صباح الجمعة الماضي، كنتُ في الطريق من مدينة نصر إلى قلب القاهرة. توقيت أحبُّ المدينة فيه بسبب الهدوء وانخفاض منسوب العوادم الذي يُقرِّب صورتها من أزمنتها الهنيَّة. هل حقًا رأيت فيها زمنًا هنيًّا؟! لعله الحنين إلى الزمن المفقود فحسب هو ما يجعل تلك الساعة مناسبة لخروجاتي القليلة.
وإذن؛ فأمام نفق الأزهر من صلاح سالم، وضعني سائق الأجرة بين خيارين: تحب النفق ولا شارع الأزهر؟ أمام السؤال، نسيت للحظة أنفاق غزة والرصاص المسكوب فوقها. تركَّز تفكيري الأحادي في دخان النفق وعتمته، مقابل إغراء رؤية الحي العريق وهواء الصباح. قلت: شارع الأزهر.
نسيت أنَّ هذه الجمعة ليست من جُمع السلام، بمجرد الانعطاف يمينًا رأيت طلائع القوات في الدرَّاسة. تشكيلات من البدلات السوداء والعصيِّ السوداء بلا شائبة من بياض تُعكِّر صفاء اللون الموحد. مع الانعطافة الثانية من بداية شارع الأزهر من جهة الدرَّاسة بدأت اللوحة تتلون. إلى جانب طوابير الأسود، ظهر الميكروباص الأبيض وبداخله شباب مدنيون بملابس عادية، ملونة بالطبع. مئات الميكروباصات متراصة ظهرها للجدار الطويل الذي يضم مستشفى الحسين الجامعي والكلية والجامع الأزهر. الركاب الملونون يبدون طيبين في سكونهم، منظرهم أدعى لإثارة الشفقة.
هل تلقى السود والملونون إفطارهم؟
هذا الزحام جعل الجمعة يخالف عاداته. وتمدَّد وقت الرحلة فصار كافيًا لأطرح على نفسي تساؤلات. أولها بشأن الميكروباص، الذي كتبت عنه مرارًا بوصفه علامة على العشوائية والقبح وانسحاب الدولة من خدمة النقل، وهي وظيفة تتمسك بها الدول الرأسمالية بوصفها أحد مظاهر وجود السلطة في حياة الناس.
نسيت في تحليلاتي السابقة التوقف أمام الميكروباص كقفاز ترتدية السلطة في أوقات كهذه. الميكروباص بحمولته من البشر الملونين غير محسوب على السلطة، وخدماته محض "نقوط" يدفعونه حين يُطلب، مقابل استمتاعهم بكل أشكال التشبيح لحسابهم الخاص بقية الوقت.
التفكير بشأن الرجال السود والملونين ذكَّرني بأسئلة طرحتها على نفسي ليلة معركة الجمل، بينما كنت وابني محاصرين في ميدان التحرير. وللأمانة أسئلتي في يوم وليلة الثلاثاء الثاني من فبراير/شباط 2011 تجاه الملونين تختلف، ولم أحمل نحوهم ذرة من التعاطف الذي شعرت به صباح الجمعة الماضي.
في ليلة الجمل، كان الصراع مسألة حياة أو موت، استمرَّ طوال ليل القاهرة الطويل جدًا فيما ميدان التحرير بمثابة صحراء مقطوعة عن العالم.. هذا لا يقارن بنهارات غزة ولياليها المضاءة بفسفور أبيض، لكنه كان ليلًا قاسيًا وطويلًا جدًا، وكانت فكرتي الأساسية المشحونة بالغضب: نحن هنا لنتحرر ويتحرر معنا هؤلاء الفقراء لكنهم جاءوا ليقتلونا.
في صباح الجمعة الماضي، لم تنشب بيني وكتائب الميكروباص حرب وجود، ولم أحمل ضغينة ضدهم. كنت مجرد عابر أشاهد انتظارهم المضني في سبيل إيقاع الأذى بآخرين لا يعرفونهم ولا يجمعهم بهم نزاع. هكذا حاصرتني الأسئلة حول حياتهم: لماذا أصبحوا هكذا؟ بعضهم كان يمكن أن يرتدي بالطو طبيب، بعضهم يصلح مهندسًا في موقع بناء، وبعضهم كان بوسعه أن يكتب كتبًا من نوع البيست سيلر، أو أشعارًا يدسها لفتاة في كراس المدرسة.
وبعيدًا عن هذا التفصيل حول الحق في التعليم والحياة الكريمة، كان هناك سؤال أبسط: هل تلقى السود والملونون إفطارًا جيدًا هذا الصباح؟ هل سيتلقون وجبة غداء مميزة كمكافأة بعد إنجاز المهمة؟ كم منهم يريد أن يرى الجامع الأزهر من الداخل وينتظم في صفوف الصلاة ويدعو من القلب لأمه المريضة؟ لا بد أنَّ بعضهم يريد ذلك، وهو يرى المصلين يمرقون إلى باب الجامع من الفتحة الصغيرة كسمِّ الخياط بين التشكيلات!
جنون المدمن على طاولة اللعب
وصلت سيارة الأجرة أخيرًا إلى مطلع كوبري الأزهر، ورغم تعطل عربة نقل جنود ضخمة كانت السيولة فوق الكوبري أفضل، واستطاع التاكسي العبور فوق التشكيلات بميدان العتبة. وبعد ذلك سارت الأمور سيرًا حسنًا ووصلت متأخرًا إلى المقهى، وكان الأصدقاء القادمون من جهات أخرى متأخرين كذلك للأسباب نفسها، فأعفانا ذلك التوافق من ثقل الاعتذار أحدنا للاخر. لكنَّ الهروب من الاعتذار لا يعني الهروب من الخزي.
اعتدت النظر بتحفظ إلى طريقة تقسيم البشر إلى جناة وضحايا؛ ففي كل قصة هناك تقصير ارتكبه الضحايا بحق أنفسهم ساهم في جعلهم ضحايا، لكنهم لا يعترفون بذلك. هناك فرص ضيعوها، وكان القفص يضيق عليهم يومًا بعد يوم ولم يهتموا.
الآن، لم يعد أمام الضحايا سوى الاعتصام بالوحدة وتجرع الإهانة في صمت. علمًا بأن لقاء ثلاثة على مقهى يحملون العبء نفسه، هو مضاعفة للوحدة وإكثارها وليس نفيًا لها. بدلًا من جرح العجز الفردي انفتحت ثلاثة جراح، حتى أننا نسينا أن نشرب شيئًا، وفي ذهن كل منا كيف سيكون الأمر عقب الصلاة؟
ولكنَّ شيئًا مهمًا لم يحدث. الرجال السود والملونون فاقوا المؤمنين عددًا، فتحقق الردع، ولا بد أنَّ الله رأى ذلك حسنًا. السلطة ليست بحاجة إلى "لقطة التظاهر" اليوم. أُخذت اللقطة يوم الجمعة السابق وانتهى الأمر. وعلى كلِّ من يشعر بالأسى، بالإهانة، بالعجز، أن يلعق جراحة بالكيفية التي يريدها، رغم أن التظاهر في هذه الأيام هو أدنى الحقوق والواجبات، لا لأن الفلسطينيين أشقاء لنا، ولا لأن الأيديولوجية الصهيونية التي يتصدى لها الفلسطينيون تضع دلتا النيل في مخططاتها، بل لأننا بشر. مجرد هذه الرابطة وحدها مع الفلسطينيين كافية لإغضابنا، وللبحث عن وسيلة تعبير عن هذا الغضب. ليس هناك أقل من ذلك.
كل المظاهرات التي لم نخرج فيها تتحول إلى أسئلة عن حقيقتنا كأفراد وشعب وأمة
الذين يسيرون في مظاهرة في سيدني أو لندن أو باريس يعرفون أنهم لن يُجبِروا قوى العدوان على التوقف عن القصف، ولن يَصلوا إلى فلسطين في نهاية مسيرتهم. لكنهم يتحررون ويتطهرون هم أنفسهم من خلال السير والركض في مظاهرة. المشي بحد ذاته حرية. الجسم المنساب بين الجموع يحتفل بانتمائه إلى إنسانية تعرف طريق العدل، وبأنه تمرد على ذل وضعية الجلوس فانتصبت قامته وركض كإنسان. لكنَّ المصريين لم ينالوا هذه الترضية البسيطة لضمائرهم.
ظهر يوم الجمعة ناب السود والملونين عن كل المصريين الراغبين في السير بمظاهرة، ركضوا كالمتظاهرين وتمركزوا ثم ركضوا مجددًا وتمركزوا، ثم ركضوا، وعادوا إلى عرباتهم وفي مخالبهم العدد القليل ممن تجرأوا على الهتاف خارج باب المسجد.
في مساء اليوم نفسه اشتعلت صحراء غزة كما لم يحدث من قبل. كان يومًا من الأيام القياسية في الوحشية الإسرائيلية، التي توقف العالم عن عدِّ جرائمها لكثرتها. لكن في صبيحة السبت خرجت مظاهرة جديدة في لندن سارت فيها أعداد قياسية. وتظاهر يهود نيويورك مجددًا من أجل الفلسطينيين، وهتفوا مجددًا "ليس باسمنا". وارتفعت أعلام فلسطين أكثر وأكثر.
الذين تظاهروا نالوا شيئًا من راحة الضمير، والمحرومون من التظاهر صارت ضمائرهم مخازن للغضب. كل المظاهرات التي لم نخرج فيها تتحول إلى أسئلة عن حقيقتنا كأفراد وشعب وأمة، عن ضرورات تكديس سلاح لا يتحدث إلا عندما يكون في غير مكانه!
على أي حال، منذ السابع من أكتوبر لن يعود شيء إلى مكانه. هجوم حماس الكاسح، وإصرار الصهاينة على النصر الساحق الكامل أعاد تصفير العدَّاد. كأن آلة الزمن الخيالية عادت بالبشرية إلى عام 1948، أو ما قبله. القوى الاستعمارية الداعمة للاستيطان الصهيوني هي نفسها التي تقف اليوم، مُشارِكةً في الحرب على غزة التي أسماها الصديق الدكتور مأمون فندي "عدوان سداسي على غزة" في بوست على X معددًا المعتدين: بريطانيا، وأمريكا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وإسرائيل.
السلاح الإسرائيلي الأمريكي بالغ التطور، والإمدادات متوفرة بجنون. والفارق بينه وتسليح المقاومة الفلسطينية اليوم أضعاف الفارق بين تسليح المستوطنين الأوائل والفلاحين الفلسطينيين. السلاح الوحيد المتكافئ بين الطرفين هو الكاميرا.
قبل زرع هذا الكيان بالنار لم تكن هناك كاميرا تصور مراهنات المستوطنين على جنس الجنين ثم شق بطن الحامل الفلسطينية لمعرفة الفائز، ورغم أنَّ شهود العيان رووا الوقائع، وأكدَّها المؤرخون الإسرائيليون الجدد، إلا أن الرواية الفلسطينية ظلت رواية محدودة الانتشار؛ محدودة الأثر على الضمير الإنساني الذي أغرقه الإعلام الغربي في الأكاذيب. وهذا ما لن يبقى في مكانه. وهذا يعرفه الصهاينة، وهو مصدر جنونهم الذي يجعلهم يضاعفون جرائم الحرب التي تعود فتُكسِب الفلسطينيين أرضًا جديدة في الوعي العالمي، هو جنون المدمن أمام طاولة اللعب.
عاد العداد إلى الصفر
صورة الإسرائيلي عند نفسه لن تبقى في مكانها. باستثناء المهووسين بالأساطير الدينية هناك قطاعات من المجتمع الإسرائيلي ستبدأ الشك في عدالة قضيتهم. المؤرخون الجدد وبعض المثقفين لم ينتظروا المواجهة الأخيرة ليكفروا بالمشروع ويقوموا بهجرتهم المعاكسة. هذه المواجهة ستجعل قطاعات أوسع من الإسرائيليين تشك في صلابة المشروع ومستقبله، وتتساءل إن كان على هذه الأرض الفلسطينية ما يستحق الحياة في هذا الخطر.
عالميًّا، لا يمكن أن يكون التعويل على إنسانية البشر رهانًا خاسرًا. بمجرد الفهم يدافع الأحرار عن الحق. والكاميرا تقوم بالتوثيق، وبدأ صراع القصص يميل إلى الجانب الفلسطيني. وكل ما ترسخ من صورة إسرائيل بوصفها "دولة" يهتز الآن. الدماء الطازجة المسفوكة بوحشية وضعت كل الأكاذيب تحت الفحص مجددًا، واسم فلسطين صارت له ملايين الأعلام في شوارع العالم، وكأن الاستثمارات الضخمة لطمسه عبر أكثر من سبعة عقود راحت هباءً.
في العالم العربي، عاد العدَّاد إلى الصفر كما كان عام 1948. عالم عالق في كابوس، يحاول التحرك، لكن قدميه تخذلانه. أخطر ما في الكوابيس هي الرغبة المستحيلة في الركض. ولا حلَّ إلا بالاستيقاظ.
عدَّاد مصر بالذات، لم تتسبب المواجهة في تصفيره بل جعلته ينقلب ويستدير في اتجاه مخالف، ولا يمكن لشيء أن يبقى في مكانه. نعرف أن الأسطورة الأساسية المؤسسة لحركة يوليو هي الغضب الذي تصاعد بصدور الضباط من خيانة المدنيين؛ الملك وحاشيته والأحزاب وصراعاتها. الأسلحة الفاسدة التي وجدها الضباط بأيديهم وأدت إلى هزيمتهم وحصارهم في فلسطين كانت العامل الحاسم. عاد عبد الناصر غاضبًا من حصاره في الفالوجا، فقاد الانقلاب الذي أطاح بالحياة المدنية وفسادها.
اليوم، المدنيون الفاسدون ليسوا في المشهد. ممنوعون حتى من مجاراة غضبهم مسافة كيلو متر أو كيلو مترين في شارع.