تصميم: أحمد بلال، المنصة
الرئيس الأمريكي جو بايدن

أكبر من إمبريالية.. أصغر من إمبراطورية

منشور الخميس 8 أغسطس 2024

منذ ثماني سنوات وصراعات السلطة في الولايات المتحدة تزداد سخونة وخطورة، لكن كثيرًا ممن يتابعونها في منطقتنا لا يُمسكون بدوافعها وأسبابها. ليس جهلًا معرفيًا منهم لا سمح الله، بل جهلًا بمواقعهم منها، بشكل يجعل غالبية تأملاتهم في هذا الشأن محمولةً على ضلالات، حيث يتماهى بعض الناس مع أطراف الصراع هناك وكأنهم، المتماهون، يمثلون امتدادًا عالميًا ما لها، بينما هي في أغلبها صراعات أمريكية شديدة المحلية.

وأنا وأنت نشاهد العرض الأمريكي، وتصلنا كثير من الصور والضجيج والإثارة والتهديد، ولكننا لسنا جزءًا منه ولا طرفًا أصيلًا في حسابات أطرافه، إلا من مواقع شديدة البؤس والهامشية والخطورة، أو بتعبير خليجي أكثر سخفًا؛ لا تسوي نفسك ديموقراطي (أو جمهوري) يا طعمية.

موقعنا التعس من هذه الصراعات يجب أن يكون بوصلة ومفتاح قراءتنا لها، فأكبر الإخفاقات السياسية تأتي من خطأ في المنطلقات التحليلية الأولى التي تصنع القراءة السياسية اللاحقة، وعلينا دائمًا ألَّا ننسى في كل لحظة، موقعنا من الصراعات السياسية الأمريكية، كأشباه مواطنين في بلدان على أطراف النظام الرأسمالي العالمي، علاقة الولايات المتحدة بها لا تتجاوز حدود التجريب أو الإخضاع أو الاحتواء في أفضل الظروف، ولا يفترض فيها الندية أو المساواة على أي حال مهما ادعت بعض الخطابات، الليبرالية بالذات.

أغلب دول العالم ومن موقع الهامش التابع، تدفع أثمان هذه الصراعات بطبيعة الحال، فالولايات المتحدة تشكل وحدها ربع اقتصاد الكوكب، والمجالات الحيوية التابعة والخاضعة لها سواء من مواقع متقدمة أو متخلفة تشكل أكثر من ثلث اقتصاد العالم، ولا يتبقى بعد ذلك إلا بعض القلاع هنا وهناك. هذه القلاع الصينية والهندية والروسية هي أيضًا منغمسة ومتورطة مع المجال الإمبراطوري الأمريكي، في علاقات التبادل والشراكة الرأسمالية، أحيانًا ببعض الاستقلالية وفي أغلب الوقت تحت ضغوط وعقبات.

إمبريالية أم إمبراطورية؟

مؤيد يرفع علمًا أمام ملصق لحملة ترامب الانتخابية بعد إعلان خسارته الانتخابات لصالح جو بايدن، يناير 2021

انطلاقًا مما سبق، يمكنني البدء في الحديث عمَّا يبدو تناقضًا حادًا في التوجهات بين النخب السياسية الأمريكية، لدرجة احتدام الصراع السياسي إلى حدود التشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية وانقسام الإعلام بشكل حاد، وصل إلى أن كل طرف أصبح يخاطب جمهوره هو فقط.

التناقض الجوهري الذي أراه ينعكس علينا بشكل عام، كمستعمرات وشبه مستعمرات خاضعة، يتمحور حول رؤية الولايات المتحدة لنفسها وبالتالي لدروها في العالم كله، وما يترتب على ذلك من سياسات وخطط وخطابات.

يدور التناقض بين منطقين؛ الأول يرى أمريكا إمبراطورية والثاني يريدها مجرد إمبريالية. الخط الأول سنجد أكثر المعبرين عنه معسكر الحزب الديموقراطي والليبرالية الأمريكية عمومًا، أما الثاني الآخذ في التبلور مع صعود دونالد ترامب، فيجيِّش نفسه من خلال مؤسسات الحزب الجمهوري والقوى الأمريكية المحافظة والقومية عمومًا.

الفارق بين أمريكا الإمبريالية وأمريكا الإمبراطورية، هو أن أمريكا الإمبريالية ترى في نفسها الأمة التي تسود العالم، وتقود باقي الأمم من موقع فوقي وقاهر ولكنها تعترف بها وبكينونتها، وهذا التصور يستلزم وجودًا واضحًا لأمريكا من الأساس، كدولة ووطن ومجال ومؤسسات وهوية متبلورة تضع مصالح الحيز الأمريكي ككل في مقدمة أولوياتها. أمريكا الإمبريالية تريد أن تكون أمريكا أولًا، وتريد لأول مرة للولايات المتحدة أن تصبح دولة قومية/nation state، لها هوية وملامح، وليست مجرد مدير عالمي للنظام الرأسمالي وقيمه.

أما أمريكا الإمبراطورية فهي ليست مجرد أمة، بل هي العالم كله، يتكثف فيها كمجال كل سلطة ومعنى ومستقبل للنظام الرأسمالي العالمي، وعليه فهي ترى نفسها أكبر من وطن، بل المركز الأممي لعالم متعدد الثقافات والميول التي لا حصر لها، ولكنه أيضًا عالم تنتفي فيه السيادة القومية لصالح منطق السيادة الإمبراطورية، حيث رأس المال محمي وحركته مصانة ومؤمَّنة من الجيش الإمبراطوري الأكثر قوة، ورأس المال هنا ليس شرطًا أن يكون وطنيًا ولا أمريكيًا، وهنا تأتي الأزمة.

الصراع بين المنطقين له مردوده الواضح في الداخل الأمريكي نفسه، أمريكا الإمبراطورية أكثر انفتاحًا على العالم وأكثر جذبًا لكفاءاته، تعترف بالتعدد وتستثمر فيه، تقدم وعدًا بصهر الهويات وتمايزها في الوقت نفسه على أسس تبدو مساواتية، في حين أن أمريكا الإمبريالية هي أمريكا الأسوار والحدود، التي تسعى لإعادة الاعتبار لمكانة ومركز المكون الأنجلو-بروتستانتي المؤسس لها، أمريكا الإمبراطورية تصيغ نفسها كمجال أبعد من حدودها بكثير، أما أمريكا الإمبريالية فتريد أن تعيِّن حدودها أولًا.

إعادة اختراع الدولة القومية

دونالد ترامب يحمل الكتاب المقدس أمام مقر أبرشية كنيسة القديس يوحنا الأسقفية، 1 يونيو 2020

في تصور أمريكا الإمبريالية، التي تسعى لاسترداد عظمتها مجددًا حسب شعار دونالد ترامب، ينبغي الحفاظ على أمريكا أولًا، لتحافظ هي على نفوذها العالمى تاليًا. ولهذا المنطق أصوله في التقاليد السياسية الأمريكية القديمة، التي تصارع فيها منطقي التدخل في الشأن العالمي، وسياسات العزلة وراء الأطلنطي.

هذا التصور أصبح يخشى من أن الطبيعة الكونية للولايات المتحدة قد تفضي في النهاية إلى تقويض وجودها كأمة، لذا فهو يرى أن كلفة السيادة الإمبراطورية لا ينبغي أن تصل إلى تراخى السيطرة والهيمنة على أمريكا نفسها كوحدة سياسية، لصالح مصالح أكثر كونية قد لا تراعي كثيرًا من الحسابات الأمريكية الداخلية وكثيرًا من التوازنات الثقافية والعرقية والاجتماعية التي تشكل الولايات المتحدة ذاتها.

لذلك تريد أمريكا الإمبريالية أن تصيغ ماهية لأمريكا نفسها، كدولة قومية، بيضاء أولًا وبالأساس، تختار مهاجريها بعناية، تضع أولوية لمصالح الرأسمال الأمريكي داخل أمريكا، ولو على حساب الرأسمال الأمريكي المتعولم، الذي يستفيد من استثماره في بلدان مثل الصين وغيرها.

هذا هو الموقع الذي تصيغ منه أمريكا الإمبريالية علاقتها بالعالم، فهي مستعدة لعقد صفقات جادة مع خصومها، ولكن بعد ردعهم بشدة وبمشهدية استعراضية تحترفها ببراعة، وبحيث يكون ناتج الصفقة نصرًا أمريكيًا محققًا. وهي ليست على استعداد لدعم أصدقائها بلا ثمن أو مقابل مباشر، أو تحت عنوان المسؤولية الإمبراطورية.

يتضح ذلك في علاقة أمريكا ترامب بالخليج العربى وأوروبا على حد سواء، فالحماية لها ثمن، وهي ليست واجبًا أو التزامًا أمريكيًا. إذا أراد الناتو أن يستمر فعلى الشريك الأوروبي أن يسهم بالقدر اللائق في نفقاته، ولو أراد الشركاء العرب الأغنياء دعمًا في مواجهة خصومهم فعليهم دفع الثمن مقدمًا ونقدًا لو أمكن.

هذه الصيغة تروق لكثير من حلفاء أمريكا حول العالم ولكثير من خصومها أيضًا، فحلفاء الولايات المتحدة من الدول الاستبدادية، سيعرفون وبوضوح ما هي الصيغة الملائمة للعلاقة مع الدولة الأقوى، وهي في المقابل لن تضغط عليهم من أجل إنفاذ سياسات داخلية بعينها تتعلق بأجندات الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها.

الأمر نفسه ينطبق بمعنى من المعاني على الخصوم، أمريكا مثلًا على تناقض استراتيجي مع الروس، لكن ترامب لا تعنيه السلطوية القيصرية التي يحكم بها بوتين روسيا، وهو أيضًا سيحترم ما تعتبره روسيا مجالًا حيويًا لها طالما هناك صيغة لصفقة توافقية ما. بل ربما يذهب بعيدًا ويلوح بصفقة مع بيونج يانج، في إطار ابتزاز حلفائه اليابانيين والكوريين الجنوبيين لإخضاعهم.

تظل أمريكا الإمبريالية قطبًا وحيدًا في العالم، ولكنه قطب لا يريد تشكيل باقي العالم على شاكلته، يترك مساحات الحركة والمناورة لخصومه ولكنه يرسم لهم خطوطًا حمراء واضحة ورادعة. سيقصف ترامب بشار الأسد بسلاح الجو الأمريكي على الفور إذا استخدم سلاحًا كيماويًا ضد خصومه، ولكنه في الوقت نفسه غير معني بما هو دون ذلك فيما يخص طريقة حكمه لسوريا.

يقدِم ترامب على اغتيال قاسم سليماني في تصرف أربك إسرائيل نفسها، فعل حاسم وصادم ولكنه يصل برسالة رادعة إلى أن هناك حلًا سيُفرض على الجميع بالقوة في لحظة ما، وأن صفقة كبرى ستتم على أثره. أمريكا تغير الخرائط، ولكنها لا تدير يومياتها، إمبريالية تغير وتجرد حملات العقاب، ولكنها تحكم من خلال رجال تفوضهم فيمن يحكمون ولا تكترث بالتفاصيل.

إمبراطورية العشرين عامًا

حاملة الطائرات الأمريكية جيرالد فورد، 24 أكتوبر 2023

خلافا للإمبرياليين، يعي الإمبراطوريون الأمريكيون ذواتهم ومواقعهم من العالم بشكل مختلف، فهم يرون الولايات المتحدة كوجود ممتد على مساحة الكوكب كله. أساطيل فائقة التسليح تزدحم بها محيطات العالم وبحاره، ونظامًا ماليًا وبنكيًا للدفع والتداول يدير حركة رؤوس الأموال بين أغلب بقاع الأرض، أمريكا وجود إمبراطوري متحقق بالفعل، بالقوة القاهرة والناعمة، الوعد والوعيد، ونحن الآن في زمن الوعيد، والعالم أصبح وحدة واحدة كالمركب الكيميائي الذي لا يمكن فصل عناصره عن بعضها البعض.

في أمريكا الإمبراطورية واشنطن عاصمة العالم. يأتي إليها المال من كل بقاع الأرض ليرتمي تحت أقدام جماعات الضغط المهمة وغير المهمة، المستعدة لخدمة أي طرف في العالم طالما التزم بحدوده وقدر حجمه.

واشنطن هنا ليست عاصمة المؤسسات السيادية الفيدرالية التي تأتي إليها لعقد الصفقات مع ساستها، بل ملعب الشركات والجماعات والأجهزة التي قد تتقاطع مع تلك المؤسسات الفيدرالية في مساحات وتوقيتات معينة، ضمن تعاقدات يحكمها البزنس أولًا والمصالح القومية ثانيًا.

في زمن الوعد، أعلنت الولايات المتحدة أن العالم وحدة ديمقراطية ليبرالية أبدية، تشذ عنها بعض النتوءات المارقة، ستُسمى لاحقًا محاور الشر؛ تنظيمات إرهابية إسلامية مخبولة، أو دول طرفية يحكمها طغاة تنساب الدماء من بين أصابعهم، وسيعاقبون جميعًا في وقت ما. وكل من هو خارج هذا التصنيف سيعد مشروعًا واعدًا لديمقراطية ليبرالية تحت النظر والتحقق، سيندمج العالم كله داخل هذا المشروع، وما هو شاذ وكاريكاتيري وجوده يؤكد القاعدة.

لكن هذه الرؤية التي قدمت نفسها بعد عام 1991 انتهت فعليًا عام 2022، في اللحظة التي قررت فيها الولايات المتحدة إعلان روسيا دولة مارقة مثل فنزويلا وعراق صدام وكوريا الشمالية. لم تتمكن أمريكا من وضع روسيا بوتين في هذه الخانة، تملصت منها الصين والهند والبرازيل وبالطبع المجال الذي كان يشكل الاتحاد السوفيتي سابقًا. حتى دول الشرق الأوسط أسيرة المعية الأمريكية لم تلتزم تمامًا بعزل روسيا.

فشل الوثبة الإمبراطورية في الصراع مع روسيا ثم الدعم الكامل لإسرائيل في إبادتها الحالية في غزة، نزعا عن أمريكا صفة الإمبراطورية، وحولاها إلى قائد عسكري لمعسكر اسمه الغرب لا يزال يبحث لنفسه عن عنوان يميزه. لم تعد الديمقراطية والحرية أساسًا لوجوده، لأنه من الصعب جدًا تعريف دول مثل أوكرانيا وإسرائيل كديمقراطيات تواجه سلطويات. المسألة ليست بالإصرار الدعائي.

الإخفاق الإمبراطوري حاضر والتعثر سبق لحظة ربيع 2022. فخلافًا لتصورات أنطونيو نيجري التي تنبأ فيها عام 2000 بأن المؤسسات والمنظمات الدولية ستلعب دورًا ناظمًا لفرض التصورات والمقررات الإمبراطورية، راحت الولايات المتحدة تُقزِّم من قيمة المؤسسات الدولية وتحط من قدرها وأهميتها، لدرجة النظر إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتريش في بعض الأوساط كناشط يساري مارق، لمجرد أنه يتعامل مع إسرائيل كدولة منتهكة للقوانين الدولية.

تنتشر في دورات رواج وانتعاش النظام الرأسمالي الكلمات اللطيفة عن الكوكبة العادلة والقيم الكونية وما إلى ذلك من ترهات سادت بين 1991 و2008. ولكن في دوراته الصعبة، لا يُبقي النظام الرأسمالي من هذه القيم الكونية إلا الإخضاع العسكري فائق التطور والرعب، حيث لا منطق إلا منطق القوة المحضة التي لا يمكن استعارة أي غطاء قيمي لها لفرط جبروتها.

هذا هو الوجه الذي نراه هذه الأيام من الولايات المتحدة.

لسنا في 1996 يا صديقي

من الخطأ الكبير الذي يرتقي إلى مصاف الجريمة أن تظل فئة من التقدميين العرب أسيرة لمنطق أمريكا الإمبراطورية في ردائها الإصلاحي الكوكبي، وأن تعتبر ذلك خيارًا أكثر تقدمية مقارنة بعبثية وعصبية طروحات أمريكا الإمبريالية، ذلك أن الطور الحالي من أمريكا الإمبراطورية لا يَعِدُ أحدًا، حتى أقرب حلفائه، بعالمٍ أفضل ولو قليلًا.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن الاشتباك مع أمريكا الإمبراطورية ومواجهتها إلا على أسس أممية تحررية، وهذا الاشتباك عليه إزالة أي التباس وشعوذة روجها من يُسمُّون بالليبراليين العرب، حول طبيعة الإمبراطورية الأمريكية كعدو للأممية التحررية. لقد انتهى زمن وعد الدواجن بحياة آمنة في كنف إمبراطور عاقل وعطوف، لأنه لم يعد كذلك.

تظل أمريكا الإمبراطورية أكثر تعبيرًا عن الطور الحالي من الرأسمالية المتأخرة، لأن أمريكا الإمبريالية تروم إلى ماضٍ لن يعود. تعي أمريكا الإمبراطورية أن طبيعة الأزمة الرأسمالية الحالية تحتاج إلى تدخلات وحلول في كل لحظة وفي كل مكان وإلا إنهار الدومينو على رؤوس الجميع، وهي تدرك أنها لن تستطيع فرض شروط كونية شاملة إلا بعد الإخضاع التام لكل مكونات هذا العالم بالقسر والجبروت وفي أدق التفاصيل.

الإشكال هو أن الإخضاع الكوني يتطلب طرحًا كونيًا يصاحبه، والطروحات الكونية بطبيعة الحال تحمل داخلها جينات تقدمية لأنها تستند على مبدأ وحدة الحضارة الإنسانية والمساواة النظرية بين مكوناتها، وهنا يأتي التناقض، لأن أمريكا الإمبراطورية تريد طرحًا كونيًا لا يلتزم بتلك المبادئ، وهو ما لن يتحقق إلا بجعل العالم مكانًا أكثر خطورة وديستوبية وكآبة، بحيث تصبح معه الشروط الكونية الجائرة للإمبراطورية فائضة العسكرة أمرًا مقبولًا تحت ضغط التهديدات الوجودية للإنسان.

إنه تحدٍّ عالمي جديد وكبير وخطير، ولكن لا يمكن الهروب من استحقاقاته. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.