في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، قدَّم المؤرخ إيلان بابيه، الإسرائيلي السابق، محاضرة في البيت العربي في مدريد، ضمن مجموعة فعاليات بمناسبة ذكرى إعلان المجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في الجزائر عام 1988، استقلال دولة فلسطين. أشار منظم المحاضرة لهذه المناسبة في سياق تقديمه لبابيه، الذي لم يعلق عليها، مثلما لم يعلق عليها أحدٌ من الحضور في أسئلتهم وتعليقاتهم.
كان جمهور المؤرخ المهم مختلطًا، نصفه عربي ونصفه إسباني. وفي تقديري، ومن قراءتي للروح السائدة في القاعة، جاء أغلبُنا باحثًا عن أملٍ قد يمنحه بابيه، في لحظة شديدة الصعوبة نعيشها بعد أكثر من 13 شهرًا من الإبادة، شهدت أسابيعها الأخيرة ضربات موجعة للمقاومة في لبنان وفلسطين.
في مطلع السنة، ألقى بابيه محاضرة في "اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان" بالمملكة المتحدة، وكررها بتفصيل أكبر في حوار مطول مع التليفزيون العربي، وانطلقت منها في سلسلة من خمس مقالات نشرتها المنصة تحت عنوان فلسطين التي نريد.
في محاضرته بداية العام، أشار بابيه إلى أننا نعيش الشهور الأولى من فترة انهيار المشروع الصهيوني التي توقع أن تمتد لسنتين، ستشهدان الكثير من الفظائع الإسرائيلية. شبَّه وقتها دولة إسرائيل بالجدار الذي دبت فيه شروخٌ كثيرةٌ وسينهار فجأة. أما في حواره مع التليفزيون العربي، فتجنب تحديد التوقيتات والأزمنة بحسم.
بابيه بذكائه الحاد، ورهافته، وخبرته كمحاضر، كان يعلم أن جمهوره في مدريد ينتظر منه الدخول في هذه المسألة تحديدًا، ينتظر أن يطمئنه بأنه ما زال عند تصوره في بدايات عملية الإبادة. فقال بوضوح إنه ليس منجمًا ليعرف موعد انهيار الدولة الإسرائيلية، لكنه متيقن من انهيارها، وكرر تصوره بأننا نشهد الفصل الأخير من حياتها.
لكن مضمون محاضرته يحيلنا لأزمان لا تناسب المنتظرين المتلهفين، أو أولئك الباحثين عن أمل بتغيير قريب وحاسم. لا تناسب كذلك درجة الضغط النفسي الذي يعيشه بعضنا بسبب المتابعة القريبة واليومية لمستجدات الدم والدمار الذي تحققه إسرائيل في فلسطين ولبنان خلال الشهور الماضية. ولا إحساسنا بثقلِ وكابوسية كل هذا الدم، وتقديراتنا، المختلفة بطبيعتها، لمدى احتمال الشعب الفلسطيني للمزيد. فبابيه يرى أن هذا الفصل الأخير من حياة الدولة الإسرائيلية ربما يمتد زمنيًا طوال العشرين عامًا المقبلة.
بعض معطيات الأمل
لا يهدف هذا المقال، أو المقالان التاليان، لعرض محاضرة بابيه في مدريد. فهي لا تختلف كثيرًا عن أطروحاته السابقة المنحازة للشعب الفلسطيني، وتحليلاته لطبيعة دولة إسرائيل كما نعرفها وكما اكتشفها الكثيرون خلال السنة الماضية، والتي أشرت لها في سلسلة المقالات المشار إليها. لكن وإن كان من الضروري التذكير بها، فعلينا ألَّا نَغفل عن أن الجديد فيما يطرحه بابيه هو حالته نفسها. أنه يتأمل مثلنا هذه الإبادة التي لم يتوقع أحد استمرارها طيلة هذه الفترة، ومعانيها المستقبلية.
ما يعنيني هنا، هو الاقتراب من تفاؤل بابيه نفسه ومحاولة مناقشته. أو للدقة، رؤيته من زوايا مختلفة، وحتى الخروج عنه، في محاولة تلمس معطيات واقعية مناهضة للعدمية ولليأس. فبينما أستمع إليه، ولأنني ممن ذهبوا لمحاضرته بحثًا عن بعض الأمل، سألت نفسي؛ هل هذا التفاؤل الذي يظهره بابيه وهو يبشِّر بنهاية دولة إسرائيل حتمًا، وبفشل مهمتها الحالية بتطهير فلسطين التاريخية من الفلسطينيين مثلما فشلت في إنجازها بالكامل عام 1948، هو تفاؤل موضوعي؟! أم أنه التفاؤل التاريخي عند الماركسيين؟
لنتحدث ببساطة دون الدخول في مناطق مركبة من الماركسية، وفلسفتها. من ضمن أسس الفلسفة الشيوعية فكرة "الحتمية التاريخية". هناك حتمية تاريخية أن يسير العالم في تطوره إما باتجاه مجتمع المساواة الكاملة؛ المجتمع الشيوعي، أو أن يتراجع باتجاه البربرية. هذه الحتمية التاريخية، والتي من ضمن الأسس التي تستحق نقاشًا عصريًا ماركسيًا جديدًا، تقود لما يسمى بالتفاؤل التاريخي.
المعطيات الموضوعية التي يعتمد عليها بابيه وتجعله متيقنًا اليوم من أن دولة إسرائيل تعيش فصلها الختامي دون حسم مداه الزمني، وهو الشيء الإيجابي في تقديري، لم تتغير عن بداية السنة. وأهمها أن الدولة الإسرائيلية ومشروعها الصهيوني لا يستطيعان الاستمرار في الحياة دون الإبادة؛ إبادة الفلسطينيين، وتطهير فلسطين التاريخية عرقيًا منهم. وهي المهمة التي يستحيل نجاحها بالكامل.
أجاب بابيه بأنه دون حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير لا حل للقضية الفلسطينية
هنا تحديدًا مقتل الدولة من وجهة نظر بابيه. أنها، أي الدولة، أو هذا المشروع الأوروبي لحل المسألة/الأزمة اليهودية الأوروبية خارج أوروبا، بتأسيس دولة استيطان عسكرية في قلب الشرق، على حساب شعوب لا علاقة لها باضطهاد اليهود في أوروبا ولا بالمحرقة، لا تستطيع البقاء في محيط غير طبيعي، سوى بالإبادة والعدوان. فالقوة واستخدامها هما جوهر عقيدتها وتكوينها. وحين تتوقف الإبادة ستأكل إسرائيل نفسها. وانهيار الجدار الضخم، باستخدام تعبيرات بابيه، سيكون مصحوبًا بالفظائع، ليس فقط ضد الفلسطينيين الذين كانوا دائمًا أول ضحايا المشروع الصهيوني، بل ضد اليهود كذلك.
يضيف بابيه لمعطياته الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها إسرائيل من قبل بدء عملية الإبادة، ثم تضخمت بسبب الحرب، لتصل لمستويات غير مسبوقة، ربما تعادلها فقط الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي عاشتها دولة الاحتلال مطلع خمسينيات القرن الماضي. بل إنه يؤكد على أن إسرائيل الآن لم تعد قادرة على تلبية احتياجات أساسية وبسيطة لسكانها.
يأتي هنا سؤال متعلق بالمستقبل، عمَّا إذا كان ترامب، الذي يمنح فوزه بالرئاسة في الولايات المتحدة لإسرائيل قوة سياسية ومعنوية وعسكرية لاستكمال الإبادة، ويجعلها تتصور أنها اللحظة التاريخية المناسبة للقضاء نهائيًا على الفلسطينيين، سيضخ الأموال الضخمة جدًا التي تحتاجها إسرائيل للخروج من أزمتها، واستكمال الإبادة، بينما هو صاحب شعار "أمريكا أولًا"؟!
يقول بابيه إن إسرائيل تستطيع الانتصار في حروب قصيرة، لا في حروب طويلة، ما يراه عاملًا ضمن معطيات الانهيار. لكننا هنا نستطيع الاختلاف معه، فهو وإن كان عاملًا مهمًا، فإن تأثيره في تقديري ليس حاسمًا. فهذا التصور يعيد لأذهاننا ما سمعناه قبلًا وقديمًا ويبدو وكأنه قَدَر. لكنه ليس قدرًا، فبإمكان كل الدول تطوير استراتيجياتها المجتمعية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، لتخوض حروبًا لم تعتَد خوضها سابقًا والانتصار فيها. والدليل هو استمرار إسرائيل في رفض الوصول لاتفاقات لإنهاء الحرب، بل وتوسيع نطاقها.
امتدت هذه الحرب المستمرة كل هذا الزمن لتصبح أطول الحروب الإسرائيلية، وأصابت إسرائيل في الداخل، وأنهكتها اقتصاديًا. كل ذلك صحيح. لكن المستقبل ليس رهنًا فقط باضطرارها المحتمل إلى الاستمرار في الحرب، ولا بقدراتها الذاتية، بل أيضًا بعوامل دولية معقدة، وقوى، وشركات متعددة الجنسيات، ودول أهمها الولايات المتحدة الأمريكية، وشبكات المصالح داخلها، التي قد ترى أن من مصلحتها امتداد الحرب حتى يتحقق الانتصار الإسرائيلي الحاسم، وترميم شروخ الجدار.
بعض معطيات الواقع
في نهاية المحاضرة سألتْ امرأة فلسطينية تعيش في إسبانيا منذ سنوات طويلة، بعد أن كانت لاجئةً في غزة ثم سوريا، عن حقها في العودة. قالت إنها لا تريد العودة إلى غزة، بل إلى بلدتها شفا عمرو في الجليل الغربي شمال فلسطين. أجابها بابيه بأنه دون حق العودة، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لا حل للقضية الفلسطينية.
سؤال هذه المرأة يحمل في طياته مفارقةً مزدوجةً، من ناحية؛ أن الفلسطينية تسأل الإسرائيلي السابق، الذي اضطر لمغادرة إسرائيل بدلًا من العمل ضدها من داخلها، إن كانت ستعود. ومن ناحية أخرى؛ أن الإبادة وعمليات المقاومة جددتا هذا الأمل في العودة، وجددتا القدرة على إشهاره.
لنرى الوجه الآخر لتفاؤل بابيه والمرأة الفلسطينية. بافتراض صحة فرضيته بأن القطاعات الغالبة من اليهود في العالم، وبالذات الشباب، أصبحت ترفض نموذج دولة إسرائيل، أو لا ترى رابطًا يجمعها بها، وأن حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني هي الأكبر عالميًا، وأن قضية فلسطين أصبحت من القضايا الكونية الكبرى مثل مكافحة الفقر، أو التغير المناخي، أو العنصرية.. إلخ، فإن الواقع يخبرنا بأن أحدًا لم يكن يتصور أن تستطيع إسرائيل الاستمرار لأكثر من ثلاثة عشر شهرًا في ارتكاب جريمة إبادة بهذا الحجم أمام العالم كله، ولا أحدٌ يستطيع إيقافها. حتى نتنياهو نفسه، لم يتصور في تقديري أنه سيكون قادرًا على الاستمرار كل هذا الوقت.
وهنا يحضر سؤال يبدو مفزعًا للوهلة الأولى، وإن كانت مناقشته بجدية قد تُفقده سوداويته، عمَّا إذا كان العالم تغيَّر بالفعل دون أن ندري، وأصبح يقبل البربرية، لا ينزعج منها، بل ويبحث عن ميكانيزمات للتعايش مع حكم هذه البربرية وجرائمها، ما يحطم منطق التفاؤل التاريخي.
أعلم أن أغلب قراء هذا المقال يشعرون مثلي بأننا نواجه هزيمة جديدة. ربما تكون أكبر من كل هزائمنا السابقة في تاريخنا المعاصر. وتحديدًا بسبب كمية الدمار والدم اللذين تسببت فيهما إسرائيل خلال هذا العام، والضربات الموجعة للمقاومة، والأهم اعتياد العالم على عملية الإبادة.
لكن المسألة ليست كذلك، فبينما أعمل على هذا المقال أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرار توقيف جالانت ونتنياهو بتهمتي الإبادة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. سارع بعض العدميين، كالعادة، بالصراخ بتعبيرات مسرحية شبيهة بـ"مفيش فايدة"، مقللين من قيمة الإجراء. لم يلتفتوا إلى أن دولة إسرائيل نفسها حاولت خلال الشهور الماضية تقديم دلائل لنفي التهمتين. وحين فشلت، وعلمت أن القرار اقترب، حاولت تقويض المحكمة بحملة تشهير وأكاذيب ضد أعضائها.
العدمية الناتجة عن اليأس بسبب تاريخنا المفعم بالهزائم، منعت اليائسين من الانتباه إلى أن إسرائيل لا تعرف إن كانت دولةٌ ما، في يوم ما، ستنفذ القرار وتقبض على قادتها وتسلمهم للمحكمة. ولا تعرف إن كانت المحكمة أصدرت أو ستصدر قرارات سرية بحق قادة وعسكريين آخرين. لكن ما تعرفه هو نتيجة هذا القرار المباشرة على المديين القريب والمتوسط، غير نتائجه على المدى الأبعد؛ أن عدة دول، أوروبية وغير أوروبية، قد تضطر، بضغط قوى التضامن مع فلسطين داخلها، لقطع علاقتها مع دولة يرأس حكومتها مجرم مطلوب للمحاكمة الدولية. وأن ابتزاز العالم بتهمة "العداء للسامية"، هذا الابتزاز شديد الفاعلية خلال 75 عامًا، بدأ النزول لمقره الطبيعي؛ مقبرته.
كل ذلك، يطرح بموضوعيةٍ حقيقةَ أن الكلمة الأخيرة في هذه الحلقة الحالية من الصراع، التي بدأت في السابع من أكتوبر، لم تُقَل بعد. وربما لن تكون هناك كلمات أخيرة حاسمة. وهو ما يناقشه المقال القادم.