يُقدم أكاديمي مصري نفسه كأحد الرموز الفكرية لما يُسمى بـ"التيار العلماني/التنويري"، يحرص على أن يسبق اسمه لقب "دكتور". كتب هذا الشهر مهاجمًا الخطاب الأخير لخالد مشعل بمناسبة الذكرى السنوية لطوفان الأقصى، وكان أهم ما قاله في سياق هجومه أن مشعل والمتطرف اليميني إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي الإسرائيلي متساويان.
يأتي بن غفير في مخيلة ووعي المتابعين للشأن الإسرائيلي في مرتبة أحقر من نتنياهو. فهو من زعماء أحد أكثر التيارات تطرفًا ودموية في إسرائيل، الدافعة لاستمرار الإبادة وتصعيدها، وصولًا للقضاء على الشعب الفلسطيني إن أمكن.
تستند مساواة خالد مشعل ببن غفير على لعبة لغوية يخترعها "الدكتور"، محورها كلمة "مصير". فتأكيد مشعل أن الانتصار على إسرائيل هو "المصير" الوحيد للشعب الفلسطيني، ولأن بن غفير يرى في إبادة الفلسطينيين هدفًا إسرائيليًا "مصيريًا"، يكون جوهر الانتصار الذي يسعى إليه خالد مشعل، من وجهة نظر "الدكتور"، متضمنًا الإبادة الكاملة للشعب الإسرائيلي. وعلى هذه الأرضية يلتقي الرجلان ويتساويان.
هذا الكلام المعتمد على المغالطات والأكاذيب والألعاب اللغوية التافهة، وتصوير خالد مشعل باعتباره هتلر جديدًا يريد إبادة اليهود، لا يستدعي مناقشة جادة. لكنه خطر، لأنه يتبنى منطقًا أبدعته الحركة الصهيونية قبل أعوام قليلة من تأسيس دولتها، ويستقبله أغلب القراء دون أن ينتبهوا، ويتحول لجزء من وعيهم.
في هذا المنطق، تُوضع على كتف الضحية، كتف من يعاني الاحتلال والإبادة، نفس الأحمال الأخلاقية، ونفس معايير الحساب السياسية التي يجب أن توضع على كتف الجاني/المحتل. فتكون النتيجة المنطقية تجاه المشهد الحالي أن كليهما سواء، ونشعر أن المعركة بين طرفين، كليهما شرير. معركة لا تعنينا، لأننا من الأخيار.
الشيء الوحيد المطمئن بخصوص "الدكتور"، أنه، وتياره المزعوم، بلا قيمة. تيار محكوم عليه بأن يكون صفرًا من قبل أن يتحدث أو يفعل أي شيء، لعوامل كثيرة، أهمها تبعيتهم الذليلة للسلطة المصرية، وغياب قدرتهم على نقدها، وأن هذه السلطة نفسها، ورغم تبعيتهم لها، تحتقرهم ولن تسمح بأي تنوير أو علمانية، أيًا كان نوعها.
هذا النوع من التنوير والعلمانية السطحيين، يتلاقى مع أفكار أكثر التيارات الأوروبية رجعية ويمينية، التي تدعي الديمقراطية والعلمانية، وترفض استخدام الدين في السياسة والصراعات الاجتماعية. تيارات ترفض المجموعات الدينية إن كانت عربية، لكنها ترحب بها وتتعاون معها، كأمر واقع وضروري، عندما تكون إسرائيلية. بل وتدعم الدولة اليهودية بسبب طبيعتها اليهودية نفسها، ولأنها قاعدة احتلال عسكري غربي في الشرق. ولا ترى أي خِصم لهذه الدولة سوى كهتلر جديد يهددها. فتسمح لها أن تعيد إنتاج ما تسميه بـ"الكارثة/المحرقة"، وشبح عداء السامية، مع كل لحظة جديدة، وبأموال دافعي الضرائب الأوروبيين.
النقد في زمن الإبادة
عادت مع الذكرى السنوية لعملية طوفان الأقصى موجة نقد حماس والهجوم عليها. لا ينجو بالطبع في هذا السياق حزب الله، وله أحيانًا النصيب الأكبر من الهجوم والنقد العنيف، وصولًا للتجريم، بالإضافة لاعتماد هذه الموجة على خدعة مساواة المقاومة بدولة الاحتلال العنصرية، إلا أنها لا تخلو أيضًا من بعض الكوميديا والهزل أحيانًا.
فالعلمانيون والتنويريون والليبراليون، ولأنهم ديمقراطيون بطبيعتهم، يستخدمون في هجومهم على طوفان الأقصى حجة تكاد تكون بلهاء، تصلح كـ"اسكتش" كوميدي في فاصل إعلاني. وهي أن الشعب الفلسطيني لم يُسئل عن رأيه في هذه العملية، مثلما لم يَسأل حزب الله عموم الشعب اللبناني قبل عمليات المساندة لغزة. وكأنه مطلوب من مقاومي الاحتلال أن يعلنوا عن مخططاتهم العسكرية، ويستفتوا الشعب، والعدو بالمرة، حولها.
هذا المستوى من الهزل يخرب الإمكانية المستقبلية لمناقشة ما هو هام، ويستحق بذل الكثير من الجهد والعمل؛ مسألة "دمقرطة المقاومة"، وكيف تخلق علاقة أكثر شفافية وعضوية بشعبها، وألَّا تكون هناك أسوار عالية تفصلها عن بيئتها الحاضنة. لكنها مناقشة مستقبلية، ستحدث بالضرورة بعد انتهاء الإبادة، وبناء على نتائجها الواقعية ودروسها. فهذه الإبادة تدشن زمنًا جديدًا تمامًا في منطقتنا، سيمتاز من ضمن سمات أخرى بوضوح المواقع، والاستقطابات الحادة، وأن نتحدث في كل شيء.
لو كان الهدف هو فتح نقاش نقدي لخلق أشكال جديدة من المقاومة مستقبلًا، فهو مشروط بعامل أساسي، ألَّا يحدث بالتزامن مع الإبادة التي ينبغي أن يكون إيقافها أولوية الجميع. هنا يصبح نقد من يحمل السلاح، ويخاطر بحياته في مواجهة العدوان الحالي، الذي لم تعش منطقتنا مثله مِن قبل، بل والهجوم عليه كلاميًا، فعلًا غير أخلاقي.
ولو كان المطلوب ديمقراطية وانفتاحًا أكثر على شعوبنا، فهو غير ممكن حاليًا بسبب طبيعة كل شيء محيط بنا، وأوله الإبادة، والدم والدمار. ناهيك عن أن التنويريين والليبراليين "الديمقراطيين" بطبيعتهم، ينظمون انقلابات حزبية، غير ديمقراطية، ضد بعضهم البعض.
تستخدم بعض الخطابات، بانتهازية، صرخات تصدر من فلسطينيين داخل غزة وخارجها، ولبنانيين، باعتبارها دليلًا على أن المقاومة في البلدين مرفوضة، وأنها تفتقد للشعبية، وكدليل على رفض الشعب الفلسطيني لحماس، مثلما يرفض الشعب اللبناني حزب الله.
لا يمكن أن يتصور أحدٌ أن الفلسطينيين في غزة سعداء بكل ما عاشوه خلال هذه السنة. أو للدقة؛ سعداء بالموت الذي رافقهم طوال اثني عشر شهرًا. ولا يمكن تصور أن يكون اللبنانيون سعداء بهذا الظل الثقيل لشبح الموت الذي يقترب منهم، ويمتد من الضاحية الجنوبية لبيروت، ليغطي لبنان كله. بالطبع لا، فانفصال قطاعات مجتمعية واسعة عن المقاومة، هدف أساسي من ضمن أهداف الإبادة.
لا يخبرنا التاريخ عن شعب أجمع على مقاومة الاحتلال. وبعد إبادة بهذا الحجم لمدة عام كامل، من الطبيعي أن يكون الفلسطينيون تحديدًا منهكين ومنقسمين، ومن حقهم تبني مواقف متباينة وإشهارها. لكن، لا يملك أحد رفاهية ادعاء معرفة رأي وتوجهات الشعب في اللحظة الآنية. لا تكفي الصرخات لتكون مؤشرًا على ما يريده الشعب الفلسطيني. وتصويره ككتلة واحدة تقف في جانب، وحماس في جانب آخر، غير أخلاقي بدوره، وغير واقعي.
لا نعرف ما يستهدفه من يشهرون النقد والهجوم على حماس وحزب الله في هذه اللحظة
هذه الادعاءات، في جوهرها، منسجمة مع المخطط الإسرائيلي الدعائي، الذي حاول منذ اللحظة التالية لعملية السابع من أكتوبر، تصوير حماس وحزب الله باعتبارهما "داعش"، بكل ما تمثله من رعب ودموية في المخيلة الأوروبية والأمريكية؛ تنظيمات إرهابية مغلقة بالإمكان القضاء عليها، على عكس حقيقة أن عشرات الآلاف من مقاتلي حزب الله وأعضاءه لهم عائلات وأطفال وجيران وأصدقاء، مثلهم مثل الآلاف من مقاتلي حماس، الذين لديهم عائلاتهم، وهي بيئتهم الحاضنة. ولن ترغب هذه البيئة الحاضنة في هزيمة أبنائها لأن إسرائيل تعاقبها بالدم والإبادة.
لا أدافع هنا عن أيٍّ من توجهات أو ممارسات أو أفكار حماس وحزب الله. لكن تصويرهما كعصابات قتلة مولعين بالدم، أو أفراد مغامرين في صحراء، ينافي الحقيقة. فحياتهم، هم وعائلاتهم وأبناؤهم هناك، في هذه البيوت المدمرة في غزة، في الخيام التي تتعرض للقصف، في مخيمات الضفة الغربية التي يتم اجتياحها يوميًا، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي الجنوب اللبناني، ووصفهم اليوم بأنهم إرهابيون، وقوف على نفس الأرضية الإسرائيلية، يقدم لدولة الاحتلال كل المبررات لتقتل المزيد من اللبنانيين والفلسطينيين، من عائلات "الإرهابيين".
لا صوت يعلو فوق صوت المعركة
يتم ابتزاز المتضامنين، والرافضين لنقد المقاومة الآن، بأنهم يكررون شعار الستينيات الناصري سيئ السمعة؛ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". فتبدو عقلياتنا متساويةً مع عقليات مديري أجهزة البروباجاندا والقمع في الستينيات، مثلما تساوى خالد مشعل ببن غفير، وتساوى حزب الله بجيش الاحتلال الإسرائيلي.
تحت القصف والحضور المكثف للدم لن تسمعك المقاومة فهي مشغولة بالمقاومة نفسها
حضور التعبير الآن مختلف عن أيام الستينيات، حين كانت السلطة تستخدمه لإسكات المعارضين. فلا سلطة لحماس أو حزب الله علينا، نحن الداعمين والمتضامنين، المهزومين من حكامنا، من قبل أن تهزمنا إسرائيل. التعبير الدقيق الآن هو "لا صوت يعلو فوق صوت الإبادة". وهو في جوهره انحياز لدم الشعبين الفلسطيني واللبناني، ومحاولة تجنب الاستسلام بكل ما يعنيه.
نعرف جيدًا ما يسعى إليه العرب الذين يرفعون عَلمًا لبنانيًا أو فلسطينيًا، والذين يكتبون كلمة تضامن ودعم للشعبين. نعرف أن هدفهم من إشهار هذا الدعم هو أن تصيب عدواه الآخرين، ليشهروا بدورهم الدعم والتضامن، على أمل خلق حالة مجتمعية ضاغطة. على أمل أن تُترجم هذه الحالة إلى أفعال ضاغطة على الحكومات، لتخلق وعيًا وتيارًا جديدًا، يعدل كفة الميزان، ولو قليلًا، لصالحنا.
في المقابل، لا نعرف ما يستهدفه من يُشهرون النقد والهجوم على حماس وحزب الله في هذه اللحظة، ومن يصرون على تكرار أن المقاومة هُزمت بسبب أخطائها، وبصيغ مختلفة لا تنتهي يدعون للاستسلام. نستطيع أن نستنتج أحيانًا أهدافهم، بعضها لا يتعدى مجرد كسب بعض القلوب واللايكات، وأن يراهم أحد. وهدف بعضها الآخر أن يقولوا مستقبلًا "ألم أقل لكم ولم تصدقوني؟!"، أي الرغبة في التميز الطفولي.
وأحيانًا أخرى نستشعر إحساسًا مريرًا بالهزيمة الداخلية، والرغبة في تعميمها على الذوات الأخرى، ليشعر المهزوم بأن الجميع مثله، مهزومون. ويصل دون أن يدري لنقطة أنه يخشى انتصار المقاومة، وكأنها بانتصارها تكرس هزيمته.
أما من يُفترض فيهم الجدية والثقافة والمعرفة، من خارج الحالات السابقة، فماذا يستهدفون؟! ماذا يضايقهم في إشهار الآخرين للتضامن والدعم للشعبين وللمقاومة؟! ربما، مجرد "ربما"، يكون الهدف تجريد المقاومة تدريجيًا من أي تعاطف شعبي، فيسهل القضاء عليها تمامًا. وهو في هذه الحالة هدف بائس، لا يتجاوز الرغبة في تصفية حسابات عربية - عربية، لصالح الاحتلال وحلفائه في الخليج.
هل العملية أكثر تعقيدًا؟! فعبر إشهار الرفض لحزب الله وحماس في الإعلام، وفي الشارع، وفي مواقع العمل، وفي السوشيال ميديا، يبحثون عن مكان لهم في الشرق المستقبلي، الإسرائيلي/الخليجي الجديد. وأن نرفع جميعًا الرايات البيضاء، "الآن الآن وليس غدًا"، مستسلمين لإسرائيل، لنُعجِّل بتدشين شرقها. حتى وإن أدى الاستسلام لنتيجته الطبيعية، المزيد من الإبادة والتوحش.
نعم، من الضروري نقد الكثير من الممارسات والأساليب والجوهر الفكري والعقائدي لمنظمات المقاومة الدينية، والطبيعة الطائفية لبعضها. بل من الضروري مستقبلًا مطالبتها بكشوف الحساب. لكن، إن كان النقد ضروريًا، فالآن ليس وقته. فتحت القصف، والحضور المكثف للدم، لن تسمعك المقاومة، فهي مشغولة بالمقاومة نفسها. فيكون نقدك لا قيمة له، وكأنه لم يحدث، ولم يستفيد منه إلا دولة الاحتلال.
هل يقرأ كلماتي هذه من يَحمل بندقية في جنوب لبنان، أو يحمي جسده خلف جدار بيت مهدم في غزة؟! إن قرأها أو سمعني سيكون أحمقَ، وسيصطادونه لحظتها.