قابلت في بيروت أواخر 2005 من كان يمثل في مراهقتي رمزًا تحيط به هالات أسطورية، دون أن أعرف حتى ملامح وجهه؛ إلياس عطا الله، المسؤول عن عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي شُكِّلت في خريف 1982 من الحزب الشيوعي اللبناني وحزب العمل الشيوعي، بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، التي استمرت عملياتها حتى نهاية الثمانينيات في جنوب لبنان.
قال لي عطا الله يومها في مقابلة مصورة، إنه لا يحق لأي قوة لبنانية أن تورّط الشعب اللبناني في حرب مع إسرائيل دون إجماع القطاعات المختلفة لهذا الشعب. كان يقصد تحديدًا حزب الله وعملياته ضد إسرائيل.
كان عطا الله مثلًا للكثيرين حين كان، وهو المسيحي/الشيوعي، يقود أول حركة مقاومة مسلحة، غير فلسطينية، ضد إسرائيل. لم يحتَج وقت صدور بيان الجبهة الأول المعنون "إلى السلاح" لإجماع لبناني، رغم أن المجتمع اللبناني كان منقسمًا وقتها بين القوى الوطنية والتقدمية وقوى اليمين المتحالفة مع إسرائيل. لكنه، وقت المقابلة، كان قد أسس حركة اليسار الديمقراطي، وتحالف مع أعداء الأمس من قوى اليمين، ضد حزب الله، ولذلك وضع شرط "الإجماع".
معايير الستينيات وما بعدها
في 1969، بينما يتابع العالم مستجدات حرب التحرير/العصابات التي يخوضها الشعب الفيتنامي، وتُهلل له قطاعات واسعة حول العالم باعتباره شعبًا مناضلًا من أجل الحرية، فيما تصمه قطاعات أخرى بالتوحش والإرهاب، تقرر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين البدء في خطف الطائرات والدخول في صفقات تبادل أسرى، كتكتيك مؤقت يلفت أنظار العالم للقضية الفلسطينية. تستمر هذه العمليات بداية من عملية ليلى خالد الأولى 1969 حتى عام 1971. مجرد عامين، أعلنت بعدهما الجبهة تخليها الكامل عن هذا الأسلوب.
على الفلسطيني أن يجيب دائمًا عن سؤال ندمه على "إرهابه السابق" قبل اتهامه بارتكاب "إرهاب جديد"
موضوع هذا المقال ليس مناقشة أسلوب خطف الطائرات. والأوجه الكثيرة للخلاف السياسي والفكري مع حركات المقاومة ذات المرجعية الدينية، مثل حماس وحزب الله، ليست موضوعه كذلك. بل مسألتان أخريان؛ استحالة الإجماع على فعل المقاومة أولًا، ووصمة الفلسطينيين ثانيًا، وعلاقتهما بلحظتين مختلفتين؛ خطف الطائرات نهاية الستينيات، وعملية طوفان الأقصى بعد 55 عامًا.
تقييم أسلوب خطف الطائرات بأثر رجعي مسألة مُركَّبة وصعبة، ينبغي أن تأخذ في الاعتبار ظرف النضال الفلسطيني من خارج الأرض المحتلة، وواقع الستينيات حيث المقاومة المسلحة للاحتلال أكثر قبولًا من زمننا هذا، مع صعود حركات حرب العصابات الثورية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وأطروحات حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد. وأيضًا مع سيطرة وسائل الإعلام الكبرى على الأخبار والمعرفة، وقدرتها على فرض تعتيم كامل على واقع الشعب الفلسطيني، وغياب قدرته على الوصول للمانشيتات الرئيسية التي تخاطب ما نسميه اليوم بالرأي العام العالمي.
إن أراد أحد أن يقيِّم مسار المقاومة المسلحة الفلسطينية فعليه ألا يغفل أيضًا عامل "اليأس"، الدافع في هذه الحالة للأمل، وللفعل. فهذا الشعور الفلسطيني المكرس طوال 75 عامًا؛ اليأس من التخلص من الاحتلال، دفع الفلسطينيين لأفعال متعددة، على أمل أن يراهم العالم، أو على أمل إيلام المحتل، أو على أمل أن يكونوا طرفًا في معادلات المنطقة. وهو ما يمكنِّنا من فهم مجمل المسار الفلسطيني المقاوم وصولًا ليوم 7 أكتوبر الماضي.
وصم الفلسطينيين ككتلة، كشعب، بالإرهاب، لم يكن نتيجة العمليات العسكرية النوعية مثل خطف الطائرات، وقصف مستوطنات الشمال حين كانت جبهة لبنان متاحة لهم، وطوفان الأقصى وغيرها. فقبل كل ذلك، وحتى يومنا هذا، يتم ربط صورة الفلسطينيين بالإرهاب والهمجية طالما تضمن نضالهم أي فعل، فردي أو جماعي، يبدو عنيفًا، وإن كان مجرد إلقاء الأطفال للحجارة على دبابات جيش الاحتلال. وعلى الفلسطيني أن يجيب دائمًا عن سؤال ندمه على "إرهابه السابق"، قبل إدانته بارتكاب "إرهابه الجديد".
في مقابل ذلك، لم تُسأل أبدًا القيادات الصهيونية إن كانت نادمة على المذابح وعمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها على مدار تاريخ دولة إسرائيل. فعلى سبيل المثال، إسحق رابين، الذي كان من المفترض أن يكون من ضمن ركاب الطائرة الأولى التي اختطفتها ليلى خالد، وشمعون بيريز، يتذكرهما "العالم الأبيض" اليوم باعتبارهما سياسيَّين عظيمَين ورجلي سلام، لا كقياديَّين لعصابة "الهاجاناه" الإرهابية. ليس لأن الهاجاناه انتصرت وهُزم الفلسطينيون، بل لأن لعبة المصالح والتحالفات الدولية تضعهم داخل ذاك الإطار المضيء رجال سياسة وليس إرهابيين.
لكن ليلى خالد خاطفة الطائرات، وأمثالها ممن انخرطوا في النضال المسلح الفلسطيني بأشكاله المتنوعة، يُسألون كل يوم عن ندمهم، وعليهم الإجابة. وفي كل يوم تتجدد الأسئلة حولهم، وأحيانًا ما تأتي هذه الأسئلة، والإدانة، من قطاع فلسطيني محدد؛ فلسطينيون نشأوا في ظروف مريحة بعيدًا عن فلسطين وعن مخيمات اللاجئين، وتلقوا تربية تعتمد على التصورات الأوروبية/الأمريكية عن الحضارة والقيم.
النظرة الأوروبية لنموذج المقاوم (أو المقاوِمَة) الفلسطيني عمومية، وتتجنب الدخول في التفاصيل. تتجاهل ما أكدت عليه مثلًا ليلى خالد كثيرًا، أنهم كانوا مضطرين لخطف الطائرات. فيتم إلغاء حقيقة الحاجة الفلسطينية وقتها لعمليات كبيرة، تلفت نظر العالم إلى أن قضية الشعب الفلسطيني ليست قضية إنسانية تخص لاجئين مساكين علينا مساعدتهم وغوثهم، بل قضية شعب يناضل ضد الاحتلال والإبادة. وبالطبع، لا تدخل ضمن هذه النظرة الأوروبية، المتعالية أخلاقيًا بانتهازية وانتقائية، أي محاولة جادة لفهم دوافع المقاومة المسلحة المشروعة للاحتلال. ولا يدخل في الاعتبار اليأس الفلسطيني عشية السابع من أكتوبر من عالم عربي يرتب أوراقه بشراكات جديدة مع إسرائيل على حسابهم.
أن ترفع يديك عاليًا
أرسل الكاتب جون ماكسويل كوتزي رسالة لصديقه بول أوستر مفزوعًا، طالبًا منه نصيحة حول ما يجب عمله إزاء رسالة وصلته من قارئة تتهمه بالعداء للسامية بناء عما تقوله إحدى شخصياته الروائية. ما لفت نظري أكثر من فزعه، التشبيه الذي يستخدمه في رسالة لاحقة لأوستر، بعد أن نصحه الأخير بتجاهل الأمر برمته؛ أن على الشخص المتهم أن يرفع يديه عاليًا ليبين أنهما نظيفتان وأنه بريء، وكأنه يقول: لست أنا.
يرى كوتزي الاتهام بمعاداة السامية أو بالعنصرية اتهامات كبرى قادرة على تدمير من توجَّه إليه. لكنها ليست الاتهامات الوحيدة، فهناك سلسلة طويلة، أكتفي بإضافة واحدة نعرفها نحن العرب والفلسطينيين جيدًا؛ الاتهام بالإرهاب.
أي عربي لا يدين صراحة ما فعلته ليلى خالد قبل 55 عامًا، ولا يدين المقاومة المسلحة، ولا يصف، على سبيل المثال، هؤلاء الشباب الذين أخذوا بعضًا من جنود الاحتلال الإسرائيلي رهائن في طوفان الأقصى بالإرهابيين، سيُوصم على الأقل بالتواطؤ مع الإرهاب، وأنه إرهابي محتمل.
لا يحمل الاتهام هنا لهجة الاحتمالية. لا بد للاتهامات الكبرى، لتكون فعالة في تحطيم المتهمين، أن تُطلق بأكبر قدر من اليقينية، مصحوبة بسلسلة من الأسئلة والاتهامات الأخرى. من بينها، كما في حالة ليلى خالد، هل تشعرين بالندم؟! هل تسببت في تشويه سمعة الفلسطينيين؟! هل أنت سبب وصمتنا؟!
إن قرر قطاعٌ من الشعب المقاومةَ فعليه أن يحصل مسبقًا على موافقة الشعب بأكمله وإلا ستتشوه سمعته
إن لم يجاهر الشخص بشعوره بالندم سيتجدد الاتهام في كل يوم جديد، لكنه يتوقف عن كونه اتهامًا ليصبح وصمًا. تتعطل حياته تمامًا بعدها، وستشغل هذه الوصمة حيزًا مهمًا من طاقته النفسية وحياته. فلمجرد أن الشخص متهم، عليه إثبات البراءة طيلة العمر. عليه أن يرفع يديه عاليًا بتعبير كوتزي، ويتركهما معلقتين.
صحيح أن ليلى خالد لا يعنيها الاتهام بشكل شخصي، مثلما لا أعتقد أن أيًا من المشاركين في عملية 7 أكتوبر يعنيهم شخصيًا وصفهم بالإرهابيين. لكنها دون شك دفعت ثمنه نوعًا من أنواع الشلل في ممارسة الحياة الطبيعية بقدر الإمكان، داخل الإطار العام لحقيقة أن لا حياة طبيعية للفلسطينيين. فهناك إهانة ليس فقط في رفع اليد عاليًا، بل في مجرد أن تحاول إثبات براءتك.
تتجاوز المسألة الإهانة إن تحدثنا عن عموم الشعب الفلسطيني وكيف دمرت إسرائيل حياته، وحاجته لأوسع تعاطف ودعم دولي. وتصل لليأس من الحياة بسبب الاحتلال، وبالتالي البحث عن فعل للتخلص منه، أو لمجرد أن تقول الضحية إنها لا تزال موجودة، لا تزال ضحية. وإن فعلت الضحية هذا الفعل، سيعمم على الفلسطينيين، فيوصمون ككتلة واحدة بوصم ما، ويطلب منهم على الدوام أن يثبتوا العكس، أن يثبتوا البراءة. وأن يثبتوا كذلك أنهم ليسوا كتلة واحدة.
في حالة القضية الفلسطينية تحديدًا، تم ابتداع صيغة مطلقة تدور حول "سمعة الفلسطينيين"، تتحول إلى سؤال متجدد، وقمعي. فهي صيغة تفترض ضمنيًا المستحيل؛ التوافق الكامل بين كل قطاعات الشعب، أي شعب، على أي فعل سيقوم به بعض أفراده أو بعض قطاعاته، وإن كان سيحافظ أو يمس سمعة هذا الشعب. فإن قرر قطاعٌ من الشعب المقاومةَ، فعليه أن يحصل مسبقًا على موافقة الشعب بأكمله، وإلا ستتشوه سمعته أوروبيًا وأمريكيًا. وكأن السمعة "الطيبة" تجلب المكاسب الوطنية.
هل جلبت السمعة "السلمية" لرجال سلطة الحكم الذاتي في رام الله أي شيء، خلاف الأبهة والمكاسب المالية الشخصية؟
نزع السياق التاريخي لتأكيد الوصم
صدر قبل أيام تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عن عملية السابع من أكتوبر، متهمًا عدة منظمات فلسطينية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وداعيًا المحكمة الجنائية الدولية لأن تنظر في ملفات هذه المنظمات، من بينها المنظمة اليسارية نفسها التي تبنت سابقًا أسلوب عمليات خطف الطائرات؛ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
من ضمن ما يلفت الانتباه في التقرير، أنه يتعامل مع يوم السابع من أكتوبر كأنه بداية الصراع. وبينما يتهم التقرير الفصائل الفلسطينية بارتكاب جرائم عنف جنسي، دون مصدر لضحية واحدة أو شاهد واحد، هناك على قيد الحياة مئات الضحايا والشهود على العنف الجنسي الذي مارسته وتمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيات والفلسطينيين. لكن هذا الجانب يتم تجاهله، ومن جديد، تضاف وصمة جديدة، فيكون على الفلسطينيين أن يرفعوا يديهم عاليًا ليقولوا جماعيًا "نحن أبرياء.. لسنا مغتصبين".
يعيدني ذلك إلى مفارقة أخيرة في الفيلم الذي تحدثت عنه في المقال السابق عن ليلى خالد خاطفة الطائرات، وهي تصويره عام 2004، بعد ثلاث سنوات فقط على هجوم 11 سبتمبر الذي نُفِّذ بطائرات مختطفة، ثم غزو واحتلال وتدمير أفغانستان والعراق.
تسأل المخرجة بطلة فيلمها، ليلى خالد، عن رأيها فيما حدث يوم 11 سبتمبر؛ فهي خاطفة طائرات سابقة. توضح ليلى خالد حرصهم على عدم الإضرار بأي رهينة، وبأنهم كانوا يعتذرون لهم طيلة الوقت، ويشرحون لهم اضطرارهم لهذه العمليات، ولهذا ترفض عملية تفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك بطائرات مخطوفة في 11 سبتمبر 2001، لأنها استهدفت مباشرة المدنيين بالقتل.
لكن المخرجة لم تسأل أيًا من الأجانب الذين استضافتهم في فيلمها عن الحرب الدائرة في العراق، والمذابح الأمريكية هناك، وقنص المدنيين العراقيين من الطائرات، لمجرد أنهم عراقيون. ولم تسأل الطيار الإسرائيلي، ولم تسأل نفسها، عن المذابح الإسرائيلية في الضفة وغزة، المتزامنة مع تصوير الفيلم. فتبدو أي عملية مسلحة فلسطينية خارج كل السياق الإجرامي التاريخي الذي كان الفلسطينيون ضحاياه، ليتم إلغاء حق الأفراد والمجموعات في المقاومة، إن لم يبحثوا عن هذا الإجماع المستحيل الذي اشترطه إلياس عطا الله على خصومه، عندما لم يعد بحاجة إليه.