حتى ثلاث سنوات مضت، كانت العطلات الرسمية للحكومة الأمريكية على المستوى القومي عشرًا فقط، بمجموع عشرة أيام، أغلبها يُحتفل به يوم الاثنين لضمه إلى عطلة نهاية الأسبوع، التي تكون يومي السبت والأحد، بدلًا من موعدها الحقيقي وسط الأسبوع. وتقتصر الاستثناءات على الكريسماس -عيد الميلاد، وهو العطلة الدينية الرسمية الوحيدة- يوم 25 ديسمبر/كانون الأول، وعيد الاستقلال في 4 يوليو/تموز من كل عام.
لكن بعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه الرئاسة، قرر الرئيس جو بايدن إضافة عطلة قومية جديدة، وتكون إجازته حسبما يكون يومه من الأسبوع، وهو 19 يونيو/حزيران.
وحصل بايدن على موافقة الكونجرس ليصبح قراره قانونًا، بإجماع سيناتورات مجلس الشيوخ المائة، واعتراض 14 عضوًا، كانوا كلهم من الجمهوريين، في مجلس النواب، وموافقة بقية أعضائه الـ435.
ماذا حدث يوم "جونتينث"؟
هذا العيد الذي يسمى جونتينث/Juneteenth، هو عيد الاستقلال الفعلي للسود الأمريكيين الذين تجاوز عددهم الآن 40 مليونًا، ويشكلون أكثر من 12% من مجموع سكان الولايات المتحدة الـ330 مليونًا.
فعيد الاستقلال الأمريكي في 4 يوليو، هو ذكرى توقيع بيان الاستقلال عام 1776 خلال حرب بريطانيا الخاسرة مع ثوار مستعمراتها البيض، وهو يوم لم يجلب الحرية والاستقلال لسكان أمريكا من الأفارقة الذين جُلبوا واستبعدوا في العالم الجديد، ولو حتى شكليًا.
ظل الاستقلال استقلال أمريكا البيضاء طوال قرن آخر، حتى فاز مرشح الحزب الجمهوري أبراهام لينكولن بالرئاسة عام 1860، لتبدأ فصول الحرب الأهلية التي قُتل فيها مليون شخص من إجمالي ثلاثين مليون نسمة آنذاك.
وعَد لينكولن في حملته الانتخابية بأنه سيلغي نظام العبودية في كل البلاد، بما فيها الولايات السبع الجنوبية التي كان بها ثلاثة ملايين ونصف المليون من أصل أربعة ملايين أسود كانوا مستعبدين في الولايات المتحدة وقتها. وبالتالي، أعلنت الولايات الجنوبية السبع من فيرجينيا إلى تكساس وفلوريدا الانفصال عن الاتحاد الفيدرالي وتكوين اتحاد كونفيدرالي مستقل عن واشنطن.
وفي منتصف فترة الحرب، يوم 1 يناير/كانون الثاني 1863، وقّع لينكولن إعلان تحرير العبيد في الولايات "المتمردة"، ونُفِّذ مباشرة في كل ولاية يُخضعها الجيش الاتحادي للحكومة الفيدرالية من جديد، حتى انتهت الحرب في أبريل/نيسان 1865.
رغم ذلك، ظل مئات الآلاف مستعبدين في مناطق نائية بولايات الجنوب، لم تصلها قوات الاتحاد لتُخبر سكانها من السود بتحررهم من العبودية، وأنَّ علاقتهم بمالك الأرض الأبيض أصبحت علاقة أجير بصاحب عمل.
تحقق هذا بشكل تاريخي يوم 19 يونيو 1865، بعد شهرين من نهاية الحرب الأهلية، حين وصل قائد من قوات الاتحاد الفيدرالي المنتصر ومعه ألفا جندي إلى بلدة جالفستون الساحلية في أقصى ولاية تكساس على خليج المكسيك، ليقرأ لسكانها من السود بيان تحريرهم.
اكتمل تحرير باقي العبيد رسميًا مع التصديق في ديسمبر من العام نفسه على التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي، بتحريم العبودية والعمل القسري. لكن ظلَّ يوم 19 يونيو علامة تاريخية لتحرير أفارقة أمريكا من الرق، بعد قرنين ونصف القرن من الاستعباد.
تغطية التمييز بالأعياد
بعد أيام من اغتيال القس مارتن لوثر كينج عام 1968، بدأت حملة تطالب بأن يكون لزعيم الأمريكيين السود يومٌ قوميٌّ لتخليد اسمه وكفاحه، مثلما توجد عطلة رسمية في عيد ميلاد جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي وقائد حرب الاستقلال عن بريطانيا.
حدث ذلك بعد ثلاث سنوات على صدور قانون الحقوق المدنية للمساواة والاندماج عام 1965، حيث عانى السود الأمريكيون قرنًا كاملًا منذ الانعتاق عام 1865 من ممارسات وقوانين الفصل العنصري، خصوصًا في الجنوب. وكان لوثر كينج أبرز شخصية تقود مسيرة ومظاهرات حركة الحقوق.
بعد ثلاث سنوات في الحكم فقد بايدن نسبة ملموسة من مؤيديه الأمريكيين الأفارقة
المفارقة، أنَّ معارضة الكونجرس من نواب وشيوخ ولايات الجنوب البيض لقانون عطلة الزعيم الأمريكي الأسود كانت أقوى من تأييد الرئيس الديمقراطي كارتر، ولم يمر هذا القانون إلا في عهد اليمين الجمهوري خلال رئاسة رونالد ريجان. وبعد معركة برلمانية صعبة في مجلس الشيوخ، انتهت بتشريع صدر عام 1983 بجعل ثالث يوم اثنين من شهر يناير كل عام عطلة قومية بمناسبة عيد ميلاد مارتن لوثر كينج.
كان إرضاء الأمريكيين السود بيوم عيد خطوة رمزية فقط، اتخذها اليميني المحافظ ريجان وهو يشن ما سُمِّي بالحرب على المخدرات. وسوف تؤدي هذه الحملة في سنوات ريجان اللاحقة لسجن مئات آلاف الأمريكيين السود الذين طُبقت عليهم القوانين بشكل مجحف، لأنهم الأسهل في القبض والتفتيش بحجة الشبهة، ولعدم قدرتهم المالية على توكيل محامين.
تذهب الغالبية العظمى من أصوات السود الأمريكيين للمرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة، وهذا ما حدث مع بيل كلينتون، الذي تماشى مع اليمين الجمهوري حين سيطر على الكونجرس بمجلسيه، فوافقهم على قوانين مشددة بحجة مكافحة الجريمة تجعل السجن في المرة الثالثة سجنًا مدى الحياة، ولو كانت لحيازة شاب عاطل أسود سيجارة ماريجوانا أو حشيش. من هنا، تخلى الأمريكيون السود عن هيلاري كلينتون حين رشحت نفسها للرئاسة ضد ترامب في 2016.
هدية رمزية أفضل من لا شيء؟
وصول باراك أوباما للبيت الأبيض، ليصبح على مدى ثماني سنوات أول رئيس أمريكي أسود، كان زلزالًا لم تنتهِ رداته بالنسبة لأمريكا البيضاء، التي وجدت في انتخاب ترامب بعده الرد العكسي على حركة التصحيح في مسار التاريخ الأمريكي.
لم يهتم أوباما أثناء رئاسته بإضافة عيد قومي آخر لتاريخ السود الأمريكيين. واكتفى بالحرص على ذكر يوم التاسع عشر من يونيو في بيانات رئاسية، للتأكيد على مغزاه كذكرى لاستقلال وتحرير قطاع من الأمريكيين لم ينل حريته يوم عيد استقلال أمريكا الأول.
لكنَّ بايدن، النائب السابق لأوباما، وجد نفسه في حاجة لما هو أبعد من ذلك. فقد واكَبت حملة بايدن الانتخابية في 2020 المظاهرات الحاشدة ضد بطش الشرطة بعدما قتلت المواطن الأسود الأعزل جورج فلويد خنقًا خلال تقييده للقبض عليه، ورافقت عودة بايدن إلى البيت الأبيض انقسامات ونعرات عنصرية فجة أطلقها ترامب من عقالها، لحشد أمريكا البيضاء في صفه قبل أن يكتسحها الملونون والمهاجرون!
ردة الفعل بعد أربع سنوات من حكم ترامب أعطت بايدن زخمًا شعبيًا وتأييدًا أقوى من السود والأقليات عام 2020، ولكن رغم ذلك تتراجع هذه الشعبية في صفوف الناخبين السود. فحسب استطلاعات رأي لمؤسسة بيو/Pew، بلغت نسبة تأييد رواد كنائس السود الأمريكيين لبايدن 90% في انتخابات الرئاسة السابقة 2020، بينما تبلغ بين الأمريكيين السود هذا العام 77% فقط، بل وتنخفض هذه النسبة بافتراض وجود مرشح لديه فرصة غير بايدن وترامب!
بعد ثلاث سنوات في الحكم، لم يلتزم خلالها بعدة وعود انتخابية، ثم تأييده للوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة، فقد بايدن نسبة ملموسة من مؤيدي الحزب الديمقراطي، ليس فقط من العرب والمسلمين، بل أيضًا من الأمريكيين الأفارقة. فقد وجه رؤساء ألف كنيسة للسود الأمريكيين في يناير الماضي رسالة مشتركة، تطالب بايدن بوقف إطلاق النار في غزة والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. لكنها مناشدات ذهبت أدراج الرياح.
يأمل بايدن أن يُذكَّر إقراره عيد "تسعتاشر يونيو" أن تدرك الأقليات باختلاف نسبها أن منافسه اليميني لن يفعل لهم شيئًا ولو رمزيًا، بل قد يكون خصمًا وعدوًا لحقوقهم المدنية، بالتالي فلا بديل لهم عنه مرشحًا للرئاسة.