برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
مطار ياسر عرفات الدولي في غزة بعد أن دمرته إسرائيل. صورة ملتقطة في مايو 2002

تركة الخراب| إرث عرفات لحماس

منشور الأربعاء 23 أبريل 2025

بينما نتأمل هذا الدمار الشامل في غزة، والموت المعمم، والجثث المحلقة بفعل القوة الهائلة للقنابل الإسرائيلية/الأمريكية، يتذكر كثيرون على السوشيال ميديا وخارجها، كيف كان في رفح، هذه المنطقة التي أصبحت اليوم ركامًا يغطي الكثير من الجثث، مطارٌ دولي تابع للسلطة الوطنية الفلسطينية. نعم، هذا صحيح.

أشرت في المقال السابق إلى زياتي لغزة عام 2006، أربعة شهور بعد بداية حكم حماس. وقتها زرت ذلك المطار، الذي ستكون قصته ناقصة إن اكتفينا بقول "كان في غزة مطار" في سياق أي نقد يوجه للمقاومة. فيتخيل المتلقي أن "الجراد الإسلامي" آتى بحكمه وخرابه على غزة ومطارها. في حين أن قصة المطار تستحق الرواية، لأنها في جوهرها قصة مسار أوسلو الإسرائيلي/الأمريكي/العرفاتي.

الرمزيات المحلقة

بُني المطار خلال بضع سنوات، بقروض من دولٍ عِدَّة بينها مصر. افتتحه ياسر عرفات بصحبة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1998، في احتفالية أرادوها مُحمَّلة بالرمزيات؛ لتبدو إعلانًا جديدًا عن تأسيس دولة فلسطينية. تُمنَح سلطة عرفات هذا الأكسسوار الذي يجعلها أكثر شبهًا بالدولة من حقيقتها كمجرد سلطة إدارية لحكم ذاتي منقوص، على ما بقي من أرضٍ تآكلت بفعل الاحتلال والاستيطان.

فعلى بعد كيلومترات من المطار الذي يفتتحه عرفات وكلينتون، هناك مستوطنة إسرائيلية داخل غزة المفترض أن تُشكِّل مع أريحا نواة الدولة الفلسطينية المستقلة، وجيش إسرائيلي يحميها، ويحمي المستوطنين المسلحين داخلها، ويعتدي على من يقترب منها. إنها مستوطنة نتساريم، التي بُنيت عام 1972 منفصلة قليلًا عن بقية المستوطنات التي ستُعرف لاحقًا باسم مستوطنات غلاف غزة.

لا نشاز في الوضع، فاتفاقية إنشاء المطار نفسها منحت دولة الاحتلال الحق في مراقبته، قبل أن يكون هذا الحق للرئيس الفلسطيني ومؤسساته الإدارية. في كل الأحوال، لم يستمر الزهو بالمطار سوى ثلاث سنوات، قبل أن تقصفه إسرائيل وتدمره تمامًا، وتنسف لعرفات رمزية الدولة التي يترأسها أثناء انتفاضة 2000 الشعبية ضدها وضد أوسلو ومسارها. فعلت ذلك وهي تحاصر مقره، وتمنعه من مغادرته، وتقرر من يستطيع الدخول والخروج منه.

تزامن تدمير المطار في غزة مع بناء جدران الفصل العنصري في الضفة

تزامَن تدمير المطار في غزة مع بناء جدران الفصل العنصري في الضفة، وتدمير الأراضي الفلسطينية، والعصف بكل الاتفاقات التي تورط فيها عرفات منذ مسار أوسلو 1993. لكنه كان أيضًا تدميرًا معنويًا لكل من حلموا بإمكانية الوصول مع إسرائيل لاتفاقيات تعايش. فحرصت دولة الاحتلال على أن يكون عرفات، وخلال الشهور الأخيرة من حياته، شاهدًا على تدميرها سلطته.

تدمير سلطة الحكم الذاتي العرفاتية لم يقتصر على تدمير المطار، والاجتياحات في الضفة وغزة، وبناء جدران شارون للفصل العنصري، بل أيضًا بأن يرصد عرفات، بإدراك ووعي، هذه الصلات الحميمة التي تربط الصف الثاني من رجاله؛ أبو مازن ودحلان، بدولة الاحتلال. وكأن إسرائيل تقول له "هؤلاء خلفاؤك، انظر لهم ولعلاقاتنا بهم. وانظر للمستوطنة الباقية في غزة، وللضفة التي نُقسِّمها لكانتونات معزولة بالجدران، وبنقاط التحكم العسكرية، وبالمستوطنات. وانظر أيضًا للدبابة الواقفة على بابك".

الانسحاب الإسرائيلي نفسه من غزة، بعد عشرات المجازر التي ارتكبها هناك، كان نتيجة ضغط المقاومة، التي لم يكن لأبو مازن أو دحلان، خلفاء عرفات، أي دور فيها. أما الجناح الفتحاوي المقاوم، الذي كان من الممكن أن يوازن ثقل حماس، ويشكل مع المنظمات الأخرى جبهة موحدة، لا تتحرك في سياقها كل منظمة بمفردها، وكان بإمكانه تحجيم الجناح الأمريكي/الإسرائيلي داخل السلطة، ممثلًا في أبو مازن وبدرجة أكبر في دحلان، فقد اعتقلت قيادته الأساسية مروان البرغوثي، وجرى تحجيم وقتل واعتقال الباقين.

أما الانسحاب المنفرد من غزة في أغسطس/آب 2005، بعد إخلاء نتساريم، في سياق خطة فك الارتباط الأحادية، فكان بحد ذاته إهانة للسلطة واتفاقياتها مع الاحتلال، ومحاولاتها للتعايش معه. كان من ضمن الإعلانات الإسرائيلية المتكررة؛ لا اتفاقات، لا دولتان.

واقع الخراب غير المحلق

تكرَّس موت أوسلو فلسطينيًا، وليس إسرائيليًا، في الصناديق بعد هذا الانسحاب، في يناير/كانون الثاني 2006. ومن غير غزوات صناديق تُعيد للأذهان أجواء استفتاء مارس 2011 الشهير في مصر، الذي شكَّل مفتتح البارانويا المصرية تجاه الحركات الإسلامية. البارانويا التي أشرت في المقال السابق إلى أنها تدفع البعض لرؤية حماس وكأنها مجرد امتداد لجماعة الإخوان المسلمين المصرية.

فالانتخابات الديمقراطية في الضفة والقطاع أتتْ بأغلبية تشريعية من حركة حماس بـ76 مقعدًا من إجمالي 132 مقعدًا، مقابل 43 لفتح، ووُزِّعت بقية المقاعد بين الفصائل الأخرى. المضحك والمبكي أن مقاعد فتح اقتسمها تابعو عصابة دحلان، مدير الأمن الوقائي في غزة، الذي ستكون مهمته إسقاط حكم حماس بالعنف وبالاستفادة من الحصار الدولي، مع قطاعات فتحاوية أخرى قبلت بنتائج الانتخابات، من بينها جناح البرغوثي الذي سعى لعمل مصالحة وطنية وحكومة ائتلافية، وافقت عليها حماس.

يتجاهل الكثيرون، من بينهم السياسيون الأوروبيون الرافضون للإبادة الآن، ومن بينهم من كانوا يتولون مناصب سياسية في 2006، حقيقة أن الاتحاد الأوروبي، والعالم العربي، والولايات المتحدة، قرروا فرض الحصار على غزة، وتجويعها، وتجاهل الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة وشبه اليومية عليها، لمجرد أن نتائج الانتخابات التشريعية لم تأتِ على هواهم، رغم أنها أُجريت تحت إشرافهم. ورغم أن قبول هذه النتائج، وفتح الحوار مع حماس الفائزة فيها، كان فرصة لتحويلها من تنظيم إلى مشرف على سلطة ملتزمة بمعاهدات واتفاقيات، بناءً على أوسلو، حتى وإن رفضت أوسلو ونتائجها.

التاريخ يقول إن غزة قبل حكم حماس كانت أيضًا معتقلًا كبيرًا مستباحًا ومدمرًا ومحتلًا

مثلما شاهدت المطار الخرب الذي سُمِّي باسم ياسر عرفات بعد موته، وبعد أن دُمِّر وتوقف عن العمل. ومثلما شاهدت المنطاد الإسرائيلي الضخم وهو يحلق فوقه، مزودًا بأحدث التقنيات لمراقبة غزة، بصوت الأزيز المستمر الذي يُسببه، شاهدت أيضًا حشودًا مسلحةً من شباب فلسطينيين، بعضهم ينتمي لدحلان، وبعضهم لحماس، يقفون عند نواصي شوارع مدينة غزة. وعند حلول الليل يتواجهون بالرشاشات، رغم أن جميعهم فلسطينيون، ينتمون لنفس الأهل اللاجئين، وتجمع الكثيرين منهم صلات قرابة ونسب. وهو المشهد الذي سأتذكره حين أقرأ بعد سنوات تعليق صديقة على فيسبوك عن مواجهات الاتحادية في 2012، بأن هناك من بين الطرفين المتواجهين من يرتدون شباشب بلاستيكية فقيرة، لا تصلح للحماية من البرد.

بالإمكان الحديث كثيرًا عن ما سُمِّي بانقلاب حماس في غزة عامي 2006 و2007، أو ما سُمِّي عكسيًا بمحاولة دحلان الانقلاب بدعم إسرائيلي وأمريكي. لكن هذه المسألة نُشر عنها الكثير، وهي أكثر اتساعًا من هذا المقال. أكتفي بالتذكير بمصائر قيادتي الطرفين المتحاربين آنذاك؛ إسماعيل هنية ومحمد دحلان. الأول استشهد بعد أن عايش استشهاد كثيرين من عائلته. والثاني، مسؤول الأمن الوقائي أيامها، المطرود من فتح ومنظمة التحرير، أصبح اليوم رجل أعمال أنيقًا في الإمارات، يدير شركات أمن ومرتزقة.

لا يهدف هذا المقال للدفاع عن حماس، فلا ألتقي مع حماس في أي جانب سياسي أو فكري فيما عدا كونها جزءًا من المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، ومن أجل الحرية والحياة. بل إن حماس، كحركة مقاومة وكحاكمة لقطاع غزة، ما زالت أمامها مهمة المراجعة والمحاسبة والنقد الذاتي تجاه كثير من أفعالها وإجراءاتها. لكن، التاريخ يقول إن غزة قبل 17 عامًا من 7 أكتوبر، بدايةَ حكم حماس، كانت أيضًا معتقلًا كبيرًا، مستباحًا ومدمرًا، ومحتلًا، أيًا كان العلَم الذي كان يرفرف فوق بيوتها بجوار العلم الفلسطيني؛ فتح أو حماس. وأيًا كان صاحب السلطة عليها، عرفات أو أبو مازن أو إسماعيل هنية.

يعلَم الإسرائيليون جيدًا أن العدو الذي ينبغي القضاء عليه ليس المنظمات أو المقاومة، بل فلسطينيو غزة، ليتفرغوا لفلسطينيي الضفة، وبعدهم فلسطينيي الداخل المحتل في 1948. الفلسطينيون هم هدف الإبادة، لأن التاريخ يقول إنهم، وفي كل مرة انهارت وانتهت منظماتهم للمقاومة، شكلوا الجديد منها، لمجرد غياب أي بديل آخر من أجل الحياة، سوى المقاومة.

تركة الخراب الأثقل، والأكثر عمقًا التي تركها عرفات لحماس في غزة، لا تتمثل في مطار مُدمر بقنابل إسرائيلية، يحلق فوقه منطاد إسرائيلي، ولا في الاحتلال، أو الحصار، بل هي تركة أوسلو نفسها، التي أنتجت خرابًا تاريخيًا على الشعب الفلسطيني، بمنحها شرعيةً للاحتلال، يحاول الفلسطينيون إسقاطها منذ انتفاضة 2000، قبل 23 سنة من هجوم السابع من أكتوبر.

ربما يكون من الضروري أن يتذكر المصريون والعرب ما يتذكره الفلسطينيون جيدًا أن مذبحة صبرا وشاتيلا 1982، حدثت بعد انسحاب المقاومة من بيروت. علينا أن نتذكر ذلك في كل مرة نسمع فيها دعاوى خروج حماس من المشهد وانسحابها. وألا نتجاهل المفارقة الأكثر مرارةً، أن قوات الثورة الفلسطينية وجدت أرضًا لتنسحب إليها عام 1982؛ تونس والجزائر واليمن وسوريا. لكن "رفاهية" الـ82 لم تعد متاحة اليوم، حيث لا مكان للانسحاب. حتى الرايات البيضاء المطلوب رفعها، بعد عملية إبادة غير مسبوقة، أصبحت بقايا قمصان وأربطة طبية ملوثة بالدم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.