ربما ليس لنا من الأمر شيء في هذه البقعة الساخنة من العالم. لا صوت لنا في الولايات المتحدة؛ فنحن لا نصوُّت بالأساس إذا ما قُصد بالكلمة الاقتراع، ربما نصوُّت بمعنى النحيب. لذلك فإن انتخابات الرئاسة والكونجرس في أمريكا قد تعني بالنسبة لنا ما كان يعنيه قدوم قيصر جديد للإمبراطورية الرومانية في العصور السالفة.
يتابع بعضنا نتائج الانتخابات الأمريكية بحماس شديد استشرافًا لمستقبل منطقتنا، وقد تأخذ بعضنا الجلالة فيتصرف وكأنه مواطن أمريكي، غالبًا أبيض، فينحاز لحملة فلان أو ترتان وكأنه جزءٌ منها. كما أن هناك اعتقادًا سائدًا لدى قطاع واسع من المثقفين العرب أن الديمقراطيين خيار أفضل. ولكن الحقيقة أن لا وضع أمثلَ قُدِّر لنا في هذه الحقبة الزمنية.
من يأملون خيرًا في الديمقراطيين ربما يفعلون ذلك بسبب تصديقهم اللافتات التي يرفعونها لاحترام حقوق الإنسان والأقليات والمرأة والملونين والمهاجرين ومجتمع الميم. وفي مقابل هؤلاء، يترسخ اعتقاد سائد لدى السلطات العربية القائمة وقطاع من مؤيديها والمستفيدين منها أن الجمهوريين هم الأمثل، لأنهم أقل اهتمامًا بالضغط على سلطاتنا العربية من أجل المزيد من الحريات وحقوق الإنسان، متناسين عندما أقام جورج بوش الابن، الجمهوري، القيامة في منطقتنا أملًا في نشر الديمقراطية، حتى إنه ذكر أمام جمع من الناس كان من بينهم السياسي والمصرفي الفلسطيني نبيل شعث، أن المسيح بنفسه قال له "جورج، ضع حدًا للتسلط في العراق".
قال له "يا جورج"... المسيح يعني، يقصد سيدنا المسيح الذي نعرفه.
وبين هذا وذاك، يعمد مثقفون إلى تسفيه من لا يبالي بفوز أيهما، ويسخرون ممن يعتبرون "أحمد زي الحاج أحمد"، ويرونها عبارة شعبوية تُسطِّح السياسات وتشي بجهل قائلها بالسياسة.
عقب فوز ترامب، صاحِب الخطاب الصاخب في عنصريته ورأسماليته ودعمه للكيان الصهيوني، وهي المواضيع الأساسية التي تهمنا نحن في الشرق الأوسط، عبّر الكثيرون عن إحباطهم وحزنهم، بل وغضبهم من انحياز الشعب الأمريكي للفاشية أو أصواته "العقابية"، ما حدا بي إلى مقارنة التحليلات السياسية عقب فوز ترامب اليوم، بتحليلات أخرى للصحف نفسها عقب فوز بايدن، ثم مقارنة ذلك كله بالواقع.
نبذة من قراءات الصحف
نشر موقع فرانس 24 توقعات سياسية متنبئة بعهد ترامب بعد فوزه فيما يتعلق بالحرب في لبنان وغزة والملف الإيراني وأزمة الصحراء الغربية. وتوقَّع الموقع في تحليله أن تستمر الحرب على لبنان وغزة بوتيرة أعنف نظرًا لتأييد ترامب المطلق لإسرائيل، مشيرًا إلى قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس معترفًا بها عاصمةً للكيان الصهيوني. كما توقع التحليل أن يزيد ترامب ضغطه على إيران بالمزيد من العقوبات، مع بيع المزيد من الأسلحة لدول الخليج، ما يفاقم الوضع في منطقة الشرق الأوسط. وذكرنا التحليل بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران ثم تشديد العقوبات عليها، ما رفع معدلات التضخم إلى 40%، وخفض قيمة العملة الإيرانية.
قبل أربع سنوات، نشر الموقع نفسه تحليلًا بدا متفائلًا يستشرف رئاسة بايدن، انحسرت فيه النبرة الموضوعية لصالح الكثير من العاطفة، فمثلًا يقول "ويرجع المرشح الديمقراطي الفضل دائمًا في طيبته ومثابرته وتعاطفه مع الآخر إلى أصوله، فهو لا يكل عن ذكر أبيه، الرجل الذي عرف الثروة والفقر والذي عمل جاهدًا طوال حياته، تارة في تنظيف الأفران وأخرى في بيع السيارات المستعملة، حتى لا ينقص أبناءه شيء أبدًا.
ويحب بايدن دائمًا التأكيد على المقولات الأبوية خلال تجمعاته، منها "يا بني، لا يصنف الرجل بعدد مرات فشله وسقوطه أرضًا بل بسرعة نهوضه"، وهي نصيحة كان على جو بايدن الابن تبنيها سريعًا. فقبل عقود من وصف دونالد ترامب له بـ"جو النائم"، كان بايدن دائمًا محلًا للسخرية في مدرسته بسبب التلعثم الذي يعاني منه، والذي تغلب عليه بقراءته للشعر "بصوت عالٍ أمام مرآته".
لقد اختبرنا نحن "الحيوانات البشرية" بالفعل طيبة قلب جو بايدن، وحنانه، وعطفه، وتعاطفه مع الآخر، على مدى أربع سنوات، لم نرَ خلالها سوى دماءً ومذابح وتدهورًا اقتصاديًا لا يصب في صالح الفقراء والمهمشين الذين قال الموقع في تحليله إن بايدن ينتمي إليهم، وقد طرحنا أرضًا حتى "سفلتنا" بما لا يدع لنا مجالًا للنهوض.
في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، نشرت النسخة الفرنسية من بي بي سي تحليلًا بعنوان "ماذا يعني فوز بايدن بالنسبة للعالم؟"، استعرض رؤىً متفائلةً لمستقبل مُشرق للجهات الأربع في العالم، ذلك أنه "سيحاول (..) إعادة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى الطريقة التي تركها بها عندما كان نائبًا للرئيس في عهد باراك أوباما: تخفيف حملة ’الضغط الأقصى‘ التي يشنها ترامب على إيران والعودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 الذي تخلى عنه البيت الأبيض. وهذا الاحتمال يرعب إسرائيل ودول الخليج مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة".
كما توقَّع التحليل "تغييرًا جذريًا في النهج الأمريكي في التعامل مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. واعتبرت خطة ترامب منحازة بشدة لإسرائيل وتمنحها خيار ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة. وقد تم وضع هذه السياسة جانبًا لصالح اتفاقيات تاريخية تهدف إلى إقامة علاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية".
الغرض من استعراض تلك التحليلات والآراء هو عدم اعتمادها
وفي الشهر نفسه، ولكن بعد أربع سنوات، أي هذا العام، نَشَر الموقع ذاته تعقيبًا على عودة ترامب، جاء في نصه "وكما هو الحال مع أوكرانيا، وعد ترامب بإحلال السلام في الشرق الأوسط، مما يعني أنه سينهي الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة والحرب بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، لكنه لم يحدد كيف".
وفي إسرائيل، نشرت جيروزاليم بوست مقالًا يؤكد أن حماس سوف تتحسر على أيام بايدن بعد فوز ترامب، جاء فيه "إن فوز ترامب يُضعف الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحروب متعددة الجبهات التي تخوضها إسرائيل في الأمد القريب ويثير تساؤلات حول الدعم الأمريكي الطويل الأمد للحملات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران ووكلائها".
وأشارت الصحيفة إلى أن سياسات ترامب بشأن جميع القضايا المتعلقة بغزة ولبنان وإيران ستكون "مختلفة تمامًا عن سياسات سلفه. إن هذه المعرفة وحدها كفيلة بخلق حالة من الفوضى في حرب تولت فيها الولايات المتحدة زمام المبادرة الدبلوماسية في مبادرات وقف إطلاق النار ودعمت إسرائيل على الساحة الدبلوماسية.
كما أمريكا ترأست تحالفًا عسكريًا دفاعيًا يحمي إسرائيل من الهجمات الصاروخية الإيرانية ودعمت إسرائيل بالأسلحة والإمدادات العسكرية. والسؤال الآن هو ما الذي يمكن أن يحدث في الأشهر الثلاثة المقبلة و"ما الذي سيحدث بعد 20 يناير/كانون الثاني، وهو موعد تسليم السلطة في الولايات المتحدة".
ثم تؤكد الصحيفة على أن ترامب كان مفيدًا لإسرائيل في وقت السِلم، أما وقد شارف العالم على حرب عالمية ثالثة، فإنه هو من سيسرع من وتيرتها.
قبل أربع سنوات، نشرت الصحيفة الإسرائيلية نفسها ما نصه أن "فوز بايدن ينهي أي احتمال لنجاح خطة ترامب لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، المعروفة باسم ’السلام من أجل الرخاء‘ أو ’صفقة القرن‘. كانت الخطة قد قدمت انفصالًا جذريًا عن المبادرات السابقة، حيث سمحت لإسرائيل في النهاية بضم ما يصل إلى 30% من الضفة الغربية ووعدت بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على معظم القدس الشرقية. وكجزء من الخطة، أدرج ترامب أيضًا أول خريطة منشورة على الإطلاق للحدود المقترحة لحل الدولتين للصراع. تم الكشف عن الخطة في يناير 2020 فقط، ورفض الفلسطينيون التفاوض عليها".
أرجو أن تكون سمحت لك الظروف الراهنة بالضحك معي بعد قراءة هذا المقطع.
ماذا نريد من هذا الاستعراض؟
الغرض من استعراض تلك التحليلات والآراء هو عدم اعتمادها! لقد احتفلنا، واحتفى المثقفون في منطقتنا، سويًا مع مستخدمي السوشيال ميديا، بفوز جو بايدن، حتى بكى بعضهم فرحًا بانتصار الإنسانية على الفاشية! وكانت هذه المرة الأخيرة التي يجرؤ أحد منا على التعبير عن فرحه وانتصاره!
لا أنكر أنني كنت سعيدة لسقوط رجل كان يسب بني جلدتي عيانًا بيانًا ويصفهم بأقبح الصفات. ثم عشنا بعدها الأبشع في أربع سنوات خلفتنا نفوسًا داميةً؛ حروب مشتعلة، ظروف اقتصادية طاحنة تدهس فقراء العالم ومهمشيه بمن فيهم فقراء الولايات المتحدة ذاتهم، ومجزرة غير مسبوقة في تاريخ الكيان الصهيوني دون أدنى محاسبة، بل وبدعم لوجيستي وعسكري وإعلامي كامل يصف هذه المجزرة، التي حُرق فيها الأطفال أحياء، بأنها دفاع عن النفس!
أما عن العنصرية التي كنا نكرهها في ترامب، فقد وُصِفنا نحن بالحيوانات البشرية، وهو الوصف الأوقح الذي لم يجُل ببال ترامب، ولم يتفوه بمثله. أما ما يتعلق "بالحريات"، فقد وقع الجميع تحت مرمى سهام الاتهام بمعاداة السامية؛ فرأينا طلبة الجامعات وأساتذتها، من الذين حركتهم إنسانيتهم للتضامن مع غزة، يُسحلون ويُضربون ويقفون في موقع الاتهام عن كل جملة قالوها أو قيلت في حضورهم ولم يقمعوا قائلها! لماذا لم تعترض؟ وهل تظن أن هذه العبارات التي قالها غيرك معادية للسامية؟ أجب.. أَبِن.. أفصح. وفُصل الطلبة والأساتذة ورؤساء الجامعات على إثر معاداتهم للسامية لأنهم لا يقبلون بقتل الأطفال.
حملات الهجوم والمطالبات بمحاسبة المتضامنين مع غزة بدعوى معاداة السامية، كان فيها الحزب الجمهوري هو الأعلى صوتًا. ونزولًا عند رغبة الجماهير الجمهورية، أطلقت الإدارة الديمقراطية يد السلطات لقمع المتضامنين مع غزة، بالطبع لأن الولايات المتحدة الأمريكية دولة ديمقراطية، تنزل عند رغبات الجماهير.
لكن المثير هو أن هناك انتقاء للرغبات والجماهير. فعلى سبيل المثال، يتبنى الجمهوريون حملات أخرى تستهدف قمع قطاعات أخرى من الشعب الأمريكي، المثليين مثلًا أو الراغبات في الإجهاض، إلا أن الديمقراطيين لم ينصاعوا إلى نداءاتهم. كما أن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، تكشف أن رغبة أغلب الأمريكيين وقف دعم بلادهم للحرب على غزة، بأغلبية لم تشهدها استطلاعات الرأي في هذا الموضوع تحديدًا من قبل، لكن هذه الجماهير، وتلك الرغبات، لا يراها الديمقراطيون.
هذا المستوى من القمع، الذي لا تضاهيه سوى الحقبة المكارثية، انعكس على كوكب الأرض حتى بلغ مواقف دول عانت في ماضيها من مجازر مشابهة مثل اليابان والهند، ووقع علينا ونحن قابعين في منازلنا، وكأنه ينقصنا، في منطقتنا التي تغيب عنها الحريات، المزيد من الحصار، فصرنا نكتب كالمعاتيه على السوشيال ميديا ونحن نُسمي الأشياء بغير أسمائها، ونفصل حروف الكلمة الواحدة عن بعضها البعض لتمر تحت أعين الرقيب، ليظن من يقرأ ما كتبنا أننا مجموعة من المهاويس أو المختلين عقليًا.
لا أعلم مدى الأسوأ الذي سوف يسوقه إلينا حكم الإمبراطور الصهيوني الجديد، بل إن الأمر أثار فضولي بعض الشيء، فخيالي لا يعرف ما هو أسوأ من ذلك سوى قصة "أصحاب الأخدود" مثلًا.
أسئلة مطروحة حول مدى مصداقية العملية الديمقراطية الأمريكية بعد انكشافات حرب غزة، وعن حقيقة الخلاف والاختلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين، وهل هناك تباين جذري يسترعي انتباه معذبي الأرض وعشمهم وشعورهم بالخسارة أو الفوز مع ما تؤول إليه مجريات الانتخابات الأمريكية؟ أم أن الحزبين وجهين لعملة واحدة، يؤديان أدوارًا في خطة معدة مسبقًا؟
فبعد أن شارك الديمقراطيون في مذبحة تاريخية كسرت روح سكان كوكب الأرض، ودفعت الكثير ممن في هذه المنطقة للكفر بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يأتي الوجه الجمهوري ليستكمل خطة التهجير، ويساوم الضحية دامية الوجه والجسد على ما بقي من حياتها لتهجر وطنها ومنشأها. وسيرضى الناس بالتهجير، فيكفيهم ما عانوه، ولقد أثبتوا حسن صمودهم، ولم يبيعوا أرضهم، وصبروا حتى اشتكى الصبر منهم كما يقول الموال المصري.
فلماذا حين يتشكك الناس في العملية الديمقراطية الأمريكية تحديدًا، يُتهمون بالشعبوية والغوغائية وتسطيح الأمور وبأنهم أصحاب عقلية تآمرية؟
تآمرية؟ تحضرني هنا مقولة محمود الجندي الشهيرة في فيلم ناجي العلي: مالك؟ ما أهو!
المؤامرة تكون سرية، أما استهدافنا واستهداف أراضينا ومقدراتنا ودولنا وتاريخنا ومجموعتنا البشرية يحدث علنًا بلا مواربة.
مالك؟ ما أهو!
ليست لدي إجابات عن كل هذه الأسئلة. لكنني أعلم بأن أصحاب التوقعات ما هم إلا أنبياء كذبة.