يمارس عقلي أحيانًا لعبةَ تخيُّلٍ غير واعية، لا أنتبه لها إلا وهي تحدث؛ أتخيَّل كيف يمارس أشخاصٌ محددون طقوسًا يوميةً ثابتةً أمارسها. ربما يكونون أحبابًا، أو غير أحباب؛ أصدقاءً، أو كُتَّابًا أقرأ أعمالهم، أو شخصيات سياسية وعامة تشغلني مرحليًا لسبب أو لآخر.
خلال العام الأخير، ومنذ السابع من أكتوبر، تبدأ طقوسي الصباحية بالبحث عن أخبار غزة وكل ما يرتبط بالمعركة الحالية، لأعرف ما حدث في الليل منذ آخر لحظة طالعت فيها الأخبار قبل النوم. عليَّ أن أعترف بأنني تخيلت عدة مرات كيف يمارس رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي هذا الطقس الصباحي؛ معرفة أخبار غزة وتطورات المنطقة التي يحكم أكبر بلد فيها. أكبر بلد سكانيًا فقط.
لا تنحصر خيالاتي في الرئيس المصري كشخص، بل كنموذج للحكام العرب الحاليين. لكن خيالي ليس بريئًا أو ساذجًا، لأتخيل مثلًا جلوسه صباحًا على مكتب، يتناول قهوته مثلي، ويطالع مواقع صحفية بعينها يثق فيها. بل أراه مسترخيًا على كرسي أو فوتيه مريح، بينما يعرض مساعدوه عليه، شفويًا، المستجدات.
ولأن خيالي مرتبط بالواقع بدرجة كبيرة، فلا أتصور أن هناك حاكمًا عربيًا سيتأثر شعوريًا، مثلي ومثلكم، بالأخبار المحملة بالدم والمآسي والدمار. لا أتصورهم يسألون أنفسهم مثلنا، بعد مطالعة الأخبار "ما العمل؟!"، "ماذا بعد؟!"، "كيف نُوقف هذه الإبادة الكارثية؟!". لا أتخيل أن يتحدث الرئيس، مثلنا، مع أصدقائه وعائلته، عن معنى كل ما يحدث، أو إلى أين يقود منطقتنا. لن يسأل نفسه كذلك أيًا من الأسئلة الأخلاقية الكثيرة التي يفرضها المشهد العام. فالسياسة كما تعلمها حكامنا، وكما يمارسونها، لا أخلاق فيها. نحن فقط، المحكومين، من نَطرح هذه الأسئلة الأخلاقية.
الانفعال والتأثر، والرهافة تجاه مآسي الآخرين، ومحاولة تمثُّل آلامهم، سمات لا تتوافر عادة في الحكام، وبالذات من النوعية الموجودة في منطقتنا مِمَّن لم نختَرهم، وليسوا نتاج شرعية شعبية ما تَفرض عليهم الارتباط بالناس، بالجموع، بل يحكموننا بصدفة إرث عائلي، أو نجاح انقلاب، أو نتيجة توازنات القوى بين عصابات ودوائر النفوذ المالي في الطبقات العليا.
لذلك، أنزعج كثيرًا من تأسف البعض على السوشيال ميديا من غياب الدول والجيوش العربية، وأحيانًا الشعوب، عمَّا يحدث في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والعراق. في مقابل هذا الانزعاج، يطرح خيالي الواقعي سؤالًا آخر، واقعيًا بدوره؛ "من أين تأتي ثقة حكامنا بأن ما يحدث، والذي أتمَّ بالأمس عامًا كاملًا، لن يتحول مستقبلًا لزلازل يهدد أنظمتهم تهديدات حقيقية، قادرة على الإطاحة بها؟!".
لنترك هذا السؤال مؤقتًا، ونتذكر بعض المشاهد العابرة من الأسابيع القليلة الماضية.
مشهد 1
مهرجانات وعروض لأزياء الكلاب، واحد في العلمين المصرية، وآخر في الرياض السعودية.
مشهد 2
تستعد العائلات في كل أنحاء العالم لعودة أطفالهم للمدارس، بأحذية وملابس وحقائب وكتب ودفاتر جديدة. صحيح أن العائلات المصرية الفقيرة تعرف أن ما تمنحه لأطفالها، من مستلزمات مستعملة، لا يُقارن بما تمنحه عائلات الكومباوندات على بعد عدة كيلومترات لأطفالها. لكنهم، هذه المرة، يعلمون أن كل أطفال غزة جديدهم الوحيد هذا العام هو المزيد من الدم. في غزة لم تعد هناك مدارس. مجرد خيام يتلقى فيها من لم يُقتل من أطفال غزة دروسًا مرتجلةً بين القصف والآخر.
وفق وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، اسْتُشهد بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومنتصف شهر سبتمبر/أيلول 2024، 11 ألفًا و600 طالب مسجل. بخلاف الأطفال غير المسجلين، ومن هم دون سن الدراسة.
مشهد 3
طفلة لا أعرف اسمها. أدركتُ بينما أشاهدها في مقطع فيديو صوَّرَه أبوها أن حذاء التزحلق البمبي الذي ترتديه اشتروه لها قبل بدء الإبادة مباشرة. لم تستخدمه. قبل أسابيع قليلة، ألحَّت على أبيها أن يسمح لها بالبدء في تعلم السير به فوق قطعة أسفلت لم تُقصف. بينما تتعثر في خطواتها الأولى بحذاء التزحلق، قُصفت.
مشهد 4
جالسًا على مكتبي، أبحث عن أرقام الضحايا المدنيين في أوكرانيا، وكم طفلًا من بينهم. أبحث عمَّا يثير غضب العالم الأول، "المتحضر"، ويبرر تضامنه وتسليحه المستمر للحكم الأوكراني. ولأعقد مقارنة لا نفع منها.
خلال العام الأول من الحرب، قُتل 461 طفلًا أوكرانيًا.
مشهد 5
سائق شاحنة أردني خبَّأ مسدسًا في شاحنته، ذهب إلى الجسر، عبره، قَتل ثلاثة إسرائيليين، واسْتُشهد.
مشهد 6
قَتل الجيش الإسرائيلي بضعة مقاومين في مخيم جنين بالضفة الغربية. حملوا جثثهم إلى سطح أحد البيوت، وأمام كاميرات ترصدهم من بعيد، وعلى الأغلب كانوا واعين بوجودها، ألقوا بالجثث من فوق المبنى لمزيد من التنكيل. ولتصلنا جميعًا الرسالة التالية: سيشاهد العالم ما نفعله. ولن يفعل شيئًا. فأنتم لا ثمن لكم.
مشهد 7
في يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي، قتلت الصواريخ الإسرائيلية في مخيم النصيرات 14 شخصًا من عائلة واحدة، أغلب الباقين من عائلة الشهيد الطفل محمد الدرة، الذي قُتل على الهواء مباشرةً، محتميًا بجسد أبيه خلال الانتفاضة الثانية عام 2000، بينما نسمع صوت صراخ أحدهم "مات الولد.. مات الولد".
مشهد 8
رحلة سياحية مرحة تنظمها شركة إسرائيلية على متن قارب كبير، حيث تستمتع عائلات مستوطنين بأطفالهم، ليلًا، في بحر غزة، بمشاهدة القصف من البحر. يتسلون بمشاهدة أضواء اشتعال البيوت والخيام والأجساد، بدلًا من مشاهدة الألعاب النارية. الأطفال والعائلات مبتهجون بما يرونه، يبتسمون للكاميرات التي تصورهم، لتنشر الفيديوهات الترويجية لهذه السياحة الجديدة.
هل تمنيت مسبقًا أن يغرق قارب به أطفال؟! أو أن يصيبه صاروخ ويفجره؟!
الرغبة في الانتقام
بالعودة للسؤال الذي تركناه مؤقتًا، في يوم 13 فبراير/شباط 1991، قصف الأمريكيون ملجأ العامرية في بغداد، وقتلوا بداخله أكثر من 400 مدني عراقي أغلبهم من النساء والأطفال. تصورنا وقتها أننا لم نعش من قبل، ولن نعيش مجددًا، مجزرةً شبيهةً. خرجت مظاهرات في كثير من المدن العربية، اشتعلت الجامعات، ألَّف الموسيقيُّ نصير شمة مقطوعة انتشرت بين الملايين. صنع أحدهم فيلمًا عن الملجأ، وبُنيت نُصب تذكارية للمجزرة. ولا نزال نتذكرها.
سؤال أين الشعوب العربية إجابته معروفة وبسيطة؛ مقموعة وتعيش في نفق من الرعب، بعد أن ذاقت منذ 2011 درجة غير مسبوقة من البطش والتنكيل والدموية. لكن، إن خربش أحدهم قليلًا فوق هذه القشرة التي يسمونها "لا مبالاة" تجاه ما يحدث في فلسطين ولبنان، سيكتشف أنها وهم. سيجد طاقة هائلة من الحقد والغضب الداخلي، تمتد حتى للقطاعات المجتمعية الرافضة لحماس وحزب الله. فضمائرهم، ووعيهم الفطري، لا يجعلهم يقبلون بالإبادة، والبلطجة الإسرائيلية، والتواطؤ الرسمي معها.
تحت سطح ثقيل من الرعب، هناك الغضب، والحقد، والرغبة في الانفجار. فكيف لا يُدرك حكامنا أن هذه الإبادة ستسكن للأبد في مخزون الوعي الجمعي، الغاضب ليس فقط من الصمت الدولي، بل منهم هم أيضًا؟! نعلم جميعًا أن بعض دول المنطقة كان بإمكانها أن تفعل الكثير، لو كانت دولًا ذات سيادة حقيقة. وأن أبسط الأفعال، مثل تجميد اتفاقيات السلام مع دولة الاحتلال، قادر على تحريك العالم للضغط على إسرائيل، ووقف الإبادة.
لم يفعلوا، لأنهم لا يعرفون مصالحهم الحقيقية على المدى الأبعد من مجرد إرضاء الأمريكيين والتحالف الخليجي/الإسرائيلي، والقبول بدور التابع.
المواطن المصري، على سبيل المثال، الفقير، أو المنتمي للشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى، لن يستطيع مستقبلًا سوى أن يربط حياته اليومية، التي تكاد تكون مستحيلة، بإبادة الشعب الفلسطيني. وعيه الآني يخبره بأنَّ دَمَنا بلا ثمن، وأننا شعوب من الدرجة الثانية في نظر العالم وفي نظر حكامنا، بالإمكان تجويعها وإبادتها. فلا بد أن ينفجر في وقت ما. وساعتها، سيفتح كل الملفات ويصفّي الحسابات العالقة، محدثًا زلزالًا أستغرب أن مساعدي الرئيس المصري، أو الملك الأردني، أو غيرهما، لا ينبهونهم لخطره.
يتصور حكامنا، ومن قبل السابع من أكتوبر، أن هزيمة المقاومة في لبنان وفلسطين، وإبادة أكبر قدر من الفلسطينيين، تتوافق مع مصالحهم المستقبلية في أن يصبح الشرق هادئًا، مقسمًا بين قطاعين؛ حكام وأغنياء على جانب، يُخضعون الفقراء والفلسطينيين على الجانب الآخر. بالتالي، على هذا الجانب الآخر أن يُهزم.
السذج هم من يتصورون أن بالإمكان تجريد الفلسطينيين، وكل فقراء شرقنا، من أسلحتهم المتمثلة في طاقة الغضب والحقد والرغبة في الانتقام. وأن يَقبلوا بالهزيمة، ويلزموا الهدوء والسكينة. فمع استمرار القهر والتجويع والدم، وتعاظم الرغبة في تغيير حياتنا البائسة، سنتحول لملايين القنابل الموقوتة في معارك مقبلة، حتى نهزمهم.
والـ"هم" لا تعود على إسرائيل وحدها، بل تضم معها حلفاءها وتابعيها وأصدقاءها في المنطقة.