الاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين السعودية وإيران بوساطة صينية هو ذلك النوع من الأخبار المفاجئة التي تربك حسابات المحللين والمراقبين، وذلك لحدوثه دون أي مقدمات أو تسريبات مسبقة.
نعم الكل يعلم أنه كانت تجري مفاوضات مباشرة بين المملكة السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بوساطات عمانية وعراقية خلال السنوات القليلة الماضية، وأنه عدة جولات جرت دون أن تسفر في النهاية عن تقدم حقيقي نحو خلق الثقة بين الطرفين، اللذين لا تفرقهما فقط المخاوف من الهيمنة الإقليمية، ولكن أسباب أكثر تجذرًا بين الدولة التي تدعي زعامة العالم المسلم السني، وتتبنى عقيدة وهابية محافظة متشددة، مقابل الجمهورية الثورية الإيرانية التي صدَّرت نفسها مدافعة عن شيعة العالم، وقبلها كممثلة لحضارة فارسية قديمة يرونها أكثر تطورًا ورقيًا من جيرانهم في شبه الجزيرة العربية.
الجديد إذن هو أن يكون الاتفاق برعاية الصين التي لم يعرف عنها التدخل لحل النزاعات الإقليمية والدولية بصفتها وسيط للسلام، وفي وقت يتصاعد التوتر بينها وبين الولايات المتحدة التي تحاول التمسك بموقعها كدولة عظمى وحيدة في العالم وفقًا لترتيبات مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق في 1991.
لماذا الآن؟
وإذا كان هناك ما يجمع بين أطراف الاتفاق الثلاثة بوضوح، فهو أنهم جميعًا يرغبون في توقيع أكبر ضرر ممكن بالإدارة الديمقراطية الحالية في الولايات المتحدة، والتقليل من فرص الرئيس الأمريكي جو بايدن في الفوز بفترة رئاسية ثانية، حتى لو لم يتم تنفيذ كل تفاصيل الاتفاق نفسه بطريقة تتجاوز الخلافات العميقة والمتجذرة القائمة بين السعودية وإيران.
فولي العهد السعودي الشاب محمد بن سلمان لن يتجاوز حقيقة أن إدارة بايدن أعادت الجدل بشأن دوره الشخصي في واقعة قتل وتقطيع جثة الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية بإسطنبول في 2018، بعد أن نشرت فور دخولها البيت الأبيض، التقارير السرية الأمريكية المتعلقة بتلك الواقعة.
فور الإعلان المفاجئ عن التوقيع على الاتفاق في بكين يوم الخميس الماضي، تركزت معظم التعليقات في وسائل الإعلام الأمريكية على أنه يمثل ضربة قوية ومحرجة لبايدن
ولم يتلقَّ بن سلمان تلك الضربة صامتًا، ورد الصاع صاعين بقراره نهاية العام الماضي تخفيض إنتاج منظمة أوبك بنحو مليوني برميل، وذلك بعد أن أجبر الرئيس العجوز بايدن على ابتلاع وعوده السابقة بعزله دوليًا واعتبار المملكة دولة "منبوذة" بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان، واضطره لزيارته في الرياض في يوليو/تموز الماضي لمطالبته بضخ المزيد من النفط دعمًا لجهود واشنطن في عزل موسكو ومنعها من الاستفادة من دخلها المتصاعد من النفط في تمويل حربها ضد أوكرانيا.
أما إيران فتشعر بخيبة أمل كبيرة لعدم تحقيق الإدارة الحالية لوعودها بالعودة إلى الاتفاق النووي الذي توصل له الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في 2015، وانسحب منه دونالد ترامب لاحقًا وفرض بدلًا منه عقوبات مشددة ومتصاعدة ضد طهران.
وفي الوقت نفسه، تساهم الأجهزة الأمنية الأمريكية بنشاط في عمليات سرية عديدة مع إسرائيل لتعطيل البرنامج النووي الإيراني واغتيال العلماء الإيرانيين ومجابهة نفوذها في دول المنطقة، إلى جانب توفير الدعم للاحتجاجات الداخلية المتوالية ضد نظام الملالي والقيود المشددة المفروضة على النساء وكل أشكال المعارضة في إيران.
وبالنسبة للطرف الثالث، الصين، نجم الاتفاق الإيراني-السعودي، فلا يكاد يمضي يوم تقريبًا إلا ويتم فتح ملف متفجر جديد في التوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة، والاتهامات الأمريكية المتتالية للصين إما بالسعي لضم تايوان، أو "التفكير" في تقديم مساعدات عسكرية لروسيا في حربها الدائرة منذ عام ضد أوكرانيا وكذلك سرقة التكنولوجيا الأمريكية، بل والتسبب في نشر فيروس كورونا بعد أن تسرب من أحد المعامل الصينية، بجانب التجسس على الأراضي الأمريكية باستخدام مناطيد هوائية يتم إسقاطها بطائرات مقاتلة وصواريخ فائقة السرعة.
تهميش واشنطن
وفور الإعلان المفاجئ عن التوقيع على الاتفاق في بكين يوم الخميس الماضي، تركزت معظم التعليقات في وسائل الإعلام الأمريكية على أنه يمثل ضربة قوية ومحرجة لبايدن، ويؤكد التهميش المتزايد لدور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث هيمنت منذ عقود على كل مقدرات الأمور هناك بحكم رعايتها الرسمية لإسرائيل والعلاقات الوطيدة التي جمعتها مع دول الخليج النفطية تحديدًا، والتي تضمنت إقامة قواعد عسكرية دائمة لحمايتها من أي مخاطر محتملة من جيرانها الطامعين في نفطها، كما كان الحال مع عراق صدام حسين سابقًا، ولاحقًا إيران التي يحكمها آيات الله.
وفي ظل الصعود المنتظم للصين كقوة اقتصادية عظمى، شاء من شاء وأبى من أبى، يرى كثير من المحللين في الاتفاق دليلًا آخر على إعادة ترتيب أوضاع العالم مجددًا ليكون قائمًا على تعددية الأقطاب المهيمنة، بدلًا من سيطرة دولة واحدة فقط على مقدراته بحكم قدراتها العسكرية والاقتصادية الهائلة.
المسؤولون في إدارة بايدن سعوا للتقليل من أهمية الاتفاق، وقالوا إن كبار المسؤولين السعوديين أخبروهم مسبقًا بتفاصيل ما كان يجري، وأن هدفهم الرئيسي وقف إيران عن دعم الجماعات التي تهدد أمن المملكة، سواء الحوثيين في اليمن أو حزب الله في لبنان.
كما وصفوا بـ"الحديث المرسل" كل ما يتردد عن إعادة ترتيب العالم والزلزال الإقليمي وتمكن الصين من حل خلاف عميق لم تتمكن أي دولة أخرى من حله، غالبًا لإدراكهم حجم الخلافات العميقة وانعدام الثقة بشكل شبه كامل بين السعودية وإيران منذ نجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بالشاه في 1979.
محطات في الصدام
لم تكن العلاقة مريحة مع الشاه الراحل رضا بهلوي في ضوء الشعور المترسخ لدى إيران بتفوق "الحضارة الفارسية" وحقيقة أن إيران دولة قديمة في المنطقة مقابل دول حديثة ناشئة قليلة السكان ولكنها فاحشة الثراء بسبب أموال النفط. وسواء في إيران الشاهنشاية أو في الجمهورية الإسلامية الشيعية، لا يوجد ما يسمى بـ "الخليج العربي" ولكنه "الخليج الفارسي".
وما زاد من المخاوف السعودية والخليجية الحقيقية من إيران كان البعد الشيعي الطائفي في النظام القائم منذ 1979، الذي استهدف الأقلية الشيعية المضطهدة في المملكة، التي تسبب إعدام أحد كبار قادتها في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل ثماني سنوات، بعد أن هاجمت الجماهير الإيرانية الغاضبة مقر السفارة السعودية في طهران.
وفي نهاية العام 2010، تسرب عبر موقع ويكيليكس الشهير، تقرير أرسلته السفارة الأمريكية في الرياض أبريل/نيسان 2008 بخصوص لقاء جمع بين العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله وديفيد ديفيد بتريوس القائد الأسبق للقيادة المركزية بالجيش الأمريكي، طالبه خلاله صراحة أن تقوم الولايات المتحدة بضرب إيران بعد أن أجهزت على عراق صدام حسين وسلمتها على طبق من فضة لطهران.
وقال الملك عبد الله إنه يريد من واشنطن أن "تقطع رأس الأفعى" في انعكاس لمدى العداء الدفين بين السعودية وإيران. كما وصف الملك عبد الله إيران بأنها ليست "جارًا يريد المرء رؤيته"، وإنما وصفها "بالجار الذي يريد المرء تجنبه".
الخلافات بين السعودية وإيران تدفع إدراة بايدن، وكذلك حكومة نتانياهو في إسرائيل، إلى التأكيد أن الاتفاق الذي رعته الصين قد لا يكون بالضرورة علامة فاصلة نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات
وأضاف أن حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي سيكون إنجازًا رائعًا، لكن إيران ستجد طرقًا أخرى لإثارة المتاعب، "وخلاصة القول هي أنها لا يمكن الوثوق بها".
لم يكن ولي العهد الشاب محمد بن سلمان أقل تشددًا تجاه إيران، بل رفع من سقف التوتر بالتهديد المتكرر أن بلاده ستلجأ بدورها للسعي لامتلاك تكنولوجيا نووية لو لم يتمكن العالم من منع إيران من امتلاك أسلحة نووية. كما خاض مواجهات مباشرة مع أذرع إيران في دول المنطقة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وأبدى انفتاحًا في النظر في تطبيع العلاقات مع إسرائيل واتخذ قرارًا بفتح المجال الجوي السعودي أمام الطيران الإسرائيلي، أساسًا على خلفية التهديد الذي تمثله إيران لكلتا الدولتين.
ورغم أن إعلان التوصل إلى الاتفاق مع إيران مثل إحراجًا لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، كما كان حال بايدن، في ضوء زعمه أنه الوحيد القادر على التوصل لاتفاق تاريخي لتطبيع العلاقات مع الرياض، فإن المسؤولين السعوديين أكدوا أنهم مستعدون لتطوير العلاقات مع إسرائيل، خاصة لو توفرت ضمانات أمريكية من قبيل تطوير برنامج نووي سعودي سلمي، وكذلك منحها أسلحة امتنعت واشنطن سابقًا عن تزويدها بها.
الأسباب المتعددة والعميقة للخلافات بين السعودية وإيران هي ما تدفع إدراة بايدن، وكذلك حكومة نتانياهو في إسرائيل، إلى التأكيد أن الاتفاق الذي رعته الصين قد لا يكون بالضرورة علامة فاصلة نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، والتركيز، على سبيل المثال، أن البلدين اتفقتا على تبادل السفراء خلال شهرين وليس بشكل فوري، وهي فترة كافية لتأجيل تنفيذ الاتفاق لو نشأت أي خلافات جديدة في منطقة تموج يوميًا بتطورات غير متوقعة.
قد تكون تلك التوقعات صحيحة، وسيستمر بالطبع التنافس المحموم بين السعودية والرياض، ولكن الرسالة التي أراد أطراف الاتفاق الثلاثة إيصالها لإدارة بايدن، ورغبتهم في إحراجه قبل إعلانه رسميًا الترشح لفترة رئاسية ثانية خلال أشهر قليلة، قد وصلت بوضوح وأحدثت الأثر المطلوب.