
"أسطورة" إسرائيل الكبرى.. و"واقع" مجالها الحيوي
بين قلق واستنفار ومحاولة للفهم، تنوعت ردود الفعل على إشارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى حلم "إسرائيل الكبرى" في حوار تليفزيوني، الأسبوع الماضي، على شكل موجة إدانات رسمية من العواصم العربية وبعض الدول الإسلامية والمنظمات.
لم ينطق نتنياهو بالمصطلح، ولم يتحدث عن احتلال أجزاء من مصر أو الأردن أو العراق. لكن من المستحيل أن يكون مشهد إهداء المحاور تميمةً تحمل خريطة "إسرائيل الكبرى" لرئيس الوزراء عفويًا، خاصة وأنه ما زال يواجه ملاحقات قضائية بسبب "هدايا غير مشروعة"، فاقترن المشهد بتلميح ساخر من القضية حين أخبره المحاور بأن التميمة هدية إلى زوجته، فتقبلها نتنياهو شاكرًا ومرحبًا، مبديًا ارتباطه الشديد بالرؤية التي تعبر عنها التميمة.
خضع الحوار للمونتاج والتعديل واختيرت زوايا ظهور نتنياهو بعناية، خاصة وهو يتحدث عن تلاحق الأجيال "المؤمنة بالحلم" قبل أن يُعرض وينشره على حسابه الشخصي، ما يعني أننا أمام خطاب سياسي ترويجي من الدرجة الأولى، يُمرَّر في خضم الإبادة الجارية للفلسطينيين في غزة، كجزء من عملية موازية تتضح معالمها تدريجيًا لتكريس أمر واقع يتمثل في سيطرة إسرائيل التامة على جميع أراضي فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر، وإعدام فرص إقامة الدولة الفلسطينية، وتحويل هذه الرقعة من الأرض إلى مركز الثقل الجديد في الشرق الأوسط، وتدور حوله باقي الدول، سواء كانت سابحة في فلكه أو تحاول تلافي الصدام به.
تصفية وسحق وهجرة "طوعية"
فلنضع مشهد تميمة "إسرائيل الكبرى" المصطنع هذا إلى جانب إقرار الكنيست من حيث المبدأ مشروع فرض السيطرة على الضفة الغربية تحت اسم "السيادة على يهودا والسامرة"، لتصبح لإسرائيل القدرة على "السحق وتشجيع الهجرة والاستيطان"، بتعبير وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. ثم إعلان وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إقرار خطة E1 المجمدة منذ نهاية التسعينيات، والرامية إلى تهويد المنطقة الواقعة بين القدس الشرقية ومستوطنة معاليه أدوميم، لقطع الطريق بين أريحا وبيت لحم تمامًا، مما يعني تصفية الضفة الغربية كأرض قابلة لإقامة دولة أو حتى حكم ذاتي فلسطيني.
تشمل العملية كذلك احتلال مدينة غزة وإعادة تخطيط القطاع بصورة تعيده إلى السيطرة الإسرائيلية المباشرة بالضم النهائي، والتهجير القسري للمواطنين داخليًا بنقلهم إلى جيب أو أكثر جنوبًا، مع تشجيع الهجرة الطوعية إلى الخارج. حتى أن جيش الاحتلال تجرَّأ على إعلان نية تنفيذ "ترانسفير" بحق 800 ألف غزاوي في سبيل الإجهاز على "فلسطينية" القطاع بأسرع وقت ممكن. فلدينا على الجانب الآخر رئيس أمريكي يطالب بـ"سرعة تنفيذ العملية".
ويرتبط التسريع المنشود بسياق واضح، هو التخطيط لاستباق محاولة الدول الغربية استخدام آخر ورقة متاحة للضغط السياسي لوقف الإبادة في غزة، ألا وهي الاعتراف بدولة فلسطين خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويسعى نتنياهو بدعم كامل من إدارة ترامب إلى قطع الطريق على تلك المحاولات بتحويل الدولة التي سيتم الاعتراف بها إلى مجرد مسخ غير قابل للنشوء والحياة، فيصبح الاعتراف مجرد فرقعة في الهواء، عديم الأثر، إذ لا حدود يمكن ترسيمها، ولا مناطق سيادة ينبغي الدفاع عنها.
خرائط جديدة لعصر جديد
يخطط نتنياهو للوقوف على منصة الأمم المتحدة الشهر المقبل متحدثًا عن استحالة حل الدولتين، وهو أمر أشار إليه ضمنًا مرتين سابقتين وهو يعرض خرائطه لمحوري الخير والشر في الشرق الأوسط. وربما سيعرض علينا هذه المرة خريطة جديدة توضح كيف تسبب "طوفان الأقصى" في أضرار جسيمة للكيان الصهيوني، تحتّم معها توسيع دائرة الاحتلال وإعادة الاستيطان وتهجير مئات الآلاف لتحقيق العمق الاستراتيجي لإسرائيل ومنع سقوط "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة".
إن ما يخطط له نتنياهو الآن هو التطبيق العملي لفكرة "الجدار الحديدي" التي ابتدعها مثله الأعلى ومؤسس الصهيونية التصحيحية زئيف جابوتنسكي منذ مائة عام تقريبًا، عندما قدم أيضًا تعريفه لـ"إسرائيل الكبرى".
مجال حيوي للملايين
على ضفتي الأردن
الأردن له ضفتان
واحدة لنا وكذلك الأخرى
- زئيف جابوتنسكي، نشيد المنظمات العسكرية للشباب الصهيوني
"إسرائيل الكبرى" مصطلح له عدة مفاهيم، لم يُتفق عليها حتى في "التناخ" (العهد القديم من الكتاب المقدس). أوسعها جغرافيًا والأكثر ارتباطًا بالمخيّلة العربية والإسلامية هو امتداد "أرض الميعاد" من النيل إلى الفرات شاملة بذلك شبه الجزيرة العربية. وتتدرج باقي المفاهيم بين أجزاء من فلسطين التاريخية وشرق الأردن والشام.
أما المفهوم الذي صاغه جابوتنسكي عام 1921 فهو أرض فلسطين بالكامل مع الضفة الشرقية لنهر الأردن، مشددًا على ضرورة أن يمر النهر داخل أرض إسرائيل لا أن يحدد حدودها. ولذا تزعَّم معارضة كبرى للبريطانيين بسبب تخصيص شرق الأردن للأمير الهاشمي عبد الله بن الحسين.(*)
وفي ثلاثينيات القرن الماضي انقسم الساسة الصهاينة إلى تيار رئيسي يسعى لتسريع إنشاء الدولة الصهيونية داخل فلسطين، وآخر "تصحيحي" مستقل تزعمه جابوتنسكي يطالب ببلورة "الوطن القومي" على كامل مساحة أرض فلسطين وضفتي نهر الأردن.
ورغم المكانة البارزة التي يحظى بها جابوتنسكي المتوفي عام 1940 لدى اليمين المتطرف، باعتباره المؤسس الأول لليكود، فقد عُتِّم على بعض أفكاره لعقود لما تتسم به من صراحة وجرأة وعدائية، بينما أراد زعماء الكيان حديث العهد تبني خطاب أكثر انفتاحًا وطمأنة للغرب والعرب.
ويبدو الآن أن الوقت قد حان لرد الاعتبار لأفكار جابوتنسكي.
المهمة: قتل الأمل العربي
بالتزامن مع التطورات الأخيرة في الضفة وغزة، عادت تعاليم الرجل تسيطر على الخطاب الرسمي، وتظهر بصورة أوسع في الصحافة المحلية، وكأن السلطة تتحضر سياسيًا ودعائيًا لمرحلة جديدة من تاريخ إسرائيل، وبدلًا من الاكتفاء بتنفيذ السياسات على الأرض، تبدّت الحاجة إلى بُعد تنظيري، فطفت على السطح فكرة "الجدار الحديدي" كـ"عقيدة استراتيجية نحتاجها بشدة"، على حد تعبير الباحثة ديبورا هارخام في جيروزاليم بوست نهاية الشهر الماضي.
وتقوم فكرة "الجدار الحديدي" التي وضعها جابوتنسكي عام 1921 وتتبناها حكومة نتنياهو اليوم على "سلام الردع"، وأن "السيادة اليهودية على أرض إسرائيل لن تُمنح طوعًا بل تتطلب جدارًا من القوة والديمومة"، كما تتبنى افتراضية بسيطة أن "العرب ما دام لديهم أمل بسيط في التخلص من الإسرائيليين فسوف يبقون رافضين للاستسلام".
حرب نفسية بامتياز تلعب على مخاوف وقلق البشر بتضخيم خطر متوهّم غامض وتقديمه على خطر داهم وعاجل
تُفضي فكرة جابوتنسكي إلى أن "الجدار الحديدي" ليس مجرد استعداد بالسلاح أو الاستنفار الدائم أو القدرة المستمرة على استهداف العدو (العربي) أينما كان، بل يمثل "إدراك العرب للطبيعة الحتمية للسيادة اليهودية" ركنًا أساسيًا لهذه الفكرة، بكل ما يعكسه هذا الإدراك من الاستثمار في رسم الصورة الذهنية لإسرائيل التي لا تُقهر، ولا يمكن مباراتها اقتصاديًا أو سياسيًا أو إعلاميًا.
كان بث مشهد تميمة "إسرائيل الكبرى" جزءًا من عملية رسم تلك الصورة الذهنية وتشتيت الوعي العربي من عدة جوانب.
جبهة جديدة للحرب النفسية
التمحور حول أسطورة "إسرائيل الكبرى" المتوهمة أرضًا للميعاد من النيل إلى الفرات، والتعامل معها كخطر مادي، لن يتحقق إلّا بالسيطرة الفعلية العسكرية للكيان الصهيوني على الدول العربية المجاورة وتوسعه جغرافيًا. وهذا أمر خطير ومُربك.
فهذا التمحور القاصر يتجاهل تطور الرؤية الصهيونية المتطرفة، التي وإن تمسكت بالسيطرة على كامل مساحة فلسطين، مُتبنّيةً مفهوم جابوتنسكي عدا الأردن، فهي في المقابل تتوسع في تعريف المجال الحيوي/lebensraum، المستعار أساسًا من الأيديولوجية التوسعية النازية، وعلى ضوء رؤى تنظيرية قديمة منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى نتنياهو في كتابه المهم مكان بين الأمم، الذي أصدره إبان مفاوضات أوسلو.
ومن شأن ذلك، حصر مخاوف المواطن العربي في السيطرة العسكرية الإسرائيلية على بلاده، واحتلالها ميدانيًا، دون أن يُلقي بالًا بالمكاسب التي يحققها الكيان في المجال الحيوي من سيطرة سياسية عبر سلام الردع، ومحدودية ردة الفعل تحت ستار الحكمة، والتحكّم العسكري والاستراتيجي وإعدام مواطن الخطر كما حدث في سوريا ولبنان، والهيمنة الاقتصادية من خلال اتفاقيات التجارة والشراكة.
وقد يتبعه أيضًا بث حالة من الرضا والقبول بالوضع الحالي طالما بقيت إسرائيل بعيدةً عن حدود الدول المستقرة المحيطة، كمصر والأردن والسعودية، مما قد يقلل اهتمام الرأي العام في تلك الدول "المهددة بخرافة إسرائيل الكبرى" بالتصعيد الجاري في فلسطين. حرب نفسية بامتياز تلعب على مخاوف وقلق البشر، بتضخيم خطر متوهّم غامض وتقديمه على خطر داهم وعاجل، مما يتسبب في اضطراب إدراك الإنسان العربي للأخطار وترتيب أولوياته.
لا أقصد التقليل من خطورة إشارة نتنياهو، بل ضرورة التقاطها ضمن سياق كامل من المعارك والتهديدات.
المسألة ليست قوة أو ضعف بيانات الإدانة ولا طلب إيضاحات ولا توجيه احتجاجات، ولا في الرد على "خرافة إسرائيل الكبرى" بأدلة التاريخ والشرائع.
فأولوية اليوم قبل الغد إدراك لحظة التحول الفارقة في تاريخ العدو؛ تفعيل "خاصية الجدار الحديدي" كما نراها في غزة والضفة، وفرض "إسرائيل الكبرى" بمفهومها "الصهيوني التصحيحي" من النهر إلى البحر، مع تطبيق نظرية "سلام الردع" على "المجال الحيوي" الذي يشمل المنطقة بأسرها من إيران وحتى المغرب العربي.
هذه ليست إسرائيل الأمس، بل نسخة لا قِبَل لنا بها. ومواكبة هذا التغيّر المتوحش شرطُ البقاء!
(*) للمزيد عن أنشطة جابوتنسكي وصراعه مع حاييم وايزمان والبريطانيين، راجع كتاب إسرائيل الكبرى-دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني للدكتور أسعد رزوق، الصادر عن مركز الدراسات الفلسطينية عام 1970.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.