
حرب غزة التي لا تنتهي وتجدد مخطط التهجير
تقول التقارير الإخبارية الغربية إن إسرائيل طلبتْ من الوسطاء المصريين والقطريين إبلاغ قادة حركة حماس أن التهديد بإعادة احتلال مدينة غزة وتهجير سكانها عنوة مجددًا إلى جنوب القطاع ليس حربًا نفسية، بل خطة يصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على تنفيذها، بعد أن يتفضل جيش الاحتلال "الإنساني" ببناء مخيمات ضخمة لهم وتقديم الغذاء والدواء، طبعًا بعد اجتياز الاختبارات الأمنية للسماح لهم بدخول تلك السجون.
لتأكيد ذلك، كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية مطلع هذا الأسبوع أن جيش الاحتلال بدأ بالفعل في نقل خيام ومعدات من أجل إقامة المخيمات التي سينقل سكان مدينة غزة عنوة إليها بعد بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية الموسعة لاحتلال القطاع بالكامل.
كما أعلن الجيش الإسرائيلي أنه بصدد إصدار أوامر جديدة لاستدعاء آلاف جنود الاحتياط المنهكين في حرب ممتدة منذ 23 شهرًا، في وقت تتصاعد فيه الاحتجاجات الداخلية بقيادة أُسر المحتجزين لدى حماس، الذين يدركون جيدًا أن هذا الهجوم العسكري الجديد سيقتل على الأغلب أبناءهم وأقاربهم المتبقين.
ومع انشغال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بملف الحرب الروسية الأوكرانية، ولقائه الأخير بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، تزيد مخاوف عائلات المحتجزين، حيث لا تظهر مؤشرات على أن ترامب بصدد ممارسة ضغط حقيقي على حليفه نتنياهو للامتناع عن خطة غزو غزة. وهو لا يزال متمسكًا حتى الآن بموقفه بأن "الأمر يعود إلى إسرائيل لتأخذ القرار المناسب" بشأن خطتها.
وفي الوقت نفسه، تواصل إدارة ترامب العمل بشكل مستقل مع حكومة نتنياهو في ترتيب توزيع المساعدات الإنسانية على سكان قطاع غزة وكأن ما يحدث هناك كارثة طبيعية؛ زلزال أو فيضان، وليس تجويعًا متعمدًا في سياق حرب إبادة ممنهجة تنفذها إسرائيل بالتعاون مع شركة يديرها مرتزقة من الولايات المتحدة وكولومبيا سُمّيت كذبًا "مؤسسة غزة الإنسانية"، وصدق الفلسطينيون وهم يُسمُّونها مصائد الموت.
الضغوط التي مُورست على النظام المصري في بداية الحرب للقبول بالتهجير إلى سيناء عادت بعد أن خفتت
وتشير التقارير الأمريكية إلى أن إدارة ترامب تعمل حاليًا مع حكومة نتنياهو على زيادة تمويل هذه المؤسسة لزيادة مراكز توزيع الغذاء على وقع الرصاص والقتل إلى 16 بدلًا من أربعة، مع استمرار التنسيق مع جيش الاحتلال وحده لتوزيع المساعدات، وتجاوز المنظمات الأممية التي تتهمها إسرائيل بالارتباط بحماس.
بالتزامن، يتولى ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو بالنيابة عن الحليفة المقربة شن الهجمات الضارية على الدول الأوروبية والغربية التي أعلنت مؤخرًا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، نهاية الشهر المقبل، تحديدًا فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا. واعتبر روبيو تلك القرارات "رمزية" و"عديمة الجدوى أو التأثير على الأرض"، مستبعدًا أن تتبنى بلاده حل الدولتين طالما استمرت "المنظمات الإرهابية" مثل حماس في تهديد أمن إسرائيل.
بينما أدانت الدول الأوروبية بقوة قرار الحكومة الإسرائيلية الأخير بناء الآلاف من الوحدات الاستيطانية في الضفة الغربية بهدف تقسيمها إلى نصفين وعزلها عن مدينة القدس المحتلة، اعتبر رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون، المقرب من ترامب، الضفة الغربية "ملكًا شرعيًا للشعب اليهودي"، مطلقًا عليها اسم "يهودا والسامرة".
هذا التحالف اللصيق لإدارة ترامب مع إسرائيل، والممتد منذ رئاسة ترامب الأولى عندما اعترف بسيادة إسرائيل على القدس والجولان المحتلين، هو ما يزيد من مخاوف الفلسطينيين ومصر والدول العربية من امتداد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، خصوصًا مع مباركة اليمين الأمريكي خطة احتلال غزة وتهجير الفلسطينيين وعودة الاستيطان الصهيوني في القطاع. وزاد نتنياهو من هذه المخاوف كثيرًا بتصريحاته الأخيرة عن ارتباطه بحلم "إسرائيل الكبرى"، وهي صيغة تضم أراضي من مصر والأردن ولبنان وسوريا، معتبرًا نفسه في "مهمة تاريخية وروحية" لإحيائها.
بجانب الإعلان عن خطوات توحي بقرب البدء في إطلاق العملية العسكرية ضد مدينة غزة، تتناقل الصحف الإسرائيلية تقارير عن اتصالات مع جنوب السودان، التي تعاني حروبًا أهلية طاحنة منذ نشأتها، لاستقبال الفلسطينيين المهجرين من غزة. وكذلك اتصالات مماثلة مع ليبيا وإندونيسيا، مع تأكيد نتنياهو أن ذلك التهجير سيكون "طوعيًا"، وكأن مشكلة غزة هي الكثافة السكانية لا الاحتلال الإسرائيلي وعمليات القتل والتجويع التي يتعرض لها السكان بكل وحشية على مدى نحو عامين.
غني عن القول إن الضغوط القوية التي مورست على النظام المصري في بداية الحرب للقبول بالتهجير إلى سيناء، عادت بعد أن خفتت، عندما أعلن ترامب عن مخططاته بتحويل القطاع إلى مشروع استثمار سياحي سماه "ريفيرا الشرق الأوسط"، وهو يتوقع أن يقبل الفلسطينيون بسهولة التخلي عن أرضهم بمجرد أن يوفر لهم وعودًا بمساكن أفضل وحياة مريحة في دول أخرى.
ورغم توقف ترامب عن الحديث عن ذلك المشروع بعد أن كان مادةً مفضلة لتصريحاته اليومية منذ انتخابه، فلا توجد أي مؤشرات أن الملياردير مطور العقارات ومعه صهره جاريد كوشنر تخليا عن المخطط بالكامل، خاصة وأنه يتوافق مع رؤية إدارته بألا مكان لدولة فلسطينية.
ومن المؤكد أن إشارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأسبوع الماضي إلى استخدام مصالح مصر في مياه نهر النيل ورقة ضغط من أجل الحصول على تنازلات في قضايا أخرى لم يحددها، لم تكن منقطعة الصلة بالضغوط الأمريكية والإسرائيلية المتجددة بشأن التهجير.
كما أن ترامب الذي طالب مصر، ومعه نائبه جي دي فانس، بالمساهمة في تغطية نفقات الحرب الأمريكية القصيرة على الحوثيين في اليمن قبل أشهر، على اعتبار أنها ستعيد الملاحة في قناة السويس إلى معدلاتها الطبيعية، لم يكن ليتطوع بالحديث عن حقوق مصر في مياه نهر النيل، والخطر الذي يمثله سد النهضة الإثيوبي، إلا لو كان سيطلب ثمنًا من القاهرة. والثمن الأقرب حتى الآن، والأكثر وضوحًا، هو القبول بالتهجير.
الموقف شديد الصعوبة بلا شك، خصوصًا في ظل التحالف القائم بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو الحالية في إسرائيل. لكن نجاح السيناريو الإسرائيلي - الأمريكي ليس مضمونًا بالضرورة، وقد تتغير كل الترتيبات إذا تكرر الفشل الإسرائيلي في الهجوم واسع النطاق الذي يهدد سكان القطاع، لتكون المحصلة جرائم حرب جديدة ومزيدًا من المعاناة للفلسطينيين، والمزيد من القتلى الإسرائيليين بين الجنود أو المحتجزين، في وقت تتصاعد فيه بشكل غير مسبوق الاحتجاجات داخل إسرائيل وفي الولايات المتحدة كذلك ضد هذه الحرب الوحشية التي أصبحت بلا جدوى على مرأى ومسمع من العالم الذي يمثل صمته تواطؤًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.