هو بالتأكيد ليس الشرق الأوسط الجديد الذي بشَّر به ثعلب إسرائيل وأحد مؤسسيها شيمون بيريز بعد توقيع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل ثلاثين عامًا، من أجل أن يتمكن سكان قطاع غزة من تصدير الزهور إلى العالم، وتتعاون دول المنطقة لتقديم نموذج جديد من التعايش والتنمية الاقتصادية، باستغلال ما لدى إسرائيل من تفوق تكنولوجي، وما يمتلكه العالم العربي من إمكانيات مالية وبشرية.
كان كذب بيريز ورفاقه حينها مكشوفًا لكل ذي بصيره، وكان الغرض الحقيقي من تلك البشارة الكاذبة هو تمييع وتجاوز مطلب الفلسطينيين بوطن مستقل، وإقناعهم بأن يستبدلوا به الرخاء الاقتصادي والعيش في النعيم الوهمي.
لم يتمكن بيريز، الذي توفي عام 2016 وهو يبلغ من العمر 93 عامًا، من بيع أوهامه، حتى وصلنا إلى "الشرق الأوسط الجديد" الذي نعيشه الآن ولسنوات طويلة قادمة.
شرق أوسط تسوده الفوضى والحروب حتى إعادة ترتيب الأوراق مجددًا، بصيغة لا تتضمن بالضرورة أن تبقى إسرائيل بقرة مقدسة، تمارس الاحتلال والقتل كما تشاء ثم تفلت من المساءلة، بفضل الدعم الذي تلقاه من الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
منذ آخر حروب إسرائيل مع العرب عام 1973، ثم توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل في 1979، تغيرت قواعد اللعبة عمليًا. حيَّدت إسرائيل أكبر دول العالم العربي وصاحبة أكبر جيش يمكن أن يمثل تهديدًا حقيقيًا.
بعد ذلك انفردت إسرائيل بدول الطوق المحيطة بها، تشن حروبًا منفردةً فتدمّر ما تشاء من لبنان، وتوجّه ضربات متكررة لسوريا، من دون أن تلقى مقاومة عسكرية أو تدفع ثمنًا سياسيًا، بسبب الأسلحة والغطاء الدبلوماسي اللذين تحصل عليهما من واشنطن.
قواعد جديدة لإقليم قديم
ربما تكون أهم نتائج هجوم السابع من أكتوبر، أنه رسخ أحد معالم الشرق الأوسط الجديد الذي لم تَعُد إسرائيل تواجه فيه جيوشًا عربيةً تقليديةً، بل مجموعات مسلحة متفرقة قادرة على إلحاق خسائر فادحة بها، من دون الحاجة إلى مقاتلات F35 أو الدبابات المصفحة أو نظم دفاع جوي تكلف عشرات الملايين من الدولارات.
فقط المطلوب تخطيط جديد ومعلومات استخباراتية وأسلحة منخفضة التكاليف، ومقاتلون لديهم عقيدة قوية تدفعهم لخوض معارك، يرونها من أجل تحرير الوطن أو الشهادة في سبيل الله، مع جنود إسرائيليين مدججين بالأسلحة والأحمال الثقيلة يحاربون دائمًا في أراضٍ غريبة، وسط استهجان وإدانة معظم دول العالم التي لم تعد تتحمل مغامرات ذلك الحليف المثير للمتاعب دائمًا وأبدًا.
ومن المؤكد أن الهجمات المثيرة بين إسرائيل وإيران في بداية الشهر الحالي، وضعت لبنة جديدة في معالم الشرق الأوسط الجديد، إسرائيل فيه ليست محصنة من الهجمات الصاروخية بعيدة المدى، ولم تعد الطرف الوحيد القادر على شن هجمات خارج أراضيه باستغلال ما لديها من أسلحة متقدمة متفردة.
في هذا السياق، لا يبدو مستغربًا الاستعراض اللفظي المبالغ فيه من قبل نتنياهو وقيادات جيشه، وهم يؤكدون تمسكهم بحقهم المنفرد باتخاذ القرارات المتعلقة بأمنهم، وأنهم فقط يستمعون للنصائح التي تُقدَّم من الأصدقاء لكنهم سيفعلون ما يرونه هم ضروريًا.
ورغم أنَّ هذا التقدير صمد نسبيًا في حالة حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة منذ أكثر من ستة أشهر، يواصل نتنياهو ووزراؤه الدواعش الإرهابيون ممارسة أبشع أنواع القتل والتجويع، رغم الإدانة الدولية الواسعة بما في ذلك من شركائهم في الإدارة الأمريكية الحالية، فإنَّ قادة إسرائيل اضطروا للانصياع لرغبة إدارة الرئيس جو بايدن بعدم توسيع المواجهة مع إيران وجرهم نحو حرب لا يريدونها.
وبينما لا يمكن الثقة بشكل قاطع في الروايات الرسمية الصادرة من إسرائيل أو إيران بشأن ما ألحقته الضربات المتبادلة من أضرار، فإن المؤكد أن الهدف الإيراني من هذه الضربات قد تحقق، وهو إيصال الرسائل بأنَّ هناك قواعد جديدة للعبة.
أكدت الصواريخ والطائرات المسيرّة الإيرانية التي انهمرت على إسرائيل وأربكت جيشها، خطأ حسابات قادتها بأن طهران ستتعامل مع استهداف قنصليتها في دمشق كما فعلت في الحوادث السابقة التي استهدفت فيها إسرائيل عسكريين إيرانيين بارزين في سوريا. أما الضربة التي لم تتبنَّها تل أبيب رسميًا، فهدفت إلى التأكيد على قدرة إسرائيل على الاقتراب من أهم منشأة نووية إيرانية في نطنز بالقرب من أصفهان، في العمق الإيراني.
من أين يأتي الخطر؟
ولكن ما تدركه إسرائيل والولايات المتحدة جيدًا، أنَّ الخطر الذي تواجهانه من إيران في الشرق الأوسط الجديد لا يتمثل في الصواريخ طويلة المدى القادمة من طهران فحسب، ولكن من حلفائها الذين يتلقون دعمها العسكري والمادي وهم على خط المواجهة المباشرة مع الكيان المحتل؛ حزب الله اللبناني والحلفاء المخلصون في دمشق والعراق، حيث أثبتت الميليشيات هناك قدرتها على إطلاق صواريخ تصل إلى إيلات.
هل تعلمت المؤسسة الأمريكية أنها لمواجهة نفوذ إيران يجب أن تضغط على إسرائيل؟
ومهما استعرض نتنياهو وبالغ في قدرات إسرائيل العسكرية، فهو يعي ومعه واشنطن، أنه غير قادر عمليًا على خوض حرب حقيقية ضد إيران، لأنه ببساطة لا توجد جبهة مباشرة بينهما. وإسرائيل في النهاية ليست أمريكا، وجيشها لا يضم مئات الألوف ولا تملك حاملات طائرات تمكنها من حصار سواحل إيران وتهديدها بشكل حقيقي.
كما أنَّ طهران تعلمت جيدًا من سلوك إسرائيل في ضرب المشاريع النووية للعراق وسوريا قبل سنوات طويلة، وتعمدت أن تكون منشآتها النووية محصنة ومتفرقة داخل أراضيها، فلا يمكن استهدافها بضربة واحدة أو عدة ضربات محدودة.
وكان لافتًا أن الموقف الرسمي الذي تبنته إدارة بايدن منذ التصعيد الإسرائيلي الإيراني الأخير، وكررته مرارًا، أنها لا تسعى ولا ترغب خوض حرب ضد إيران، ولن تشارك في أي رد إسرائيلي على الهجوم.
فبينما لم تؤدِّ حرب الإبادة في غزة إلى ارتفاع أسعار النفط، فعلت الصواريخ الإيرانية ذلك، لترتفع أسعار النفط وتتدهور مؤشرات البورصات العالمية، مع الخشية من أن يكون القادم أسوأ لو تطورت المواجهة بالفعل بين إسرائيل وإيران مما سيضطر الولايات المتحدة في النهاية إلى التدخل لحماية مصالحها.
وبجانب اشتعال جبهات الدول المجاورة لإسرائيل، حيث تكمن الميليشيات الموالية لإيران التي ستدفع الثمن المباشر، فإنَّ قدرة طهران على إلحاق الضرر تتجاوز ذلك، لتشمل احتمالات إغلاق مضيق هرمز الشريان الأساسي لمرور النفط المصدر من الخليج، بجانب تهديد دول الخليج نفسها حيث الوجود الإيراني عميق وتاريخي.
وإذا كانت واشنطن تؤكد دومًا لإسرائيل أنَّ قرارها بخوض الحروب وإشعال المواجهات ليس منفردًا على طول الخط، فإنَّ السؤال الآن عما إذا كانت المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة تعلمت الدرس، وأدركت أن الوسيلة الرئيسية لمجابهة نفوذ إيران لو أرادت ذلك فعلًا، من خلال الضغط بنفس الدرجة على إسرائيل لتتوقف عن ممارسة دور الطفل المدلل المثير للاضطرابات والحروب طوال الوقت، وأن تقبل التوصل إلى تسوية نهائية مع الفلسطينيين، ولو من أجل ضمان تماسك الجبهة الأمريكية/العربية التي تولت المشاركة في صد الهجوم الصاروخي الإيراني الذي استهدف الكيان الصهيوني لأول مرة في تاريخه.