رغم الحيوية والانفتاح التي تتمتع بها السياسة الأمريكية، فإن التحدي الذي يواجه قيادات الحزب الديمقراطي، والقائمين على حملته، قد لا يختلف كثيرًا عما قد يواجه المسؤولين المحيطين بأي رئيس آخر في أي بلد آخر. مَن الذي يستطيع أن يصارح الرئيس؛ "سيدي، لقد تدهورت صحتك كثيرًا، وفقدت تركيزك الذهني، وندعوك للتنحي لمصلحة البلد".
ولكن عندما يتعلق الأمر بكفاءة الرئيس الذهنية والصحية، كما هو الحال مع بايدن الآن، فإن مهمة نقل الحقيقة بصراحة تصبح أكثر صعوبة، ويتداخل فيها الشخصي مع العام. الصحافة ووسائل الإعلام، بما فيها المقربة من الديمقراطيين مثل نيويورك تايمز وCNN، تسابقت للتحذير من أن فرص الاحتفاظ بالبيت الأبيض باتت منعدمة بعد أداء بايدن في المناظرة، وأنه من الضروري أن يتنحى فورًا من أجل "إنقاذ" أمريكا من ترامب المتهور الذي يهدد علنًا أنه سيقوم فور توليه منصبه بالانتقام من كل من دبروا له القضايا والاتهامات على مدى السنوات الأربع الماضية.
ولكن يبقى من الصعب أن يسمع بايدن نفس هذا الكلام من دائرته المقربة.
في مصر والعالم العربي عانينا كثيرًا من ذات المشكلة، وربما كانت أكثر الحالات فجاجة تلك المتعلقة بالرئيسين الراحلين حسني مبارك وعبد العزيز بوتفليقة. والمشكلة هنا لا تتعلق بالقدرات الجسدية للرؤساء مثل القدرة على المشي أو الحركة بسرعة أو أمراض تقليدية تأتي مع تقدم العمر، ولكن التحدي الأكبر هو الاحتفاظ بالذهن حاضرًا والأفكار واضحة والقرارات سليمة.
كان عمر مبارك 83 عامًا عندما وقعت ثورة 25 يناير، قضى منها 30 عامًا كاملة في الحكم. لكن بعد الوفاة المفاجئة لحفيده المقرب، تناقل المقربون منه أنباءً عن زهده في منصب الرئاسة وعدم اهتمامه بإدارة شؤون البلد، وأنه ترك الأمر برمته لنجله جمال وفريقه في لجنة السياسات، بجانب معاناته بالفعل من بعض المشاكل الصحية مثل السمع وخشونة الركبة وأمور أخرى.
وكانت أول معالم قرب انهيار النظام من وجهة نظري هي تلك الصورة الشهيرة التي وصفها رئيس مجلس إدارة الأهرام السابق بـ"التعبيرية"، عندما استخدمت الصحيفة الأكثر رصانة في مصر الفوتوشوب لتحريف صورة مبارك أثناء تواجده في البيت الأبيض في العام 2009 بصحبة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما والعاهل الأردني الملك عبد الله.
كان لدى مبارك صعوبة في صعود السلالم القليلة في الطريق لحديقة البيت الأبيض، ولم يكن هناك من يقدم له يد العون، فانتهى الأمر به يسير في المؤخرة، وهو ما لا يُرضي القائمين على صنع صورة الرئيس. وبالتالي عُدِّلت الصورة لوضع مبارك في المقدمة، مع عنوان مفاده بأن مصر تقود مسيرة السلام.
كانت هذه الصورة كارثة لي على الصعيد الشخصي، وكنت حينها أعمل مراسلًا صحفيًا في الولايات المتحدة. لم أسلم من سخرية الزملاء الصحفيين، بجانب التقارير الكوميدية التي بثتها بعض القنوات الأمريكية تحت عنوان where is Mubarak/أين مبارك؟ مع تعديل أماكن وجوده في الصورة ما بين المقدمة والمؤخرة والمنتصف وحتى في داخل جيب جاكيت أوباما.
ولكن سواء بسبب تدهور صحة الرئيس الراحل، أو حتى في أعقاب ثورة 25 يناير وصمود ملايين المصريين في ميدان التحرير، لم يكن من السهل مطلقًا على المقربين من مبارك وحراس المعبد أن يسمحوا لأحد أن يدخل غرفته ويقول له صراحة: عليك التنحي سيادة الرئيس.
في الحالة الجزائرية، كان الوضع أكثر فجاجة وانعكاسًا حقيقيًا لطريقة تحول من يشغل منصب الرئيس إلى مجرد واجهة للدائرة الصغيرة المحيطة به. فعندما قرر بوتفليقة الترشح لفترة رابعة عام 2014، وهو في الـ78 من العمر، كانت قدرته على الحركة منعدمة، وارتعشت يده وهو يضع صوته في الصندوق جالسًا على كرسي متحرك، ولم يسمعه أحد ينبس بكلمة واحدة.
كان المسؤول عن إدارة شؤون الجزائر شقيقه سعيد بوتفليقة، ومجموعة من الجنرالات ورجال الأعمال المقربين. واستمر الأمر على هذا النحو حتى جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، مع إعلان المستفيدين من بوتفليقة ترشحه لفترة رئاسية خامسة في 2019، رغم أنه كان غائب الذهن بشكل كامل وغير قادر على اتخاذ أي قرار بكل تأكيد.
خرج الشعب الجزائري منتفضًا في الشوارع. فحتى لو كان منصب الرئاسة مجرد واجهة والبلد يديرها جنرالات لا تعرف أسماؤهم الحقيقية، فإن إعادة ترشيح بوتفليقة مجددًا شكّل استهانة كبيرة بالجزائريين، ولم يشفع له تاريخه النضالي الطويل، وحقيقة أنه كان أحد أهم قادة ثورة التحرير من الاحتلال الفرنسي.
مجرد "ليلة سيئة"؟
سارع القائمون على حملة الرئيس الأمريكي بايدن والمقربون منه إلى الدفاع عنه، وقالوا إن مناظرة الخميس الماضي، هي مجرد "ليلة سيئة" للسياسي المحنك، وأنه ما زالت أمامه فرصة لتحسين موقفه في الشهور الأربعة القادمة.
ولكن في الدوائر المغلقة المحيطة بالرئيس، ما يزال البحث جاريًا عن شخصيات قادرة على مصارحته بأن حالته الصحية والذهنية الراهنة لا تسمح له بخوض المنافسة في نوفمبر/تشرين الثاني، ولا البقاء في منصبه أربع سنوات إضافية إذا نجح.
ولكن أيًا كان الشخص المطلوب منه إبلاغ الرئيس بأنه فقد قدراته، فإن مهمته ستبقى شديدة الصعوبة، ليس فقط لأن التقاليد المعتادة في الولايات المتحدة هي أن الرئيس شخصيًا فقط هو من يجب عليه اتخاذ هذا القرار، ولكن أيضًا مع الوضع في الاعتبار تاريخ بايدن الطويل والخدمات التي قدمها لبلاده من خلال عضويته في مجلس الشيوخ منذ 1973.
سيكون خروج بايدن بعد أدائه المزري في مناظرة الخميس مهينًا للغاية لرجل يقول المقربون منه إنه "طيب القلب." ولكن خطر فوز ترامب ربما يدفع هؤلاء المقربين إلى البحث عن "خروج مشرف"، ربما يكون ممكنًا.