تستدعي سيرة يناير 2011 الكثير من الحزن والحسرة والحنين. لكنها تستدعي كذلك الفخر بأننا في ذلك الشتاء الذي يبدو بعيدًا اليوم، كنا أقوياء، وقادرين على تحقيق وحدة إبداعية نضالية، شكَّلتها عشرات آلاف المبادرات الفردية والجماعية، لإسقاط رأس النظام.
اعتدنا هذا الخليط الذي تستدعيه سيرة يناير، فلم يعد تغير التعبيرات على وجوه الناس أو نبرات أصواتهم، حين تحضر، يثير الدهشة. وأحيانًا ما تستدعي السيرة إحساسًا مبهمًا بالاحتمالية المتجددة، وكأننا قادرون على صنع يناير جديد مع كل سنة جديدة تُبعدنا عن يناير الأصلي الأكبر.
ربما حملت هذه السنة الجديد، فلسطينيًا قبل أن يكون مصريًا؛ إحساسًا بأننا "نعم نستطيع". فنرى ذواتنا، بالرغم من كل هذا الضعف الذي تأصل عبر ثلاثة عشر عامًا، في مرآة فلسطينية، وكأننا نبحث عما تبقى داخلنا من يناير لنراه في ضوء غزة، إن استطعنا.
العبور من إيريز
عبرت إلى غزة عام 2006 من معبر إيريز الشهير. كنت متوترًا وقلقًا وأنا أدرك أنني أمام لحظة كبرى من حياتي الشخصية، فلم أنتبه للكثير من التفاصيل. لكنني أتذكر جيدًا أنني أدركت، بعد عبور حجرات التفتيش الإسرائيلية حيث التعامل المباشر مع الجنود والمجندات الإسرائيليين، وحين تبدأ مراحل التفتيش التكنولوجية الحديثة داخل هذه الماكينات الدوارة التي يتحكمون فيها عن بعد لمسح كل خلايا الجسد بدقة، أنني أدخل ما يشبه المعتقل الحصين.
يوم السابع من أكتوبر تذكرت وجوه الجنود الإسرائيليين البليدة في معبر إيريز.. هل لا يزالون مبتسمين؟
تذكرت لحظتها معسكر أوشفيتز النازي، الذي رأيته في الصور والأفلام التسجيلية، وكذلك في مجسمات معروضة في المتحف اليهودي ببرلين. جدران معبر إيريز الأسمنتية أكثر ضخامة وقسوة مما رأيناه في الصور والمجسمات لأوشفيتز؛ ممرات مربعة من الأسمنت المسلح، كأنفاق رمادية لا تظهر نهايتها.
هم يرونني ويتحدثون إليَّ عبر ميكروفونات لا أعرف مكانها. يوجهون تعليمات محددة وأنا لا أراهم، أرد على أشباح، حتى وصلت للجانب الفلسطيني، فساعدني رجل غزاوي على حمل حقيبتي ومعداتي، قائلًا بهدوء وخجل، وكأنه يعتذر عمَّا مررت به توًا، "حمدالله عالسلامة يا أستاذ".
عند الخروج بعدها بأيام من المعتقل الكبير المسمى غزة، لأدخل من جديد مجسمات إيريز الخرسانية المسلحة، قاطعًا الطريق بالعكس، لم أكن مرتبكًا أو متوترًا، فانتبهت إلى أنني أعبر من عالم إلى آخر، من زمن لآخر، لألتفت أكثر لتفاصيل جنود ومجندات مراهقين، يحملون بنادق أكبر من أجساد بعضهم، بوجوه باردة وبليدة.
إن لاحظوا عبوس العائد من غزة، يلفتون نظره بابتسامة سمجة إلى ما علقوه على الجدران؛ ملصقات متعددة لوجوه مبتسمة، ومكتوب عليها بالإنجليزية smile، كأمرٍ صريح للعابر بأن يبتسم في وجوههم. يعرفون أنَّ هذا العابر لن يستجيب للأمر إن كان عربيًا أو فلسطينيًا، لكنهم يصرون، كنوع من الإذلال، وكتذكير بأن انتصارهم نهائي وحاسم.
العبور إلى التحرير والخروج منه
يوم السابع من أكتوبر تذكرت هؤلاء. تخيلت وجوههم وهم يرون شباب المقاومة الفلسطينية بجوارهم، أو وهم يرونهم محلقّين يقتحمون الحدود ويحطمونها. كيف كانت تعبيرات وجوههم لحظتها؟! هل كانوا مبتسمين؟! الوجوه المرتعبة لا تبتسم. لا بدَّ أن تعبيراتهم وقتها تشبه ما رأيناه على وجوه رجال الأمن وهم يشاهدون يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011 ذلك العبور الكبير في الشوارع وصولًا لميدان التحرير.
والعابر من إيريز قبل السابع من أكتوبر ربما تتشابه تعبيرات وجهه مع وجوهنا وقت خروجنا من ميدان التحرير، بمعناه المجازي كممثل لكل أماكن الثورة، مهزومين، فيما نرى صور المنتصرين من أصحاب السلطة على القنوات التليفزيونية، بابتساماتهم البلاستيكية، التي يعلنون بها قضاءهم على يناير وعلى الكثيرين من المنتسبين إليها.
وقت عبورنا للتحرير، وليس الخروج منه، لا بد أننا لم ندقق في التفاصيل، مثلما حدث معي فيما كنت أعبر إلى غزة. لكنَّ السنوات تمر، ولم يعد لدينا سوى الوقت للتركيز في التفاصيل والابتسامات المتشفية، ومقارنتها بما كانت قبل انتصارهم.
والوقت يمنحنا بدوره عبء تأمل هذه الأسوار التي بنيت حول أقسام الشرطة ومقرات الأمن والثكنات. أسوار أسمنتية تشبه حوائط معبر إيريز، تحيلها إلى قلاع يستحيل نظريًا اقتحامها مثله، وأمامها مدرعات الشرطة المحدثة بدروع جديدة، وجنود الأمن المركزي البسطاء بملابسهم التي تشبه ما ترتديه سلاحف النينجا، يفصلونهم عن بقية إخوتهم من أهل بلدهم.
حين نتطلع إلى هذه التفاصيل يتذكر بعضنا الماضي، يوم 28 يناير مرة أخرى، حين توحدت حالة إبداعية استثنائية لكسر كل الحواجز، وحرق وتدمير الكثير من أدوات القمع. فنسأل أنفسنا، غالبًا بيأس، عما يمكن أن يحدث في المستقبل، وإن كان بإمكاننا يومًا تجاوز كل هذه الأسوار والدروع.
العبور فوق ابتسامات المنتصرين
تشعرنا هذه الدروع والملابس والجدران الصخرية والأسمنتية بأنَّ انتصار أصحاب الابتسامات أبدي لا يمكن كسره، وأن لا مجال لهزيمتهم. فأصحاب الابتسامات المصرية يمتازون بنفس هذا التراخي الذي كان يشعر به الجنود والمجندات الإسرائيليون في إيريز، فالخطر الوحيد قبل السابع من أكتوبر كان استشهاديًا/انتحاريًا سيفشل غالبًا في الوصول إليهم، حتى لحظة هذا الصباح حين وجدوا المقاومين بينهم، في حجراتهم، وداخل غرف التحكم الإلكترونية المنيعة.
كسر الفلسطيني خدعة الحصانة والتكنولوجيا يوم السابع من أكتوبر، طار، نعم، طار ليهبط محققًا حلم عباس بن فرناس، ومؤكدًا أن في عز الهزيمة، بالإمكان كسر ابتسامات العدو اللزجة، وتمزيقها كقطع بلاستيك هش ورخيص. ليخلق لحظة إبداع جديدة، تصل بالفعل لحدوده القصوى، مستعيدًا كل الطاقات التي بدت منتهية، ليفجرها من جديد.
أكملت مذبحة غزة شهرها الرابع، ولم يحقق الجيش الإسرائيلي "الأسطورة" أي انتصار بعد. صحيح أننا لا نعرف إلا بعض خسائره المادية والبشرية، ونحتفل بها، لكن هناك عاملين مؤكدين، أولهما أنَّ غزة لا تزال عصية عليه مثلما كانت دائمًا منذ احتلالها في 1967، وثانيهما أنَّ مقاتلي المقاومة الفلسطينية يقومون بعمليات بطولية عنوانها الأساسي الشجاعة، والإصرار على تحرير أرضهم وحماية شعبهم. وأنهم مثل غزة، عصيون على جيش الاحتلال رغم كل مذابحه وتدميره للقطاع.
يعرف العالم كله أنَّ التدمير الشامل والتطهير العرقي لا يشكلان انتصارًا عسكريًا أو سياسيًا. وأن إسرائيل بالرغم من كلِّ هذا الدمار والدماء، تخسر سياسيًا كل يوم. يثقل الحديث عن انتصار فلسطيني تحت وطأة كل هذه الدماء، لكنَّ الفلسطينيين يحققون بصمودهم مجدًا جديدًا كل يوم، ويبنون من جديد الذاكرة الجماعية لأنفسهم ولقطاعات واسعة من العالم.
تحدثت في مقال سابق عن الذاكرة الجماعية التاريخية. إن استعدناها مصريًا سنجد أنها كانت أحد جوانب الصراع الذي افتتح بعد إسقاط مبارك يوم 11 فبراير/شباط 2011. صراع لفتح كل ملفات السلطة والمجتمع والثقافة منذ استيلاء الضباط الأحرار على السلطة في 1952 وصولًا لإسقاط ما تصورنا أنه العسكري الأخير. ليس فقط لصالح البدء في عملية العدالة الانتقالية، بل أيضًا لإعادة بناء وعي جديد، مبني على معرفة حقيقية بكل ما حدث، ورفض لكل أشكال القمع والاستبداد والفردية. لكن الطرف المنتصر في مآلات يناير، الممتلك للسلطة، لم يسمح بها، لأنها تهدد بقاءه مستقبلًا، وتهدد عودته للسلطة إن خسرها مؤقتًا.
ما لم نستطع تحقيقه هو نفسه ما يحققه الفلسطينيون اليوم أمام العالم؛ بناء وعي جديد كاشف لإسرائيل وجوهر مجتمعها العنصري والدموي.
داود عبر من هنا
تحكي القصة التوراتية عن الجندي العملاق في جيش الفلسطينيين، جوليات، الذي تحدى جيش إسرائيل لمدة أربعين يومًا بأن يخرج من بين صفوفه من يستطيع مبارزته وقتله. اقترح جوليات التحدي كرهان؛ أن يصبح الفلسطينيون عبيدًا للإسرائيليين إن قُتل هو، ويصبح الإسرائيليون عبيدًا للفلسطينيين إذا انتصر.
جاء الفتى الإسرائيلي داود، راعي الغنم بجسده الضئيل، قبل التحدي لإيمانه بأن الرب لن يتركه وحيدًا لأنه يمثل جيش الرب ذاته. أخرج مقلاعه، ضرب جوليات بحجر أصاب رأسه، أوقعه أرضًا، وأخذ سيفه وقطع رأسه.
لم يلتزم الإسرائيليون لحظتها باتفاق التحدي، هاجموا جيش الفلسطينيين متحمسين بانتصار الرب لداود، قتلوهم جميعًا، وأغرقوا الوادي بجثثهم ودمائهم.
نتعلم من الصمود الفلسطيني أنَّنا نحن المصريين قادرون على النفاذ من ثغرة بين الدروع والتحصينات والأسوار
يحب الإسرائيليون هذه القصة عن ابنهم الفتى الشجاع الماهر، القادر بدهائه على الانتصار. ويحبون جانبها الآخر الممثل في الدم الكثير المهدر. فالدم هو مفتاح أمان شعب الله المُختار. يطوعونها عصريًا باعتبارهم داود الصغير المحاط بالكثيرين من جوليات، مجسدين في بلدان عربية كبيرة، لكنها لا تقدر عليهم هم أصحاب البلد الصغير.
يتحكم الراوي في تفاصيل حكايته، فلا ينبه المستمعين المنبهرين إلى أن داود العصري مدعوم دائمًا من القوى الأكبر عالميًا، وأن المساحة الجغرافية لا تكفي لحسابات القوة. والراوي كذلك يثبت الرواية زمنيًا عند النقطة التي تقتضيها مصلحته، فيتجاهل رمزية القصة معكوسة في حرب أكتوبر 1973، والعبور مرورًا فوق هذا الجوليات الهائل الممثل في خط بارليف. وسيتجاهل في المستقبل كيف أن السابع من أكتوبر الماضي يكرر هذه الدلالة المعكوسة لأسطورته، حين احتفلت المقاومة بالعبور المصري على طريقتها.
نتعلم من هذا الصمود الفلسطيني أنَّ بإمكاننا حكي القصة بالعكس، وأن دلالاتها متجددة، لنُصبح فيها، نحن المصريين، داود القادر على النفاذ من ثغرة بين كل هذه الدروع والتحصينات والأسوار.
نُدرك أنَّ كل الاحتمالات مفتوحة، مثلما نعرف صواب جملة قديمة مختصرة، أنَّ تحرير فلسطين يبدأ من تحرير القاهرة. وإن كان ناس غزة فعلوها؛ عبروا فوق الحواجز، فنحن أيضًا نستطيع. فيكون المتبقي ينايريًا في مرآة غزة، ليس فقط الأسى والحزن والخسائر الفردية والجماعية، بل أيضًا القدرة.