بدأت هذا المقال وأنا أنوي أن يكون عنوانه "الفرق بين أن تكون أمريكيًا إسرائيليًا وأمريكيًا من أصول تركية"، بعد رد فعل الإدارة الأمريكية المتخاذل على مقتل الناشطة الأمريكية من أصول تركية عائشة نور إيزجي إيجي برصاصة قناص إسرائيلي في الضفة الغربية، مقارنةً بالتعاطف الواسع الذي حظيت به عائلة الأسير الإسرائيلي-الأمريكي هيرش جولدبرج-بولين الذي قتل في أحد أنفاق غزة نهاية الشهر الماضي بعد أن سقط محتجزًا في يد حماس.
فقد سارع الرئيس جو بايدن ونائبته بالاتصال بأسرة جولدبرج لتقديم التعازي الحارة، وأصدر بيان تهديد ووعيد بملاحقة قياديي حماس وتكليفهم ثمنًا باهظًا لقتلهم مواطنًا أمريكيًا، متجاهلًا الجزء الآخر من هويته، الذي اختاره وأسرته طوعًا، بانتقالهم للاستيطان في فلسطين وتقديم خدماتهم لدولة الاحتلال. وبالفعل لم تمضِ إلا أيام قليلة حتى أحالت وزارة العدل الأمريكية ستة من قادة حماس، بينهم ثلاثة لقوا ربهم، إلى المحاكمة بتهمة الإرهاب وقتل مواطنين أمريكيين.
أما كامالا هاريس، فمنحت بالإضافة إلى الاتصال والعزاء، أسرة جولدبرج التي اكتسبت شهرة واسعة، فرصةً لمخاطبة مندوبي الحزب الديمقراطي في مؤتمرهم نهاية الشهر الماضي، للمطالبة ببذل كل جهد ممكن لإعادة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس إلى بيوتهم. نفس المؤتمر الديمقراطي الذي حُرم الأمريكيون من أصل فلسطيني من الحديث فيه عن معاناة أهاليهم في الأراضي المحتلة وحرب الإبادة الدائرة في غزة.
ولكن عندما أردت الكتابة لتحية روح الناشطة التركية الشابة، التي حركتها مشاعرها الداعمة للعدل والرافضة للاحتلال والعنصرية، ولاستنكار التجاهل الأمريكي الرسمي لمأساتها، وتفسيره بأصولها التركية وديانتها المسلمة، ما يجعلها مواطنة على درجة أدنى، بعد الأمريكيين البيض والأمريكيين اليهود، تذكرت سريعًا مأساة الشابة الأمريكية البيضاء راشيل كوري، ذات البشرة البيضاء والشعر الأصفر والعيون الزرقاء، التي دهس جسدها الهزيل بلدوزر يقوده جندي إسرائيلي وهي تحاول منعه من هدمِ منزلِ فلسطينيٍّ في رفح عام 2003.
21 عامًا مضت على مقتل كوري التي كان عمرها آنذاك 24 عامًا، وحتى الآن لم تتلقَّ أسرتها أي دعوة من البيت الأبيض أو حتى مكالمة عزاء من أي مسؤول أمريكي رفيع. بل لم تدعم أي إدارة أمريكية سعيها الدؤوب لملاحقة الحكومة الإسرائيلية وإجبارها على تحمل مسؤولية مقتل ابنتهم بهذه الوحشية، وذلك بعد أن برأت كل المحاكم الإسرائيلية، بما في ذلك المحكمة العليا عام 2015، سائق البلدوزر ولم تتقدم حكومة الاحتلال ولو حتى باعتذار رسمي.
والد راشيل من محاربي فيتنام القدامى، وهو أمريكي أبيض حتى النخاع يجسد الصورة النمطية عن الأمريكي الأبيض. ومثله كانت ابنته الجميلة الشجاعة التي قضت لياليها في غزة تحكي قصصًا للأطفال الفلسطينيين لتشد انتباههم عن أصوات القصف الإسرائيلي.
ومثل عائشة وراشيل، كان حال مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، الفلسطينية المسيحية التي تحمل الجنسية الأمريكية، وقتلها قناص إسرائيلي آخر بإصابة في رأسها قبل سنتين ونصف السنة. لم تُقِم الإدارة الأمريكية الدنيا وتقعدها كما تفعل لحماية مواطنيها. فشيرين فلسطينية أولًا، ودماؤها أقل قيمة في عرف المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة.
لكن رغم اختلاف الأصول العرقية والدينية، ما بين الإسلام والمسيحية، فإن ما يجمع بين راشيل وعائشة وشيرين، ويدفع الإدارة الأمريكية والجهات الرسمية إلى تجاهلهن والاكتفاء بالإعراب عن "الانزعاج العميق" لمقتلهن، أن كلهن دعمْنَ القضية الفلسطينية ورفضنَ الانحياز الأمريكي الأعمى لدولة الاحتلال العنصري.
فالمقبول والسائد في الولايات المتحدة هو أن تدعم إسرائيل، بل إن مجرد التساؤل والتحفظ على آثار ذلك الدعم المطلق على المصالح الأمريكية نفسها في الشرق الأوسط، كان حتى وقت قريب من قبيل المحرمات في المؤسسات الرسمية، وخاصة الكونجرس حيث يلعب المال دورًا أساسيًا في انتخاب النواب، وكذلك في وسائل الإعلام.
صحيح أن الصورة تغيرت نسبيًا في السنوات الأخيرة مع اهتزاز مكانة إسرائيل المقدسة في الولايات المتحدة كدولة صغيرة محاطة بالأعداء تدافع عن نفسها، مع انتشار صور الفظائع التي ترتكبها بحق الفلسطينيين وتوسع ممارسات الاحتلال العنصرية، ولكن تبقى القاعدة ثابتة حتى الآن بدعم إسرائيل، واعتبارها القاعدة المتقدمة لحماية المصالح الأمريكية.
في المأساة الدائرة حاليًا في غزة وما تلاها من احتجاز حركة حماس عشرات المحتجزين الإسرائيليين، يتركز الاهتمام في الإعلام الأمريكي على سبعة منهم يحملون الجنسية الأمريكية، وتتعامل معهم الإدارة الأمريكية باعتبارهم مواطنين أمريكيين أولًا. وطوال شهور الحرب التي تقترب من العام، كان بايدن وكبار مسؤوليه يلتقون أسرهم بانتظام من دون الالتفات لحقيقة أنهم يحملون جنسية دولة أخرى ويخدمون في جيشها ويطبقون قوانينها العنصرية. لكن هذه قضية جانبية، والخطوط الفاصلة بين الدولتين عمليًا غير موجودة.
بل إنه مع تعثر المفاوضات الحالية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل السجناء بين حماس وإسرائيل، بسبب أضحوكة تمسك رئيس الوزراء الإسرائيلي بالبقاء في محور فيلادلفيا، باعتباره "أمرًا وجوديًا" لحماية أمن إسرائيل التي تمتلك قنبلة نووية، ترددت تقارير عن ضغوط تمارسها أسر هؤلاء الأمريكيين-الإسرائيليين على إدارة بايدن للتوصل إلى اتفاق مستقل مع حماس، للإفراج عن أربعة محتجزين أمريكيين-إسرائيليين يُعتقد أنهم لا يزالون على قيد الحياة.
وبجانب الإقرار بأن ذلك معناه فشل إدارة بايدن في ممارسة أي ضغط على نتنياهو، الذي ينتظر بشغف فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة، فإن هذه الإدارة لا تملك ما تقدمه لحماس لتقبل مثل هذا العرض المفترض. وسيبقى مصير الأمريكيين-الإسرائيليين الأربعة معلقًا في يد نتنياهو ووزرائه المتطرفين، تمامًا كبقية السجناء الإسرائيليين الذين لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة لو استمر جيش الاحتلال في قصفه العشوائي لمدن وأحياء غزة.
ولكن بالنسبة لراشيل وعائشة، فإن واشنطن تعتبرهما "خسائر جانبية"، تنتظر نتائج التحقيقات الإسرائيلية "الشفافة" في مقتلهما، مع الإشارة إلى ضرورة مراعاة ظروف التوتر والمواجهة القائمة في الضفة الغربية، وقيام مجموعات المتظاهرين بإلقاء الحجارة على قوات الاحتلال التي "تدافع عن نفسها" بالرصاص الحي.
الفارق الفاضح هنا بين أن تكون أمريكيًا داعمًا لإسرائيل، كما تتوقع منك الإدارة، وأن تكون أمريكيًا تؤيد الحق وترفض الظلم والاحتلال العنصري لفلسطين، حيث لن تنال اهتمام بايدن وبلينكن، ولن يسعى أحد لتحقيق العدالة لمقتلك، أو يعزي عائلتك حتى.