قد يبدو نظام الرئيس السوري بشار الأسد منتشيًا هذه الأيام، سعيدًا بالزيارات الدبلوماسية المتبادلة مع دول عربية عدة كانت تقاطعه وتسعى لإسقاطه، بعد اندلاع الثورة الشعبية ضده منتصف مارس/آذار 2011، أصبح اليوم يُستقبل فيها بحفاوة.
ورغم أن الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا قبل شهرين أعطى أنصار إعادة دمج الأسد دفعة إضافية لتسريع مسار التطبيع، فإن القرار بطي صفحة الماضي والتعامل مع النظام السوري باعتباره أمرًا واقعًا كان مُتخذًا بالفعل منذ سنوات، وإن على مضض، بين القوى الإقليمية والدولية.
جرت مياه كثيرة منذ اندلاع الثورة السورية قبل 12 عامًا ضد نظام عائلة الأسد الذي ابتدع ظاهرة التوريث في العالم العربي، وانتقلت من دمشق إلى القاهرة فبغداد فطرابلس فعدن. ولكن زاد النظام السوري على نظرائه العرب في التعامل بعنف بالغ مع الثورة الشعبية ضده، مع الوضع في الاعتبار خلفيته الطائفية باعتباره منتميًا لأقلية علوية شيعية وسط غالبية سنية، حتى ولو تبنى خطابًا قوميًا عربيًا بعثيًا للتغطية على هذه الحقيقة.
وفتح ذلك العنف المفرط والذي بلغ حد القصف بالطائرات والدبابات والبراميل المتفجرة والغازات السامة الباب واسعًا أمام التدخلات الخارجية من كل الدول الإقليمية المؤثرة المجاورة، وعلى رأسها تركيا وإيران، وكذلك الأطراف الدولية، وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة.
تغير الموقف الرسمي العربي يعكس بشكل أكبر تغير التوازنات الإقليمية في المنطقة
ووسط كم هائل من المشاكل الدولية العاجلة، تراجع الاهتمام بالحرب في سوريا، وبات المجتمع الدولي يتعامل مع الوضع الإنساني المزري هناك بلا مبالاة، وظل اهتمام الدول الغربية الأساسي وضع حد لتدفق اللاجئين السوريين الذين انتشروا في بقاع الأرض. والنتيجة أن ملايين الأطفال السوريين لم يعرفوا طوال ما يزيد عن العقد سوى مشاهد الدمار والحرب، ويعيش مئات الألوف في مخيمات منذ سنوات تفتقد الحد الأدنى للحياة الآدمية صيفًا وشتاءً.
بين الدولة والنظام
وبعد 12 عامًا، لم تعد هناك عمليًا دولة سورية، بل نظام يعتمد في تأمين بقاءه في المناطق التي تخضع لنفوذه على حليفه الأقرب والتاريخي، إيران، بجانب القوات الروسية وتشكيلة من الميليشيات الشيعية القادمة من كل دول العالم وعلى رأسها لبنان والعراق وأفغانستان.
كان للتدخل الروسي في سوريا عام 2015 عامل الحسم في قلب المعادلة لصالح بقاء النظام، ولذلك لا يبدو مستغربًا أن بشار الأسد اختار تاريخ اندلاع الثورة الشعبية قبل 12 عامًا لكي يزور موسكو منتصف الشهر الماضي، ويؤكد لرئيسها فلاديمير بوتين أن قوات بلاده يجب أن تبقى في سوريا للأبد، ودعاه لزيادة عدد القواعد العسكرية الدائمة هناك، والمطلة جميعها على ساحل البحر المتوسط.
وتبقى الحقيقة المرة أن القرار العربي بالتطبيع مع النظام السوري لن يؤدي إلى تحسين الأوضاع المأساوية للملايين من السوريين الذين يعانون الفقر المدقع، ويعيش نصفهم ما بين نازح ولاجئ، ولا لمحاسبة النظام عما يزيد عن نصف مليون قتيل على مدى السنوات الـ12 الماضية وآلاف المفقودين وحالات صارخة لانتهاكات حقوق الإنسان ارتكبها النظام وكذلك فصائل المعارضة، والتي باتت تهيمن عليها الفصائل المتشددة والإرهابية.
بل إن عودة العلاقات العربية مع النظام السوري لن تعني بأي حال وقوع تغيرات على الأرض بشكل فوري في ما يتعلق بمناطق النفوذ المقسمة بين النظام و داعميه، من ناحية، وفصائل المعارضة الإسلامية والكردية التي تحظى بدعم تركي وأمريكي وبريطاني وفرنسي، من ناحية أخرى.
ولكن تغير الموقف الرسمي العربي يعكس بشكل أكبر تغير التوازنات الإقليمية في المنطقة في ضوء كل ما يشهده العالم من تغيرات دفعت المراقبين لمناقشة ما يسمى بـ"النظام العالمي متعدد الأقطاب"، واحتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها أسلحة نووية، وتحديدًا منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا قبل أكثر من عام، واعتبار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون أن تلك الحرب محاولة من روسيا لتغيير قواعد النظام العالمي الذي تهيمن عليه.
وفي هذا السياق يعتبر التطبيع الرسمي العربي مع النظام السوري ورقة من ضمن أوراق عدة يتم استخدامها في إطار تلك التغيرات التي تشهدها المنطقة، وعلى رأسها العودة المرتقبة للعلاقات بين إيران والسعودية في أعقاب الاتفاق الذي تم توقيعه مؤخرًا في بكين، بوساطة صينية هي الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة التي تهيمن عليها أمريكا.
ربما تشهد القمة العربية المقبلة في الرياض الإعلان الرسمي لعودة نظام بشار إلى "الحاضنة العربية" عديمة الفاعلية
بالطبع النظم العربية السلطوية التقليدية لم تكن ترغب في يومًا في مقاطعة النظام السوري، وكانت ترى في الثورة السورية نموذجًا آخر لما جلبته محاولات السعي للإطاحة بنظم ديكتاتورية فاسدة استمرت لعقود من مصائب وكوارث للمنطقة، كما هو الحال في ليبيا واليمن.
ومنذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنصبه قبل تسعة أعوام، وردت تقارير عدة عن اتصالات ودية مع النظام السوري وزيارة قام بها مدير المخابرات السورية للقاهرة، وسط تلميحات بأن الأولوية يجب أن تكون للحفاظ على وحدة سوريا الدولة، وبغض النظر عن الموقف من النظام. والحديث يجري دائما عن الدولة وكأنها كيان مستقل منفصل مكون من حدود وأراضٍ، ولا يحدد مصيره الشعب الذي يسكنه.
توازنات إقليمية
ولكن التوازنات الإقليمية التي كانت قائمة عند اندلاع ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها تحالف الولايات المتحدة مع دول الخليج وتحديدًا السعودية والإمارات وقطر، الذي اتفقت أطرافه على ضرورة التخلص من نظام بشار الأسد في إطار المواجهة الأوسع مع إيران، لم تعد قائمة الآن.
كانت الإمارات أول المنسحبين من ذلك التحالف، وذلك في سياق رؤيتها أن الأولوية يجب أن تكون دائمًا لمحاربة جماعات الإسلام السياسي، وأن نظامًا يقتل شعبه بدم بارد أفضل من نظام تتحكم فيه جماعات إسلامية، سواء انتمت للإخوان أو لتنظيم داعش.
وبالتالي كانت أبو ظبي أول عاصمة عربية تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق في 2018، وتعمل بقوة على إحداث تقارب مماثل بين سوريا وتركيا رغم كل ما بينهما من نزاع. ولكن بقي التحالف القوي بين القاهرة والرياض مانعًا قويًا أمام مصر من اتخاذ خطوة مماثلة للإمارات.
وبعد توقيع الاتفاق بين السعودية وإيران مؤخرًا، اكتسبت الدعوة لتطبيع العلاقة مع نظام بشار زخمًا جديدًا، وأعطت الضوء الأخضر لدول عدة لكي تعبر عن دعمها علنا لضرورة "عودة سوريا إلى الحاضنة العربية"، وذلك على اعتبار أن استئناف العلاقات بين الرياض وطهران، الحليف الأكبر لبشار، سيمهد الطريق لتلك الخطوة.
وزادت التوقعات كذلك باحتمال التوصل لعدة تسويات مماثلة لنزاعات ممتدة في المنطقة تتواجه فيها إيران والسعودية كما هو الحال في اليمن، ذات الأهمية الاستراتيجية المباشرة للمملكة، ولبنان التي تراجعت أهميتها في سلم أولويات الرياض.
ويبدو أن الرياض بدورها في طريقها لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، وأعلنت مؤخرًا أنها ستقوم بإعادة فتح قنصليتها هناك، وهو ما يوحي بأن خطوة تطبيع العلاقات بالكامل بين مصر وسوريا وعودة السفراء بين البلدين قد تتحقق في المستقبل القريب جدًا، بعد أن رفعت السعودية الفيتو المفروض على تلك الخطوة.
وربما تشهد القمة العربية المقبلة في الرياض في 14 مايو/أيار الإعلان الرسمي لعودة نظام بشار إلى "الحاضنة العربية" عديمة الفاعلية والمسماة بـ"جامعة الدول العربية"، خاصة بعد إعلان السعودية أنها ستوجه دعوة رسمية للرئيس السوري لحضور القمة.
قطر وحدها
فقط قطر تقف حتى الآن حجر عثرة أمام العودة الكاملة لنظام بشار الأسد الذي تلاحقه دعاوى ارتكاب العديد من جرائم الحرب إلى النظام الرسمي العربي من خلال "الجامعة العربية"، أساسًا بسبب العلاقة المتميزة التي تربط بين الدوحة وإدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن منذ وصوله للبيت الأبيض قبل أكثر من عامين.
فحتى الآن لا تزال واشنطن ترفض إعادة دمج النظام السوري، وكان ردها على التوجه العربي، وتحديدًا السعودي، نحو تطبيع العلاقات مع دمشق هو فرض المزيد من العقوبات على نظام بشار بزعم اتجار عدد من المسؤولين البارزين فيه في تهريب المواد المخدرة.
بينما قد يبدو مفهومًا الموقف المتغير لبعض الأنظمة العربية من نظام بشار، والقائم على حسابات إقليمية ودولية، وللنكاية في إدارة بايدن، فإن غير المقبول أو المفهوم أو الأخلاقي أن تتبنى بعض القوى السياسية- التي شاركت في ثورات الربيع العربي ضد ديكتاتورية مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي، ومشاريعهم للتوريث- هذه الدعوة نفسها لرفع العزلة عن نظام بشار، من دون حتى الإشارة إلى ضرورة محاسبة النظام عما ارتكبه من جرائم في حق شعبه على مدى السنوات الـ12 الماضية، أو التشديد على أن المدخل لاستعادة الدولة السورية ووحدة أراضيها هو عقد انتخابات حرة نزيهة يختار من خلالها الشعب السوري من يحكمه بدلًا من تلك الانتخابات المسرحية المعتادة، التي يتقنها النظام السوري كأنظمة عدة في المنطقة.
عدا ذلك، فإن "الحاضنة العربية" التي سيعود لها نظام بشار ستبقى حاضنة متهالكة وعديمة النفع، والتطبيع سيكون مع نظام فاسد قمعي، لا مع الشعب السوري.