات يمكن طرحها في البورصة. وبدلًا من مشاريع الإصلاح العربي التي كانت تتحدث عن رفع معدلات التنمية، وإشراك المواطنين في اتخاذ القرارات والمحاسبة، أصبحت المشاريع العربية، هي خصخصة الشركات العامة، أو إنشاء مدن وعواصم للأشباح والروبوتات في الصحراء.

أما المرحلة الجديدة فكارت التأمين الأخير لتلك الأنظمة، فإذا كانت السعودية في أمان نسبي بفضل البترول الذي ترتفع أسعاره كلما زادت الحروب في العالم، فهذا ليس وضع الأنظمة العربية الأخرى، التي قبلت الاندماج في النظام الإقليمي الإمبراطوري السعودي الجديد، طمعًا في دعم مالي عند اللزوم، ودعم سياسي حين يحين الوقت لتطبيق سيناريو بشار الأسد.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.