
ألَّا نحب أعداءنا
تعمل صحفية أوروبية في منطقة الشرق الأوسط لصالح عدد من المواقع والقنوات التليفزيونية. يعرف متابعوها، من تقاريرها وما تنشره على صفحاتها الشخصية، انحيازها للقضية الفلسطينية. نشرت قبل أسابيع قليلة على إنستجرام صورة سيلفي مبهجة في ساحة قبة الصخرة، مع صديقة عرَّفتها بـ"مكتشفة الأماكن".
لا بد أن الكثيرين من متابعيها لم يفهموا وصف الصديقة بأنها مكتشفة الأماكن، وهي تقف في مكان يعرفه الجميع! ولا بد أن بعضهم شعر بالغيظ من هذا السيلفي الضاحك/المحتفل، في هذا التوقيت، وفي هذا المكان تحديدًا. وربما امتزج شعور الغيظ بالغضب.
توقفت أمام الصورة. رغبت في كتابة تعليق عن عدم لياقتها، وبأنها غير مناسبة في هذه اللحظة، حيث يُقتل عشرات الآلاف في مكان قريب من قبة الصخرة، في عملية إبادة لا تنفصل عن كل ما تحمله القبة من رمزيات. وبأن هناك ملايين ماتوا وسيموتون، لم ولن يتمكنوا من دخول هذا المكان الذي تقف فيه، على الرغم من أنه يخصهم، ولم "يكتشفوه" حديثًا.
لا تتساوى مشاعر الغضب والحقد والرغبة في الانتقام أمام هذه الإبادة عند الجميع. تختلف بناءً على مواقعنا منها ومن فلسطين. تختلف كذلك بناء على حظنا، والفر ص المتاحة أمامنا للتنفيس عن هذه المشاعر. وتختلف بالطبع بين الفلسطينيين وغيرهم، الغزيين وغيرهم. فإن كنا، نحن مشاهدي الإبادة، نشعر بثقل مشاعر الغضب والكراهية والرغبة في الانتقام، فلن ننجح في تخيل درجتها عند فلسطينيي غزة. التماثل الشعوري الكامل بين شخص وآخر، أن يشعر شخص ما حقيقةً بما يشعر به شخص آخر، من أكبر الأكاذيب المعممة، والحاضرة في لغتنا اليومية. فما أسخف عبارة "حاسس بيك".
في هجاء الكراهية
مع وفاة رئيس الأوروجواي السابق خوسيه موخيكا، استعاد العالم الكثير من عباراته وتصوراته عن السياسة والنضال والفلسفة والمرض والحياة والموت، وغيرها. أعادت القنوات التليفزيونية إذاعة حواراته القديمة. ومن بين كل ما قاله موخيكا، اختار صُناع المحتوى الإعلامي بعضها ليحولوه لكليشيهات، مصحوبة بهذا الوصف السخيف، الذي كان يُغضِبه، بأنه "أفقر رئيس دولة في العالم". من بين أفكار موخيكا المنتشرة رفضه للكراهية، وتحذيراته من أنه شعور يدمِّر الشخص ويجرده من إنسانيته، قبل أن يدمِّر الشخص المكروه.
بمشاهدة هذه الحوارات من جديد، لا بد أن أعترف بأن من أكثر الأشياء التي لا أصدقها، وأراها ساذجة في مسيرته كسياسي، وفيلسوف، ونموذج إنساني مبهر وشديد الاتساق أخلاقيًا، هي نبذه للكراهية. وبالذات حين أراه في بعض المناسبات يسب بعض الحكام والشخصيات العامة والأنظمة والمنظومات الفكرية، ويرفضهم بحسم، ويتحدث عن تدميرهم للعالم والبشر. فكيف لا يكرههم؟! دون أن أغفل احتمالية أن محاوري موخيكا لم يتركوا له الفرصة ليشرح بعمق ما يقوله، ويكسبه كل الرماديات الممكنة.
لنترك موخيكا، فهناك شخص آخر يستحق التوقف عنده؛ أمريكي/لاتيني كاره.
لا نعرف من أين أحضر إلياس رودريجيز المسدس. ليس مهمًا، فالحصول على أسلحة في الولايات المتحدة يعادل في سهولته شراء قميص جديد. لكنها تفصيلة ضرورية تغيب عن حوارات "الحب"، في حين أن آلة القتل متاحة هناك للجميع، لمن يريد، بنفس درجة إتاحة وانتشار تعاليم المسيح، وكلماته، ودعوته بأن نحب أعداءنا. تعاليم تبنتها الكنيسة الإنجيلية في الأمريكتين، لتدعم بها سياسيين وتيارات متطرفة وعنيفة، وقاتلة أحيانًا، أنتجت وتُنتج سياسيين يدمِّرون الفقراء والضعفاء.
ارتكب إلياس رودريجيز فعل الكره المطلق. أخذ المسدس، ذهب، انتظر، وقتل اثنين لا يعرفهما شخصيًا. لم يعرف عنهما سوى معلومة واحدة؛ أنهما يعملان في السفارة الإسرائيلية في واشنطن. قام بفعل الكراهية ذاك وصرخ "فلسطين حرة". لم يقاوم من التفوا حوله ليلقوا القبض عليه. تاركًا للعالم رسالة يبرر بها فعلته، شارحًا كيف يتلقَّى ما يحدث في فلسطين، وثقله.
شعر إلياس بالغضب، بالحقد، بالغيظ، وبالرغبة في الانتقام من المنظومة السياسية قاتلة أطفال غزة. وبوعي كامل قرَّر التخلُّص من هذه المشاعر عبْر فِعل سياسي عنيف، لا يُقارن بالعنف الأكبر بكثير الحاصل في غزة ولم يمسه هو شخصيًا، تاركًا للجميع ما يتجاوز خطابه؛ حرية أن يتخذوا تجاهه الموقف الذي يرونه.
بعض هؤلاء اتهموه بالتجرد من إنسانيته، وبالحماقة، وبتقديم هدية للدولة الصهيونية والتيارات الداعمة لها في العالم وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، وبأنه أضر بحملات التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني والضغط من أجل وقف الإبادة. وكأن إلياس هو السبب في استمرارها، وأنها كانت ستتوقف لولا ما فعله.
في مديح الانفعال
إنها تصورات خاوية، لا تصمد في أي حوار جاد. فحملات التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض الإبادة لم تتضرر، ولا تستهدف أصلًا الحوار مع الصهاينة في إسرائيل أو خارجها. والمنخرطون فيها واعون بأن هؤلاء أعداؤها، لا بد من هزيمتهم، والقضاء على منظومتهم، وأن يدفعوا ثمن جرائمهم، لتنتصر هذه الحملات ولنتمكن من لفظ كلمة "العدالة". أما عن المبررات، فطيلة عشرين شهرًا لم تحتَج إسرائيل مبررات لممارسة الإبادة ولم يحتَج داعموها مبررات للتواطؤ معها. وجمهورهم الذي سيتأثر بما فعله رودريجيز، وسيصدِّق أن اليهود في خطر، وبالتالي سيستمر في تجاهل إبادة ستين ألف شخص، ليس بدوره هدفًا لهذه الحملات.
لا أدافع عما فعله الشاب إلياس ولا أدعو إليه فليس أخلاقيًا أن يدعو أحد لفعلٍ لا يقدر على ممارسته
تتجاوز هذه التصورات وصف "الخاوية"، إنها في جوهرها تعبير عن موقع رجعي يمنع صاحبه من اتخاذ أي موقف، سوى الانسحاق أمام الخصوم والأعداء. إنها التعبير الأوضح عن جبن الرجعية، المدعية الانحياز لقضية ما، لكنها لا تنحاز إلا لذاتها، لافتقادها للأصالة والشجاعة الضروريتين كي ينحاز أي شخص لأي قضية.
أدرك إلياس رودريجيز ذلك، لم يهتم بمسألة مبررات قاتلي الشعب الفلسطيني والمنتسبين لهم. لم يهتم بكيف سيرونه. قام بفعلٍ للتنفيس عن كراهيته لمن يقتلون الأطفال. فعلٌ يبعث برسالة عالمية لها معنى سياسي وبصوت عال؛ لن تكونوا آمنين أبدًا.
لا أدافع عما فعله الشاب إلياس، ولا أدعو إليه. فليس أخلاقيًا أن يدعو أحد لفعلٍ لا يقدر على ممارسته. لكن بعضنا لا يستطيع إخفاء إعجابه بأفعال لا يقدر على فعلها. نستطيع أن نفهم ونقارب هذا الشعور بالكراهية والرغبة في الانتقام الذي شعر به إلياس، ونرى صداه بداخلنا. نستطيع أيضًا أن نتأمل فعله، ونكره أكثر فأكثر من خلقوا بجرائمهم شعور الكراهية داخل إلياس وداخلنا، ومن بدأوا في محاكمته باعتباره ارتكب جريمة كراهية.
لا يجردنا الكره من إنسانيتنا، بل يعيدنا إليها، فهو شعور بشري طبيعي وأصيل. ادعاء التجرد منه ربما يوصل المدعي لدرجة الملائكية، القداسة، أن يتصور أنه المسيح. لكن السؤال هنا ألم يكره المسيح من حولوا هيكل الرب لسوق للبيع والشراء وطردهم بعنف منه، حاملًا سوطًا؟! لا إجابة. لكن الحب، ونبذ الكراهية والحقد، والتحرر من الرغبة في الانتقام، مستحيلات أمام الإبادة. مستحيلات تتضخم مع كل يوم جديد يأتي بمذبحة جديدة، وطفل أو امرأة أو رجل يموتون جوعًا وعطشًا.
كان موخيكا على حق. يدمر البغض من يشعر به. قام إلياس بفعله واعيًا بأنه يدمر حياته ومستقبله لصالح شعب آخر. لكنه تخلص من الكراهية عبر فعل بالإمكان فهمه. نعم، تدمرنا الكراهية، لكنها قدرنا، أصابنا بها أعداءنا، نتجت عن أفعالهم، وعن القتل اليومي، والتجويع والإذلال، فلا مهرب منها، ما دمنا لا نملك قدرة موخيكا على التسامح والعزلة. تسامح من موقع القوة، موقع رئيس الجمهورية والرمز العالمي. وعزلة في مزرعته خارج المدينة، بعيدًا عن أخبار الدم والدمار والمجازر والجوع المتراكمة مع كل ثانية جديدة، بصحبة حبيبته وزرعه وأصدقائه وكلابه.
في مديح المعرفة
يوم 21 مايو/أيار: نفذ إلياس رودريجز عمليته، وهتف "فلسطين حرة".
يوم 22 مايو: قال نتنياهو إن شعار "فلسطين حرة" المعادل العصري لهتاف النازية القديم "يحيا هتلر". وفي نفس اليوم انتشر رد فني عليه؛ رسم له على أحد جدران روما يتبادل القبلات مع هتلر.
يوم 28 مايو: نشرت قناة La Sexta، وهي واحدة من أكبر القنوات التليفزيونية الإسبانية* هذا الرسم. وبعدها عرضت شاشة مقسمة لنصفين، في أحدهما مشاهد من الهولوكوست النازي، والأخرى من غزة، بينما يقول مذيع نشرة الأخبار إن ما يحدث في غزة يشبه كثيرًا ما حدث في معسكرات الاعتقال والحرق النازية.
من منا كان يتصور أنه سيسمع ويشاهد مثل هذا التشبيه في قناة إعلامية أوروبية كبرى؟! لا أحد. فهو كسر لأحد أكثر التابوهات الأوروبية قداسة؛ فلا شيء يقارن بالهولوكوست من وجهة النظر الأوروبية والأمريكية والصهيونية. يتحطم التابو بفضل الشعور بالكراهية والحقد والغضب. بفضل الخوف مما سيحدث حين تنفجر الكراهية، ويتكرر نموذج إلياس رودريجز لمن يصلون في إنسانيتهم للتماهي مع الضحية والقبول بمصيرها نفسه، مجبرين الجميع على أن يوجهوا لأنفسهم أسئلة عن إنسانيةِ من يمارسون الإبادة، والمتواطئين معهم، والمتفرجين عليها بلا مبالاة.
يوم 1 يونيو: محمد صبري سليمان، مواطن مصرى مقيم في الولايات المتحدة، ألقى زجاجتي مولوتوف على مسيرة مؤيدة لإسرائيل. أصاب من بينهم ستة أفراد، بينما يصرخ مثل إلياس رودريجيز والملايين: "فلسطين حرة".
أسماه أحدهم على فيسبوك بـ"الخال محمد". لا أستطيع أن أسميه بالخال، فعلى الأغلب هو أصغر مني سنًا. لكنه، بفعلته وهيئته وصدره وجذعه العاريين، ذكرني ببعض أبطال مراهقتي، شباب فقراء من أبناء حارات القاهرة الشعبية. يخرجون للعراك بعد خلع قمصانهم. نوع من التباهي بالذكورة والقوة. لكنه كان فعلًا لا يخلو من جانب عملي؛ ألا يشل أحد حرية حركتهم أثناء العراك، وليقولوا لخصومهم "جئنا مجردين من الحماية". وكأن محمد صبري سليمان نقل حارة مصرية لقلب أمريكا!
يوم 6 مايو: أكتب تعليقي الغاضب على صورة الصحفية، أحرص على أن يكون موجعًا. أمسحه قبل النشر، أعيد كتابته، أمسحه من جديد. ألقي بالموبايل جانبًا في لحظة إدراكي أنني أسعى للإيذاء والتنفيس عن مشاعر الحقد والغضب تجاه من لم تتسبب فيها. لِمَ أعبِّر لها عن غيظي وحقدي من صورتها، الموفقة أو غير الموفقة، أو أواجهها بأسئلتي عما إذا كانت تنتمي لنا حقًا، وتشعر بالكراهية والحقد والغضب والرغبة في الانتقام مثلنا؟! أم تمارس مهنة الصحافة ببرود؟! احتفظت بمشاعري، الإنسانية، لمناسبة أخرى.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.