في محاولة لإنقاذ نفسه من فخ خسارة الاستحقاق الرئاسي الذي اقترب موعد حسمه، إثر فشله في تطويق النار المشتعلة في الشرق الأوسط، بدأ الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته تنفيذ خطة تستهدف ضرب العصفورين اللذين يمثلان طرفي الصراع بحجر واحد.
منذ بداية الحرب، تسعى الولايات المتحدة إلى إلحاق الهزيمة بحركة حماس وشركائها، ليس من باب دعم الحرب الانتقامية التي تخوضها حليفتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وحسب، بل أيضًا لأن المقاومة الفلسطينية المسلحة أفسدت على واشنطن استراتيجيتها الرامية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بتشجيع التطبيع الخليجي الإسرائيلي وتشكيل حلف عربي-عبري ضد إيران، وبدأت تنفيذها قبل هجوم السابع من أكتوبر.
قدمت واشنطن للدولة العبرية كل أنواع الدعم العسكري والسياسي، وأقامت منذ بداية الحرب جسرًا جويًا شمل أكثر من مائتي طائرة محملة بالأسلحة والمركبات المصفحة، وعشرات آلاف القنابل والذخائر الهجومية والدفاعية، مستندة في ذلك إلى قواعد الطوارئ لتجاوز موافقة الكونجرس.
لم تكتفِ إدارة بايدن في دعمها العسكري لإسرائيل بالسلاح والعتاد، بل تجاوزته بالمشاركة العملياتية، سواء بمد جيش الاحتلال وأجهزته بالمعلومات الاستخبارية ووضع الخطط الهجومية، وفي بعض الحالات بالمشاركة الميدانية، وهو ما وضح في عملية تحرير الرهائن الأربعة الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم حماس في مخيم النصيرات.
حرب الإرادات
نفي أمريكا الرسمي، التي احتفل رئيسها بتحرير الرهائن في مؤتمر صحفي مع نظيره الفرنسي في باريس، لمشاركة أي قوات في عملية النصيرات الدموية التي خلفت مئات الشهداء والمصابين، لا يعفيها من دماء الأبرياء التي سالت في النصيرات. فوفق وزير الخارجية الأمريكي في مقابلته مع الجزيرة الأسبوع الماضي، أمدَّت الولايات المتحدة إسرائيل بمعلومات استخباراتية من بينها تحديد مكان الرهائن. فيما كشفت نيويورك تايمز أنَّ واشنطن قدمت خلال العملية معلومات لوجستية للقوات الإسرائيلية، التي استخدمت أيضًا الرصيف الأمريكي العائم في أكثر من مرحلة من مراحل العملية.
بدأت ضغوط بايدن على حكومة نتنياهو إما لإرغامها على وقف الحرب ولو مؤقتًا أو تفكيكها
سياسيًا، بادرت الولايات المتحدة بعد طوفان الأقصى مباشرة بتقديم كل أنواع الدعم لإسرائيل، زار بايدن تل أبيب بعد أيام قليلة من بدء الحرب، كما أعلن لاحقًا أنه، وباعتباره صهيونيًا، فلن يتخلى عن "الدولة اليهودية الوحيدة في العالم"، وكرر العبارة ذاتها في أكثر من مناسبة، متبنيًا السردية الإسرائيلية الكاذبة لهجوم السابع من أكتوبر وعمل على ترويجها رغم نسفها من خلال تحقيقات وتقارير نُشرت في وسائل إعلام أمريكية وغربية.
منح الرئيس الأمريكي الغطاء الدبلوماسي للحكومة الإسرائيلية وحشد لها حلفاءه في الغرب، لتكمل حرب الإبادة أملًا في أن تحقق "النصر المطلق" على الشعب الفلسطيني الصامد ومقاومته الباسلة، وعرقل مجلس الأمن عن التحرك لإدانتها أو تعطيلها عن إتمام مهمتها في دك القطاع وتحويله إلى مكان غير صالح للحياة، حتى يكسر شوكة الشعب الفلسطيني ويؤدبه على احتضانه فصائل المقاومة.
استخدمت الإدارة الأمريكية كل وسائل الضغط على الأنظمة العربية التي تكره حماس والمقاومة بشكل عام، لتخرج من معادلة الصراع، وتسهّل على إسرائيل تحقيق أهدافها التي أعلنتها في بداية العدوان، وزع بايدن الرشى والوعود ولم يخل الأمر من التهديدات المباشرة وغير المباشرة، حتى توقف الدعم الرسمي العربي للشعب الفلسطيني عند بيانات الإدانة والشجب أو بعض التحركات الدبلوماسية التي يعلم الجميع أنها لن تثمر عن أي نتيجة.
لكن مع طول أمد الحرب، وزيادة الاحتقان الشعبي في الغرب والولايات المتحدة، ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية واستشعار بايدن بأنَّ استمرار الحرب بات يمثل خطرًا عليه، بدأ محاولة لجم حكومة نتنياهو التي يرى أنها تضر بموقفه وبسمعة بلاده كما تهدد مستقبل الدولة اليهودية، حامية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
من هذا المنطلق، بدأت ضغوط بايدن وفريقه على الحكومة الإسرائيلية، في محاولة إما لإرغامها على وقف الحرب، ولو مؤقتًا، حتى يعبر المرشح الديمقراطي عتبة الاستحقاق الانتخابي، أو تفكيكها واستبدال حكومة موالية بها، وهو ما فطن له نتنياهو الذي يدرك جيدًا أن مصيره مرتبط ليس بتحقيق "النصر المطلق" على حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة وحسب بل أيضًا بهزيمة بايدن، ليثبت قوته أمام الإسرائيليين، بقدرته على تحدي البيت الأبيض والوقوف في وجه الضغوط الدولية، حسب السفير الإسرائيلي السابق لدى أمريكا ألون بينكاس.
بينكاس أشار في تصريحات لصحيفة هآرتس إلى أن نتنياهو مهتم بتحقيق "النصر الكامل" على الرئيس بايدن وليس على حماس، مشددًا على أنه في حال نجاحه بمسعاه، فإن ذلك قد يكون تأشيرته للبقاء في الحكم واستعادة شعبيته.
يدرك بايدن أن خسارته في حرب الإرادات أمام نتنياهو، تعني هزيمته في الانتخابات المقبلة أمام غريمه ترامب، الذي يسعى نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب حتى يصل إلى البيت الأبيض، لذا صعَّد بايدن وفريقه من ضغوطهم لقطع الطريق على نتنياهو، سواء بخلخلة تماسك مجلس الحرب الذي استقال منه جانتس وأيزنكوت، أو بتقديم مقترح لوقف الحرب وتمريره كقرار في مجلس الأمن.
هزيمة نتنياهو لا هزيمة إسرائيل
لا يعني ذلك أن الإدارة الأمريكية الصهيونية ستسمح لفصائل المقاومة بتحقيق النصر على حليفتها، إذ تعلم تمام العلم أن هذا النصر يعني تهديد مستقبل الدولة التي تعدها دوائر السياسة الأمريكية الولاية الحادية والخمسين.
زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الأخيرة إلى المنطقة، لم تكن سوى محاولة جديدة لتطويق المقاومة، وإرغامها على تقديم تنازلات تبعدها عن مشهد اليوم التالي بما يحقق أهداف واشنطن الرامية إلى إخضاع الشرق الأوسط لهيمنتها وإعادة رسم خرائطه بما يتفق مع مصالحها.
سعى بلينكن إلى تعليق الجرس في رقبة حماس، وكرر في مقابلاته وتصريحاته في الشرق الأوسط، القول إن الحركة هي من تعرقل مبادرة وقف إطلاق النار، "إن أرادت حماس أن توقف الحرب عليها أن تقبل بالمقترح الذي وافقت عليه إسرائيل".
وخلال لقاءاته مع القادة العرب، عمل في الغرف المغلقة على نزع أي غطاء سياسي عن حماس وشركائها، في الوقت ذاته الذي طلب منهم أن يعرضوا على الحركة القبول بصفقة لتحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين في قطاع غزة حتى يخف الضغط على إدارة رئيسه أمام الجمهور الأمريكي.
ناقش بلينكن تصورات اليوم التالي في قطاع غزة مع من التقاهم في جولته الأخيرة بالشرق الأوسط، في تلك التصورات لا يوجد أي دور لفصائل المقاومة المسلحة، وقد يتم إسناد أدوار لأطراف عربية ودولية. لم يعلق أي طرف ممن قابلهم الوزير الأمريكي على تلك الأخبار نفيًا أو تأكيدًا، إلا أن بعض المصادر في فصائل المقاومة أشارت إلى ضغوط تمارس عليهم من أطراف عربية لقبول المقترح الأمريكي.
ولأن المقاومة الفلسطينية تمرست سياسيًا خلال تلك الجولة من الحرب وما سبقها من جولات، فلم تعلن رفضها للمقترح الأمريكي الذي تحول إلى قرار أممي، لكنها أبدت ملحوظات تفصيلية على ما جاء فيه، بما يضمن وقفًا دائمًا للعدوان وانسحابًا كاملًا لقوات الجيش الإسرائيلي من غزة وإعادة إعمار القطاع، على أن تُنفَّذ مراحل المقترح بضمان دول أخرى، بعدما تأكد أن الولايات المتحدة ليست وسيطًا، بل شريك في العدوان، وإن لم تكن تريد أن تكون شريكة نتنياهو، فهي بالتأكيد شريكة إسرائيل.