تكمن المفارقة الكبرى عند الحديث عن الخطة الموضوعة من أجل حل "المعضلة الفلسطينية" والمعروفة باسم صفقة القرن، أنها لا تسعى للنجاح؛ فمن وضعوا الخطة يعلمون أن أي قيادة سياسية للفلسطينيين لا تملك التنازل عن القدس أو حق عودة اللاجئين أو إقامة دولة مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967، ما يعطي انطباعًا بأنهم يراهنون على احتمال آخر.
فهذه الصفقة التي تسعى لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الأبد، تقوم على منح إسرائيل إطارًا قانونيًا يمكن من خلاله الحصول على اعتراف دولي بسيادتها على الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإعفائها من أي التزامات قانونية تجاه حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وفي المقابل فإنها لا تمنح الفلسطينيين سوى وعودًا بمنحٍ وقروض مالية ومجموعة من الأراضي المفتتة والتي سيتم الربط بينها بنفق تحت الأرض.
ورغم أن هذه الصفقة تتزامن مع محاكمة مرتقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام مجلس الشيوخ وأزمة سياسية عميقة في إسرائيل بعد حل الكنيست الإسرائيلي لنفسه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بعد فشل المشاورات الساعية إلى تشكيل حكومة، إلا أنها تأتي ضمن سياق أكبر من ذلك كله، سياق يتعلق بحالة التفكك والتشظي التي تمر بها دول المنطقة.
فبينما باتت دول كالعراق وسوريا ولبنان خارج الخدمة، يمر الأردن بمرحلة توترٍ داخلي مكتوم بسبب أوضاعٍ اقتصادية ضاغطة، وتنشغل مصر على ثلاث جبهات؛ حرب إقليمية في ليبيا وتوتر أمني في سيناء ومعركة مائية مع إثيوبيا. أما دول الخليج فمنقسمة بسبب الأزمة مع قطر والمخاوف من خطر إيراني في ظل انسحاب أمريكي محتمل من المنطقة.
في كتابه The Ethnic Cleansing of Palestine (التطهير العرقي لفلسطين)، يختار إيلان بابيه، وهو أحد أبرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد، أن يصف الفلسطينيين بمصطلح indigenous (السكان الأصليين)، وهو نفس الوصف الذي يستخدمه المؤرخون في الإشارة إلى القبائل التي سكنت أمريكا الشمالية وأستراليا قبل التطهير العرقي الذي مارسه المهاجرون الأوروبيون بحقهم.
تشتبك الفرضية الأساسية للكتاب مع أن نزوح اللاجئين الفلسطينيين/ السكان الأصليين في أعقاب حرب 1948 كان تطهيرًا عرقيًا ممنهجًا، وليس مجرد نزوح للمدنيين بسبب ظروف الحرب. فطرد الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة كان -وفقًا للكتاب- هدفًا للحركة الصهيونية وضرورةً لتأسيس الدولة الجديدة ذات "الهوية اليهودية".
بالإضافة إلى جوهر فكرتها كدولة يهودية لليهود فقط -وإن اضطرت لتوطين جزء من السكان الأصليين- فإن إسرائيل هي آخر مشروع استعماري غربي في العالم اليوم، بعد انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أوائل تسعينيات القرن الماضي. وما تحاول فعله إسرائيل، باعتبارها نموذج يسير عكس حركة التاريخ، هو إطالة أمد وجودها كدولة يهودية فقط من خلال مماطلة الفلسطينيين/ السكان الأصليين عبر مشاريع تسوية وخطط سلام خاوية، على أمل أن ينشغلوا السكان الأصليون في اقتتالٍ داخلي قد يؤدي إلى انقراضهم أو اختفائهم كما حدث في المشاريع الاستعمارية الأخرى خلال القرن الثامن عشر.
لهذا السبب تحاول إسرائيل التعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم جزءًا من كيانٍ أكبر وهو الإثنية التي تحمل اسم "العرب". وهي فكرة لا تبتعد كثيرًا عن رؤية القوى الاستعمارية القديمة للشعوب الناطقة بالعربية في المنطقة منذ القرن الثامن عشر وحتى مرحلة تقسيم خريطة المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبالتالي يمكن نقل حق عودة اللاجئين/ السكان الأصليين إلى دول وكيانات عربية إقليمية بعد الحصول على موافقات ممثلي تلك الإثنية، والمقصود هنا بالطبع الحكومات العربية.
من أجل ذلك تضمنت الخطة بندًا ينص على اعتبار اليهود الذين هاجروا من الدول العربية والإسلامية "لاجئين طردوا منها ولجأوا لإسرائيل"، وهو ما يمنح إسرائيل -بالتبعية- الحق في مطالبة الدول العربية والإسلامية بتعويضات عن ممتلكاتهم التي فقدوها في بلادهم الأصلية، وكذلك عن التكلفة المالية التي تكبدتها في سبيل استقبالهم.
لكن الصفقة التبادلية تستند إلى أن "عدد اللاجئين اليهود يساوي تاريخيًا عدد اللاجئين الفلسطينيين". وبذلك، يصبح تخلي إسرائيل عن "حقها" في التعويضات "أمرًا واردًا" في حال وافقت الدول العربية والإسلامية على توطين اللاجئين الفلسطينيين والاعتراف أمام المجتمع الدولي بانتهاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأبد.
ولكن في المقابل، فإن المزايا المالية التي عرضت ضمن صفقة القرن ليست "مجزية" بما يكفي كي تخاطر حكومات الجوار بالانخراط فيها كممثلين عن "الإثنية العربية"، إلى درجة الموافقة على الاعتراف بيهودية إسرائيل وعاصمتها القدس، وبشرعية سيادتها على الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإعفائها من أي التزامات خاصة بعودة اللاجئين "العرب" إلى أراضيهم.
وتتضمن الخطة الأمريكية توزيع 50 مليار دولار من القروض والمنح والاستثمارات، نصيب الضفة الغربية وقطاع غزة منها 27.8 مليار، و9.1 مليار دولار لمصر، و7.3 مليار دولار للأردن، و6.3 مليار دولار للبنان.
وبعيدًا عن الوضع السياسي المتشابك في لبنان، فإن قبول الجانب الأردني لهذه الصفقة يعني تعرّض المملكة لموجة هائلة من الاضطرابات الأمنية والسياسية، وهو ما لا تستطيع القيادة الأردنية المجازفة به. وبالتالي، يمكن بسهولة توقع أن صفقة ترامب هذه تعرف طريقها جيدًا نحو الفشل.
يراهن القائمون على وضع هذه الخطة على تراجع القضية الفلسطينية كأولوية لدى الشعوب العربية بسبب الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية التي تفجرت في المنطقة منذ 2011. وبالتالي فهم يعتبرون هذه اللحظة لحظة استثنائية تمر بها المنطقة قد تسمح بتمرير أفكار لم يكن واردًا طرحها حتى في أزمنة سابق.
ولكن في النهاية، فإن هذه الخطة/ الصفقة قد تؤدي إلى انفجار الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في انتفاضات شعبية قد تتطلب حملات عسكرية إسرائيلية لمواجهتها، لكن المؤكد أن الإعلان عن هذه الصفقة سيكون عنوانًا لمرحلة جديدة من كفاح الفلسطينيين للحصول على حقوقهم المشروعة.