برخصة المشاع الإبداعي: doug turetsky، فليكر
جرافيتي ساخر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، 29 مايو 2016

خنازير ترامب وقنابل دخانه

منشور الخميس 27 فبراير 2025

 رغم تصريحاته الحمقاء، لا ينبغي الظنَّ أن ترامب أحمق؛ مثل هذا الاستنتاج هو تبسيط مُخِل. 

أصحاب المنطق السوي لا يأخذون تصريحات ترامب مأخذ الجد لأنها رعناء وهو كذوب، ولا يتعاملون معها وكأنها مجرد هزل، لأنه، وهذا من نكد الدنيا على الحُر، رئيس الدولة الأقوى في العالم. 

لهذا يجتذب ترامب بخفة تصريحاته وثقل منصبه اجتهادات شتى تحاول فهمه، لتتمكن من التعامل معه. 

تلتقي أكثر هذه الاجتهادات على نقاطٍ من بينها عدم إمكانية التنبؤ بسلوك ترامب ولا توقع ما سيفعله أو يقوله. ويغالي البعض فيضيف إلى كونه مستعصيًا على التوقع أنه مستعصٍ على الفهم. والحقيقة أن القدرة على التنبؤ بسلوكه محدودة لكن فهمه سهل وميسور.

صعوبة التنبؤ بسلوك ترامب تعود إلى أنه سيكون حاصل التفاعل بين الرئيس كفردٍ في موقع السلطة من جهة، ومن جهة ثانية مؤسسات الدولة العميقة في أمريكا، وليس بين الطرفين ما يكفي من الانسجام، ولا يملك أيّهما ما يكفي من القوة لإخضاع الآخر؛ فلا المؤسسات قادرة على الإمساك بلسان الرئيس النزق أو كبح سلوكه الأرعن، ولا هو قادر على تسخير هذه المؤسسات على حساب ما استقر لديها من أعراف ومفاهيم واستراتيجيات وتقاليد ومصالح، فضلًا عن قوة متعاظمة وخبرات تحكّم اكتسبتها عبر تاريخ طويل. 

ومع اتفاق الطرفين على هدف استدامة الهيمنة الأمريكية على العالم، يظل الخلاف جوهريًا على شكل هذه الهيمنة. فترامب الذي يرفع شعار عودة أمريكا عظيمة مرة أخرى يريدها مهيمنة بالقوة العارية، بينما تقاليد الهيمنة الأمريكية اعتادت على إلباس هذه القوة قفازًا من حريرِ؛ الرسالة الأمريكية لنشر قيم تحرير العالم بالديمقراطية وحقوق الإنسان. نفس الفارق الذي نعرفه في خبرتنا الشعبية المصرية بين البلطجي والفتوة؛ يمارس ترامب الجانح نحو البلطجة هيمنته بلا قيم ولا أخلاق ويُعرّيها من قفاز القيم.

أيضًا فإن الذات الترامبية المتضخمة المهووسة بالقوة الممسوسة بجنون العظمة، تغري البعض بالتنبؤ بأنه قد يصبح جورباتشوف أمريكا؛ أن ينتهي إلى خيار شمشوني يهدم المعبد الأمريكي فوق رأسه ورأس الدولة العميقة معًا. لكن هذا التنبؤ وإن كان ممكنًا نظريًا لا يمكن ترجيحه عمليًا، لأن ما سيحدث على الأغلب -وليس المؤكد- هو أن تتمكن المؤسسات من استيعاب وتوظيف الرجل بخصاله كما هي، ومن بينها حمقه ورعونته، لتحقيق المصالح الأمريكية بأقل قدْر ممكن من الآثار الجانبية، على قاعدة دعه يقُل ما يشاء، ولكنه لن يفعل إلا ما تشاء مؤسسات الدولة العميقة.

تطبيق هذه القاعدة سيكون محل منازعة دائمة بين نرجسية ترامب واعتداد الدولة الأمريكية بنفسها، وستتفاوت نتائجه من حالة إلى أخرى بحسب موضوع المنازعة ومجالها في الشأن الداخلي الأمريكي أو في السياسة الخارجية.

وفي هذا الصراع بين السيطرة بفجاجة البلطجة والهيمنة بادِّعاء الفتونة، يكمن أحد أهم أسباب صعوبة التنبؤ بسلوك ترامب. 

الصراع بين السيطرة بفجاجة البلطجة والهيمنة بادِّعاء الفتونة

يرفع السقف بإطلاق الخنازير

أما الفهم الميسور لترامب، فيتأتى من استحضار خصال الرجل اللصيقة بشخصيته والثابتة في تكوينه والظاهرة في سيرته.

السمات السلبية في شخصية ترامب تحتاج استفاضة لا يتسع لها هذا المجال، لكن قد يكون أفضل تكثيف لها ما قاله الفنان روبرت دي نيرو "ترامب رجل بلا أخلاق، مجرم لا يمتلك شرف المجرمين، أناني يهتم بمصالحه الشخصية فقط دون اعتبار للآخرين حتى مؤيديه". 

لعل أهم مفاتيح شخصية ترامب التي تُيسِّر فهمه، كونه تاجرًا مقاولًا مُساوِمًا، يجيد عقد الصفقات بحثًا عن أكبر ربح بأقل جهد. وكونه نصابًا، والنصب حرفة تستلزم أكبر قدر من ذكاء الاحتيال مع حدٍّ أقصى من الجشع وحدٍّ أدنى من الأخلاق. 

هذه السمات تجلت وتتجلى في سلوك الرئيس الأمريكي تجاه العالم. 

ومن الحيل المكررة التي يجيدها النصاب الجشع في عقد صفقاته، أن يرفع في بداية المساومة سقف مطالبه إلى الحد الأقصى وإن تجاوز المقبول أو المعقول. يضغط على خصومه بالمغالاة في رفع هذا السقف، ثم يقدم تخفيضه كتنازل ليصل في النهاية إلى تحقيق ربح مجاني وخسارة كاملة للخصوم الذين يخضعون لابتزازه. 

هذه الحيلة المكشوفة تُذكِّرنا بقصة الحاخام والخنزير التي لا تزال صالحة للاستشهاد رغم ابتذالها بكثرة التكرار؛ وفيها يلجأ يهودي فقير إلى الحاخام متألمًا شاكيًا من ضيق الغرفة الوحيدة التي يسكنها مع أبنائه، طالبًا العون للخلاص من مأساة هذا العيش التعس، ليطلب منه الحاخام أن يشتري خنزيرًا ويضعه في نفس الغرفة الضيقة ليعيش مع أسرته، ثم يعود إليه بعد أسبوع. ولما عاد الرجل متألمًا شاكيًا هذه المرة من استحالة العيش مع الخنزير برائحته النتنة الكريهة، طلب الحاخام أن يبيع الخنزير، فتهلل المسكين وشكر الحاخام وعاد سعيدًا إلى مأساته الأولى راضيًا بالعيش التعس. 

في إجاباته عن الأسئلة التي تكاثرت عليه انكشف أن ترامب يُروِّج لفكرة ضبابية مشوشة بلا خطة ولا مشروع

لدى ترامب حظيرة مكتظة بالخنازير الكريهة يطلقها على العالم الآن في مساوماته الجشعة؛ من خنزير ضم كندا إلى خنزير الاستيلاء على قناة بنما إلى خنزير شراء جرينلاند من الدنمارك إلى خنزير إعادة المهاجرين إلى المكسيك إلى خنزير الحرب التجارية وفرض الرسوم الجمركية على العالم، خصوصًا دول البريكس وعلى الأخص الصين، إلى خنزير التفاوض المباشر مع بوتين لوقف الحرب الأوكرانية متجاهلًا أوروبا مغيبًا أوكرانيا محتقرًا زيلينسكي الذي اتهمه بالفساد وحمّله مسؤولية شن الحرب. وفيها كلها تتجلى عقلية التاجر الجشع الذي يغالي في رفع السقف ليبتز الجميع ويفرض شروطه الجائرة عليهم. 

لكنَّ أنتن الخنازير هو خنزير التهجير.

بصفاقة منقطعة النظير روّج ترامب فكرته العدوانية بتهجير الشعب الفلسطيني من غزة إلى سيناء والأردن. جريمة تطهير عرقي مكتملة الأركان يدعو إليها رئيس دولة بوقاحة لا يُقدِم عليها سوى بلطجي مكشوف الوجه.

ورغم أن الرد من مصر والأردن جاء قاطعًا حاسمًا رافضًا مبدأ التهجير على لسان الرئيس والملك، ومؤسسات البلدين الرسمية، ومدعومًا بموقف شعبي موحَّد للموالاة والمعارضة، فإن ترامب تغابى وأبى واستكبر، وأصرَّ قائلًا: سيقبلان. 

في إجاباته عن الأسئلة التي تكاثرت عليه، انكشف أن الرجل يُروِّج لفكرة ضبابية مشوشة بلا خطة ولا مشروع، فهو يريد أن يمتلك غزة لكنه لن يدفع ثمنها، ويريد أن يسيطر عليها لكنه لن يرسل إليها قوات أمريكية، ويريد أن يعمرها ويجعل منها "ريفيرا الشرق" لكنه لن يدفع مليمًا في كلفة هذا التعمير. يأتي بما يعتبره حلًا للفلسطينيين الذين تهدمت غزة فوق رؤوسهم ولم يعودوا قادرين على العيش فيها: طردهم منها ليبنيها! ثم منعهم من العودة إليها! وطبعًا لا يشير إلى الذين هدموها. يخلط هذه "الهرتلة" بثقةِ من يقدِّم حلًا للفلسطينيين!

إذا كان الرجل يتوهم أن تصريحاته ستقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه، وتنجح في تحقيق ما أخفقت فيه قنابله على مدى 15 شهرًا، وما أخفقت فيه دولته وقوى الاستعمار الداعمة للكيان الصهيوني خلال ما يقارب القرن، فهو مريض بالوهم أو جاهل سعيد بجهله، أو وهو الأرجح نصاب يطلق قنابل من دخان ليعمينا عن رؤية أهدافه الحقيقية. 

جاهز للصفقة.. عازف عن القتال

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، 2 نوفمبر 2024

ولكن ما العمل في مواجهة خنازير ترامب وقنابل دخانه؟

من المفيد قبل الشروع في محاولة الإجابة، أن ننتبه إلى إحدى أهم سمات ترامب الشخصية أنه جاهز للصفقة عازف عن القتال، لأن الصفقات مربحة والمعارك مكلفة. لهذا يحب أن يقول عن نفسه إنه رجل سلام وهو يتحرق شوقًا لنيل جائزة نوبل ليتوِّج بها أداءه الاستعراضي. والأرجح أنه سيتجنب بالفعل خوض الحروب ويحرص على السلام ليس بدافع أخلاقي، فلا مكان للدوافع الأخلاقية في تكوينه ومعاييره، وإنما بدافع تجاري محض وبحساب الربح والخسارة. 

ثم علينا أن ننتبه إلى أن المشكلة الأكبر مع ترامب ليست في كونه تاجرًا بل في أنه نصاب. والتجارة حتى مع التشاطر والشطارة تحكمها قوانين وعرض وطلب ومتوسط أسعار تحدده السوق. وفي كل هذا نمتلك نحن العرب من الموارد والثروات والفرص وكروت اللعب ما يسمح لنا بالقطع أن نكسب ترامب أو على الأقل ألَّا نخسر أمامه. أما النصب فهو حرفة أخرى، إدخال الخنازير كما أسلفنا من تكتيكاتها المُجربة التي يجيدها ترامب، لكن شرط نجاحها معه أن نرضخ للنصاب، لأن القاعدة الذهبية في النصب أن النصاب لا ينجح إلا في وجود المغفل. 

ولزوم ما يلزم لنجاح عملية الاستغفال، أن يرفع النصاب الأسقف ويطلق التهديدات ويخوف بما لا يملك ويتوعد بما يعلم أنه لن يُقدم عليه. وهذه متلازمة يعرفها أولاد البلد في مصر ويسمون من يمارسها "فنجري بُق": والفنجري هو المُسرف والبُق هو الفم. نجاح النصاب هنا لا يعتمد على قوته الفعلية بل على إيهام المغفل بها حتى يرضخ لتهديداته ومبالغاته الكلامية. 

وترامب فنجري بُق بامتياز؛ واتضح هذا عمليًا في موقعة "الكل أو الجحيم"، حين ابتلع الرئيس الأمريكي تحذيره الصارم بفتح أبواب الجحيم إذا لم تسلم حماس كل الرهائن بحلول ظهر السبت 15 فبراير/شباط الحالي. لم تُعر المقاومة تهديده اهتمامًا ولم تسلم كل الأسرى، ولم تفرج إلا عن الرهائن الثلاثة حسب ما جاء في اتفاق الهدنة مع الكيان الصهيوني، دون أن ينهار اتفاق وقف إطلاق النار أو يفتح الجحيم أبوابه أو يفتح ترامب فمه. 

وآخر ما يجب أن ننتبه له في هذا التمهيد، قبل التفكير في إجابة سؤال "ما العمل"، هو كشف المستور من أهداف حقيقية وراء قنابل ترامب الدخانية، ويمكن نستنتجها ونوجزها في: 

  1. ضم أجزاء من الضفة الغربية قد تصل إلى الثلثين إلى كيان الاحتلال 
  2. ترحيل المقاومة خارج غزة وكل فلسطين
  3. منع الشعب الفلسطيني من إدارة غزة بأي صيغة تتضمن تمثيلًا سياسيًا، لا من السلطة ولا من المقاومة، لا فتح ولا حماس. وتنصيب إدارة مدنية ترضى عنها إسرائيل. أما المسؤولية الأمنية فتتحملها -أو بالأحرى تتورط فيها- مصر بمشاركة عربية وربما أجنبية 
  4. إعاقة أو تعليق عمليات الإعمار والإغاثة لتظل غزة طاردة لأهلها بمعايير جودة الحياة، مما يعطي ترامب والصهاينة فرصة تنفيذ ولو بطيء للتطهير العرقي، مع ادعاء أنه هجرة طوعية. 
  5. مواصلة السعي الأمريكي لتوسيع اتفاقات أبراهام. 

ومع قرب انعقاد القمة العربية المقررة في الرابع من مارس/آذار المقبل في القاهرة، وحتى لا تكون قمة خائبة عاجزة محبطة كسابقاتها، فإننا نحتاج كلَّ رأي قد يسهم في نجاحها المأمول، وهذا يتطلب إفاضة في مقالٍ تالٍ.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.