شهدت خشبات المسرح ملوكًا للارتجال، يعرفون كيف يحولون الدفة ويسرقون المشهد بنكتة أو "إفيه" خارج النص. في غفلة من الممثل المنافس المنتشي بضحكات الجمهور، تأتيه نكتة المرتجِل من حيث لا يحتسب فتطيح به أرضًا وتعصف بأدائه وبالنص الذي كان ممتعًا، حتى لحظة الارتجال الموفقة.
مات المسرح الكوميدي، ولكن علينا ألَّا نأسف فعروضه انتقلت للواقع. استطاع السيد البدوي، الرئيس السابق لحزب الوفد، وغير المرشح، أن يخطف المشهد من رئيس الحزب الحالي والمرشح الرئاسي بارتجال موفق في برنامج تليفزيوني، عندما قال إن يمامة كان واثقًا من فوزه وأحس بالصدمة من نتائج الانتخابات!
لا تسمح لحظة الارتجال الموفقة والخاطفة بالمساءلة: كيف عرف السيد البدوي أن يمامة كان واثقًا من الفوز؟ ما مظاهر صدمته؟ ولماذا لم يرد يمامة إن كان ما قاله عنه البدوي غير صحيح؟
الذي حدث أن لحظة الارتجال المباركة تمت، واستطاع البدوي غير المرشح، ربما بالسر الباتع للسيد البدوي الأصلي، أن يأكل المشهد من مرشح حزبه برغم ما تشهد به فيديوهاته من كفاءة. بل لقد أكل البدوي كوميديا المرشحين الآخرين وكلاهما كان آملًا في الفوز، وأتى على كل ما تضمنته استوديوهات التحليل في ليالي العرس الديمقراطي التي انشغلت بـ"قراءة الخريطة الانتخابية وحظوظ المرشحين في الفوز"! أكل البدوي المشهد حتى من احتفالات الشوارع الصاخبة.
ما دون الحرب
على أيِّ حال، تم العرس على أحسن ما يكون، على الرغم من المأتم على الحدود، ونحن قوم نعرف الأصول العريقة للتضامن مع الجيران والأقارب في أحزانهم، ولكن كان من حقنا أن نفرح، لأن هذا العرس الديمقراطي لا يتكرر إلا كل ست سنوات.
في مثل هذه الظروف الاضطرارية للفرح، كان أهلنا الذين يقيمون أعراسهم في وقت الحزن يخرجون من الإحراج بالقول المأثور "الفرح فرحنا والحزن حزننا"، فلا يحقُّ لأحدٍ لومنا. لا يلومنا أحد إذن على العرس الديمقراطي، ثم إننا نحن أنفسنا نعاني من أحزان سعر السكر والبصل والثوم، التي قد يكون اشتعالها غضبًا من الله، في دولة خُلِّدَ ثومها وبصلها في القرآن الكريم.
لنثق في قدرة الله على إحقاق الحق بشأن الأسعار ولو بعد حين، لكنَّ التحديات التي تأتينا من شمال الشرق ومن الجنوب تستدعي التفكير. وما بعد الرقص إلا العمل، وما بعد الكوميديا إلا الدراما.
ربما الحزن هو الذي جعل مرور الاستحقاق الديمقراطي بهذه السلاسة ممكنًا، فأبصار الأغلبية المؤثرة معلقة بغزة في الشمال الشرقي، لا لأنها قضية مصرية أو قضية قومية فحسب، بل لأنها قضية إنسانية بالأساس.
قَتلُ الأطفال شأن يهمُّ كل إنسان، لأنه ماسٌّ بكرامته الشخصية وبفطرة تمييز الخير من الشر. من هنا كانت مظاهرات العالم المناصرة للفلسطينيين، ومن هنا أحس كلُّ إنسان لم تمت بداخله جذوة الكرامة الإنسانية بأنَّ العنفَ الإجرامي الذي يحول الأطفال إلى أشلاء عنفٌ موجهٌ إليه شخصيًّا، وعليه أن يُعبَّر عن غضبه بقدر ما يستطيع.
لكنَّ القضية الوطنية المصرية في الصراع الدائر على الحدود ليست بسيطة كذلك. وهذه المباركة الغربية لحرب الإبادة تجعل مستقبل سيناء رهن القدر ورهن صمود المقاومة الفلسطينية، بينما نملك بأيدينا الكثير الذي يمكن فعله من دون أن نتورط في الحرب.
الموتورون الذين يصرخون "تريدون توريط مصر في الحرب" يعرفون، وكارثة إن كانوا لا يعرفون، أنَّ هناك مساحات واسعة للفعل تسبق الحرب، ويعلمون، وكارثة إن لم يعلموا، أنَّ الكيان الصهيوني لا يمكن أن يغامر بحرب مع مصر، وكارثة أكبر ألَّا يلاحظوا أنه يحاذر من الحرب مع حزب الله.
هناك مستويات أقل من الحرب في الرد على ما يجري. أضعف الإيمان تغيير الخطاب الذي تبنته مصر قبل وأثناء العرس الديمقراطي: تسمية الإبادة الجماعية والتهجير القسري باسميهما، وإشهاد العالم والضامن الأمريكي لاتفاقية السلام أنَّ إسرائيل تقوض بنفسها الاتفاقية. هذا الخطاب بحد ذاته قادر على الردع، وهو بالطبع أقل من أن نهدد بإلغاء الاتفاقية من جانبنا، وهو في الحقيقة حقنا، لأسباب متعددة من التهجير القسري والحديث عن سيناء كبديل وتحركات الجيش الإسرائيلي على الحدود.
والحقيقة التي تستدعي الانتباه والتفكير فيها بصوت عالٍ، أنَّ التحدي الذي نواجهه لا تفرضه الغطرسة الإسرائيلية وحدها، بل يفرضه صمود المقاومة الفلسطينية المحرج للجيوش والدول، ومثلما للعدوان تبعاته فللصمود الحمساوي تبعاته أيضًا، ويجب أن تؤخذ في الحسبان من أجل بقاء الدول متماسكة.
هل انتهى زمن المناورة؟
ومثل تحدي الحرب في الشمال، أطبق التحدي الإثيوبي بإعلان المفاوض المصري يأسه. التحدي الجنوبي ليس بقدم التحدي الشمالي الذي بدأ منذ وصول عصابات المستوطنين الصهاينة في بداية القرن الماضي، لكنه موجود من قبل وضع حجر أساس سد النهضة. ومستمر على مدى السنوات الماضية. وكان هناك دائمًا ما يجب أن نفعله ولم نفعله. كان هذا السد بحد ذاته سببًا موجبًا لمراجعة كل تحالفاتنا ومجمل الأداء المصري في الإقليم.
في الملفين لا يمكن المواجهة في الخارج دون وقف فوري لهدر الطاقات في الداخل
هناك هدر مؤكد للقدرات المصرية في هذا الملف، أوصلنا إلى هذه اللحظة الحاسمة لدفن المفاوضات وتجرع المفاوض المصري إهانة التعنت الإثيوبي. وثقل هذه اللحظة يستدعي عملًا جادًا مباشرًا في الداخل.
العمل المباشر الذي يجب أن يبدأ فورًا، هو تعظيم قدراتنا المائية الحالية، من خلال إجراءات حقيقية ترتكز على قواعد للعدالة المائية وترتيب الأولويات بين الزراعة والمنتجعات العمرانية، بل وتحديدُ أولَى المحاصيل بالمياه، والاستفادة بشكل أكبر من أمطار الساحل الشمالي وسيناء، وتصنيع أدوات التحول إلى الزراعة بالأساليب الحديثة، وتقييم نتائج زراعة الصحراء واستخدام أحدث طرقها، وتحديد السبل المناسبة لتقليل الفاقد من المياه واتخاذ الأساليب المناسبة لهذا الغرض في الصحراء وفي الأرض السوداء، بعيدًا عن مغامرة تبطين الترع التي ظهرت فجأة دون نقاش.
وبالتوازي مع هذا كله، هناك عمل عاجر آخر ينتظرنا، إذ علينا أن نطرح على أنفسنا سؤالاً مهمًا، عمَّا إذا كان زمن المناورة الدبلوماسية الأقل من الحرب انتهى.
ربما لم يزل لدينا هامش للحركة، لكنَّ استكشاف هذا الهامش يحتاج إلى تحول جذري للأداء في هذا الملف الخطير. نحتاج إلى وقف الكوميديا مؤقتًا، وإعادة تثمين للأوراق التي بأيدينا، ومعرفة مكانة مصر. ولا يمكن لكل هذا أن يتحقق دون الشفافية وفتح مجال النقاش العام والاستفادة من كل الخبرات، ليس في قضية المياه وحدها، بل في كل المجالات لإعادة بناء قوة الدولة.
في الملفين، لا يمكن المواجهة في الخارج دون وقف فوري لهدر الطاقات في الداخل، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون تحول سياسي نضع بعده كل ما حدث منذ 25 يناير وراء ظهورنا. ويكفي هذا القدر من كوميديا تستيف الأوراق، واستوديوهات تحليل ما لا يمكن تحليله، لأنَّ اللحظة مأساوية بحق وبحاجة إلى مؤلفين ومؤدين أكثر موهبة.