من المؤكد أن الولايات المتحدة كانت على اتصال دائم مع الإيرانيين عبر وسطاء وبشكل مباشر، منذ الاستهداف الإسرائيلي لعسكريين من الحرس الثوري في القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر الجاري، أملًا في تجنب الحرب الموسعة، وهو الهدف الذي سعت له واشنطن بكل إصرار منذ أن أطلقت إسرائيل حرب الإبادة الجماعية والانتقام من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ردًا على هجوم السابع من أكتوبر.
وقبل الرد الإيراني غير المسبوق بنحو 200 مسيَّرة و100 صاروخ بعيد المدى انطلق معظمها من الأراضي الإيرانية تجاه إسرائيل، تناقلت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية أنباء محاولات إقناع الإيرانيين بعدم الرد مباشرةً على الهجوم الإسرائيلي، الذي لم يكن أول استهداف إسرائيلي لضباط إيرانيين في سوريا، وتكتفي بهجمات تشنها أذرعها في لبنان أو اليمن، ضمن المناوشات التي تلت حرب إسرائيل على غزة.
ولكنَّ النظام الديني المتشدد الحاكم في إيران، الذي اعتاد أنصاره ترديد شعار "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل" منذ نجاح الثورة الإسلامية قبل 45 عامًا، وجد غالبًا أنَّ عدم الرد المباشر على الهجوم الإسرائيلي على قنصليته في دمشق سيسبب له حرجًا بالغًا في الداخل وسيهز هيبته في الإقليم، خصوصًا لدى حلفائه في محور المقاومة الذين لم يكونوا ليمانعوا في تولي المهمة نيابةً عن طهران.
لذلك، كان الخيار البديل الذي توافق عليه الأمريكيون والإيرانيون هو هذا الرد الذي بدا مسرحية إلى حد ما، مع تداول أنباء بداية الهجوم في مساء السبت بطائرات ستستغرق عدة ساعات لتصل إلى المدن الإسرائيلية، فيما تعارفت الجيوش على التخطيط سرًا إذا كان غرض هجماتها إلحاق ضرر حقيقي بالعدو.
الإعلان عن أنَّ المسيَّرات الإيرانية "في الطريق" إلى دولة تتمتع بشبكة دفاع جوي متطورة، وإطلاق الصواريخ التي يستغرق وصولها دقائق في موعد تصل فيه بالتزامن مع المسيرات، جعل الكثير من المعلقين يصف الأمر بـ"المسرحية" المعدة سلفًا والمتفق عليها بين الأمريكيين والإيرانيين.
لن يأتي الرد الإسرائيلي قريبًا لأن نتنياهو أدرك أنه غير قادر على الاستمرار في تجاهل رغبات راعيه الأمريكي
شخصيًا لا أعتقد أنَّ في الأمر "مسرحية"، لأنَّ إسرائيل دفعت ثمنًا باهظًا لهذا الهجوم، الذي كسر إحدى المُسلَّمات التي فرضتها الدولة العبرية على الدوام، بردع العدو قبل أن يتمكن من الهجوم. وفيما عدا محاولة صدام حسين المتواضعة لاستهداف إسرائيل بالصواريخ مطلع التسعينيات، لم يتعرض الكيان الصهيوني عمليًا لأيِّ هجوم عسكري خارجي واسع، منذ أن باغته الجيشان المصري والسوري في أكتوبر 1973.
ولكنَّ التوافق المؤكد "غير المعلن" بين الأمريكيين والإيرانيين كان عدم السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باستغلال هجوم "رد الشرف" الإيراني لتحقيق مكاسب سياسية أو توسيع الحرب الإقليمية، وأوضح دليل على ذلك هو تأكيد البيت الأبيض أنَّ واشنطن لن تشارك في أي عملية عسكرية انتقامية إسرائيلية أخرى ضد إيران، خاصة بعدما تأكد أنَّ الهجوم الإيراني لم يُسبب خسائر بشرية.
ورغم تهنئة بايدن لإسرائيل على تصديها الناجح للهجوم الإيراني، فإنه أكد أيضًا على الطبيعة "الدبلوماسية" للرد الذي سيبحثه مع قادة الدول السبع، في الاجتماع الذي سيعقده معهم عبر الفيديو كونفرانس.
ومن استبعاد قدرة مجلس الأمن الدولي على إدانة الهجوم الإيراني بسبب الموقف الروسي الداعم لإيران في اعتبار ما قامت به ردًا مسؤولًا على استهداف قنصليتها في دمشق، جاءت مشاركة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ومعهم الأردن في إسقاط المسيّرات والصواريخ الإيرانية، في سياق حرمان نتنياهو من حجة اضطراره للرد على هجوم سبب أضرارًا بالغةً، ما يوسع نطاق الحرب مع تلويح إيران بنيتها الرد.
المسؤولون الإسرائيليون سارعوا إلى التصريح بأنَّ المواجهة مع إيران "لم تنتهِ بعد"، وأنهم سيردون على الهجوم الإيراني. ولكنَّ الطريف أنّ تصريح "سنرد في الوقت والزمان المناسبين"، الذي اعتدنا سماعه من المسؤولين العرب في أنظمة الصمود والتصدي، على رأسها النظام السوري، مع كل هجمة إسرائيلية، جاء هذه المرة على لسان عضو مجلس الحرب الإسرائيلي بيني جانتس.
غالبًا لن يأتي هذا الرد قريبًا، لأنَّ نتنياهو بات متيقنًا أنه لن يتكمن من الاستمرار في الاستهانة برغبات راعيه الأمريكي، لأنه ببساطة غير قادر على خوض الحرب منفردًا ضد إيران في ضوء حاجته الدائمة إلى السلاح الأمريكي والغربي المتطور.
وما يبدو حتى الآن، أنَّ محاولة نتنياهو للهروب من جرائم حربه في غزة باءت بالفشل، سواء بقتل العسكريين الإيرانيين في دمشق، أو باغتيال أبناء وأحفاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في غزة، قبل يومين من الهجوم الإيراني.