برخصة المشاع الإبداعي: Alisdare Hickson، فليكر
متظاهرة تدعو إلى تحرير فلسطين في لندن 11 نوفمبر 2023

الأفق الفلسطيني بين لحظتين| أن ننسف ما تعلمناه

منشور الثلاثاء 3 ديسمبر 2024

بين الحشد الواسع داخل قاعة البيت العربي في مدريد، ومن صفٍّ خلفي، طلب رجل كهل يرتدي ملابس متواضعة، الكلمة. عندما حصل عليها، قال بطريقته المتمهلة إنه سيذكر معلومة ويلقي سؤالًا. كانت المعلومةُ أنه يخوض في مدينته الصغيرة مع مجموعة عمال من زملائه السابقين وبعض جيرانه معاركَ قانونيةً ضد شركات ومصانع إسبانية تتعاون مع إسرائيل.

أما السؤال فلم يُلقِه؛ فحين انتهى، قاطعه منظم اللقاء بحجة أن هناك كثيرين يرغبون في الحديث وطرح الأسئلة. شعرت وقتها أن المشكلة الحقيقية التي منعتنا من سماع سؤاله هي غياب الصبر؛ فلسطين تحتاج للصبر ولمقاومة الملل، والتوقف عن طلب "برشامة" الإجابة المختصرة الشافية، وتحتاج أيضًا للمعارك الصغيرة في أي مدينة أو قرية حول العالم.

كان ذلك ضمن فقرة التعليقات والأسئلة على محاضرة إيلان بابيه التي تحدثت عنها في المقال السابق. وربما بسبب غياب هذا الصبر، والملل السريع ذاته، يدعو بابيه لإزالة آثار ما تعلمناه سابقًا. فأغلب ما تعلمناه بخصوص فلسطين وإسرائيل يعتمد جوهره على أساس فكري استعماري. وكأنه يدعونا لفتح عيوننا لنرى العالم من جديد بأعين غير ملوثة، وكأنها تراه للمرة الأولى.

صلابة الجدار المبني على الدم

أغلب ما تعلمناه بخصوص فلسطين وإسرائيل يعتمد جوهره على أساس فكري استعماري

تعتمد أطروحة بابيه بأننا نعيش الفصل الختامي والأخير من المشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية على مُعطىً يُضاف لما أوردتُه في المقال السابق، وهو أن المجتمع الإسرائيلي عشية السابع من أكتوبر كان منقسمًا بحدة بين المتشددين من اليهود اليمنيين المتطرفين من جانب، ومن يسمون أنفسهم بالعلمانيين، وأغلبهم من أصول أوروبية، من جانب آخر.

وحَّدت الحرب ولو مؤقتًا بين القطاعين على هدف أساسي؛ القضاء على ما تبقى من الشعب الفلسطيني. فمثلما تشير كل استطلاعات الرأي، يؤكد بابيه على أنه لا وجود داخل إسرائيل لقوى يهودية معارضة حقيقة لهذه الإبادة ولعملية التطهير العرقي التي يديرها نتنياهو. وإن وجد القليل، فأغلبها تُعارض كيفية إدارتها لا ضرورة تنفيذها. وأن دولة بهذه الطبيعة لا تستطيع الاستمرار.

لكن بابيه يخسر هنا أحد الشروخ التي رصدها سابقًا في الجدار الإسرائيلي؛ وهو انقسامه. فتوحُّد هذه الدولة والمجتمع الفاشيين لتحقيق هدف التطهير العرقي القديم لفلسطين الذي لم يتحقق بالكامل في 1948، وتصورهما أن اللحظة الحالية مواتية لتحقيقه، بالذات بعد فوز ترامب، ربما يرمم الجدار نفسه من الشروخ. إلا لو فشلت إسرائيل من جديد في تحقيق هذا الهدف بفضل صمود الفلسطينيين، أو بإجبارها على وقف الإبادة.

من ضمن أطروحات بابيه الأقدم أن كلَّ مؤسسات دولة إسرائيل بُنِيَت لتنفيذ هذا الهدف تحديدًا، ولا مهام أخرى لديها سوى تجريد الفلسطينيين من السمات الإنسانية وإظهارهم كوحوش لتسهيل إبادتهم. بل إنه يضيف أن مستوطنات غلاف غزة نفسها، التي يسوقها الإعلام بأنها مستوطنات مدنية تعرضت للعدوان في طوفان الأقصى، أُنشِئت وسُلِّح سكانها لتحقيق الهدف نفسه؛ تحقيق العزل العنصري تمهيدًا للتطهير العرقي.

يقول بابيه في محاضرته إن العالم لم يشهد مثل ما يحدث الآن في غزة، وإن اللحظة الحالية هي الأكثر ظلامًا بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية الدم والدمار، ومن ناحية سيادة منطق القوة. أي أنها البربرية التي قصدتها في المقال السابق، ما يذكرنا بما يظنه البائسون/المتفائلون في اللحظات الصعبة، بأنهم وصلوا لقاع البئر، وأن لا هاوية أبعد من هذه.

لكن الآبار المأساوية بلا قيعان لأنها لا نهائية. وبالتالي من الصعب افتراض أننا وصلنا للحد الأقصى من التوحش والبربرية؛ الحد الذي يسبق مباشرة مرحلة أن تأكل إسرائيل، دولة القوة، نفسها، أو تنفجر فيها حرب أهلية تدمرها داخليًا.

الدولة المنبوذة

ملامح إسرائيل كدولة احتلال عسكري فاشية لا علاقة لها بالديمقراطية بدأت تظهر واضحة أمام شعوب العالم

باستدعاء قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف نتنياهو وجالانت، نستطيع أن نتفق مع جانب من أطروحات بابيه، بأن ملامح إسرائيل كدولة احتلال عسكري فاشية الطابع لا علاقة لها بكذبة أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق، بدأت تظهر واضحة أمام شعوب العالم.

لكن إذا كان ذلك صحيحًا وإيجابيًا، ومفيدًا للنضال الفلسطيني والعربي، فإن ما ينقصه هو شرط بابيه نفسه الذي تحقق في حالة جنوب إفريقيا؛ أن تصل أوروبا والولايات المتحدة لقناعة أنهم لم يعودوا بحاجة لإسرائيل مثلما فعلوا مع دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فتركوها لتسقط.

لكن ما هي الشروط التي تجعل أوروبا على الأقل، تصل لهذه القناعة؟ تتجلى هنا المعضلة الأساسية التي بلا إجابة. فالضغط ضد إسرائيل أوروبيًّا، وصعود حركات المقاطعة والتضامن مع الشعب الفلسطيني، لن يؤدِّيا بالضرورة، أو ميكانيكيًا، لأن تكتشف أوروبا الرسمية أن إسرائيل بلا فائدة لها، أو أن عليها التخلي عنها، وتترك مشروعها الذي بَنَتْه كقاعدة استعمار أوروبي متقدمة في الشرق.

صعود اليمين المتطرف والفاشي في العالم كله، ونماذج ترامب وميلوني وميلاي، وغيرهم من الحكام، يضاف إليهم حكامنا بطبيعتهم المعادية لأي نوع من الحرية، لا يخلق الجو الدولي المواتي للتخلي عن إسرائيل، أو تركها تنهار كجدار مُؤسس على الدم والأشلاء أكلته الشروخ. فعلى سبيل المثال، دعت حكومة المجر، العضوة في الاتحاد الأوروبي، نتنياهو، لزيارتها بعد قرار المحكمة الدولية مباشرة، في إشارة تحدٍّ له. وبينما تُعلن بلدان أوروبية التزامها بالقرار، تُعلن أخرى أنه لا يلزمها، أو تتملص من إشهار موقف واضح منه.

انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حدث في ظل عالم كان مستعدًا ومُهيَّأً لهذا الانهيار. ناهيك عن أن أهمية إسرائيل للغرب تفوق بعشرات المرات ما مثَّله له نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا؛ فهنا يوجد بترولٌ وغازٌ ومصالحُ وقناةُ سويسٍ، وشعوب تطمح لحريتها في منطقةٍ محوريةٍ للعالم كله. وحريتنا تجلب المشاكل والاضطرابات للمصالح الغربية.

ربما تبدو الأطروحات السابقة متشائمة فيما يخص المستقبل الفلسطيني، أو أنها تُرجِّح أبدية دولة إسرائيل. المقصود ليس ذلك، بل مناقشة أطروحات مؤرخ جاد ومنحاز للحق الفلسطيني بصرامة، ومنطق التفاؤل التاريخي، لصالح التفاؤل الموضوعي الذي أرى أن تشبثنا به، نحن الداعمين للحق الفلسطيني الذين قد نجد أنفسنا يومًا في موقع الفاعلين من أجله ومن أجل حريتنا، أفضل وأكثر فاعلية.

على العالم أن ينسف الأسس التي تعلمها سابقًا بجوهرها الاستعماري ومن ضمنها وهم حل الدولتين

بدأت إسرائيل في التحول لنموذج الدولة المنبوذة. وهو شيء إيجابي بالإمكان البناء عليه لنساعد في أن تتحول لنموذج الدولة "المنبوذة وغير الفاعلة"، بسبب الإنهاك، أو الصراعات الداخلية والخارجية. فيكون وجودها في حد ذاته مضرًا لأوروبا والغرب، ومضرًا لمواطنيها أيضًا، وهو الأهم. وصعود اليمين المتطرف عالميًا ليس أبديًا، فهناك تصورات جادة ترى أن صعوده له سقف، يتراجع حين يصل إليه.

إذا كانت إسرائيل بدأت تكتسب ملامح الدولة المنبوذة، ولو قليلًا، فإن ما هو عملي، وعاجل، ولا بد من استمراره بعد وقف عملية الإبادة، هو استمرار شعور مواطنيها بأنهم منبوذون في صباح كل يوم جديد. ليس لأنهم يهود، بل لأنهم مواطنو هذه الدولة. أن يشعروا بالخوف لمجرد أنهم مواطنوها. والخوف هو العامل الحاسم الذي يدفع باتجاه الانقسامات الفاعلة والحقيقية داخل المجتمع الإسرائيلي، ويعمق شروخ الجدار حتى ينهار مثلما يتوقع إيلان بابيه.

لعب طوفان الأقصى دورًا أساسيًا باتجاه هذا الهدف. أن تصل رسالة للمواطنين والمواطنات الإسرائيليين، مسلحين أو غير مسلحين في هذا المجتمع العسكري، بأن هذه الدولة العسكرية لا تحقق لهم الأمان. يتعمق هذا الشعور مع كل يوم جديد من الشهور الثلاثة عشر الماضية، مع كل صاروخ أو عملية أو مسيرة أو مظاهرة احتجاج، بأنهم ليسوا في أمان رغم كل هذا الدم والدمار القياسي الذي تسببوا فيه. كي يدرك مواطنو هذه الدولة أنهم سيدفعون ثمن ما فعلته دولتهم بموافقتهم، وأنهم خلقوا رغبة مصرة لن تنتهي عند قطاعات واسعة من شعوبنا في الانتقام والحرية.

نسف ما تعلمناه

من الضروري أن نرى تحرر الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة ممكنًا ولكن كعملية مكتملة لا يمكن أن تتحقق في مكان دون آخر

العنف الإسرائيلي البالغ ضد المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وقتلهم لعشرات الآلاف منهم عن قصد؛ العنف الذي لم ير العالم مثله منذ الحرب العالمية مثلما يقول بابيه، بالإمكان تفسيره ليس فقط بأنه تنفيذ لمهمة التطهير العرقي مثلما يقول، بل أيضًا باليأس والرعب. تعبير عن وعي باقتراب النهاية، لتكون دوافعه محاولة تأخيرها لأطول فترة ممكنة عبر التدمير الشامل للآخر. وعي بما يرصدونه من رفض شعبي عالمي لهم، ومن عودة المحيط الشعبي العربي لرفضهم. هم يعلمون ذلك جيدًا، حتى ولو لم تخرج مظاهرة واحدة ضدهم في أغلب العواصم العربية. هم يعلمون جيدًا لماذا لا تخرج المظاهرات في بلادنا.

مجرد الرفض السلبي لدولة إسرائيل غير كافٍ. بل إن الضروري هو أن نرى تحرر الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة ممكنًا، ومرتبطًا ببعضه كعملية مكتملة لا يمكن أن تتحقق في مكان دون آخر. وأن نعمل على هذا الممكن، أفضل من أن نرهن تحررنا وتحرر الفلسطينيين بالحتمية التاريخية، التي ربما تتحقق وربما لا.

أن نتمسك بالملموس، حتى ولو كان شيئًا يبدو صغيرًا، مثل مقاطعة كيس شيبسي. فهذه الأشياء الصغيرة لم يتجاهلها بابيه في محاضرته، ولو كانت مجرد مباراة كرة قدم يشارك فيها فريق إسرائيلي، فيخرج ضدها مئات المتضامنين مع الحق الفلسطيني، أو لافتات المقاطعة لمغنية تمثل إسرائيل في مهرجان يوروفيجين.

يدعو إيلان بابيه لعملية أعتقد أنها أهم ما يمكن أن يفعله الآن كل من لا يحمل سلاحًا في مقاومة، يسميها نسف ما تعلمنا/unlearn. فإن تحولت فلسطين لقضية عالمية لا تخص شعبها فقط، فعلى العالم أن يغيّر مفاهيمه وأسسه قبل أن يتعلم الجديد. أن ننسف الأسس التي تعلمناها سابقًا، وجوهرها التلقيني الاستعماري، ومن ضمنها وهم حل الدولتين.

المعادلات ليست مغلقة أو حتمية. فانتصار طرف عبر التدمير الشامل، والإضرار بالمقاومة، لا يعني ميكانيكيًا، أو تلقائيًا، الهزيمة الحاسمة للطرف الثاني. فمثلما لا يوجد انتصار مطلق، لا توجد هزيمة مطلقة. لكن انتصارنا ليس مرهونًا فقط بأخطاء إسرائيل، أو أخطاء حلفائها، أو الشعور العالمي برفضها، بل أيضًا بما نفعله نحن. بالخطوات التي سنتخذها، وبالذات الفلسطينيون، في اليوم التالي لتوقف الإبادة، بل قبل توقفها ومن أجل توقفها، غدًا صباحًا، من أجل الحل العملي والوحيد؛ دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية من النهر للبحر. وهو ما أتناوله في المقال المقبل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.