في 20 مارس/آذار الحالي قطع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، المحيط للمرة السادسة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول في طريقه للشرق الأوسط لزيارة كل من المملكة العربية السعودية ومصر، وأخيرًا إسرائيل، ومناقشة وضع غزة وإقناع حكومات عربية وإسرائيل بقبول خطة واشنطن للهدنة، بالإضافة إلى ما يعرف بخطة "اليوم التالي".
حاولت الولايات المتحدة الترويج للخطة التي رسمتها لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، إلا أن شيئًا ما يجعلها عصيةً على التمرير، لتبدو كل زيارات بلينكن عاجزةً عن إقناع أي من الأطراف بتنفيذها. فما الذي يجعل "اليوم التالي" الأمريكي لا يأتي أبدًا؟
ثلاثة عناصر للخطة
في إطار التعليق على زيارة بلينكن للمنطقة، أشار المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إلى أن الزيارة تأتي في إطار "التنسيق بشأن التخطيط لمرحلة ما بعد الصراع في غزة، بما في ذلك ضمان عدم قدرة حماس على الحكم أو تكرار هجمات 7 أكتوبر".
وتقوم خطة اليوم التالي على ثلاثة عناصر أساسية، في مقدمتها تهميش كل فصائل المقاومة الفلسطينية وإبعادها عن الحكم ومواقع اتخاذ القرار، ثم استعادة السلطة الفلسطينية حكم قطاع غزة، مع التلويح بقابلية أن تكون هذه العودة جزءًا من ترتيبات إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، منزوعة السيادة على ما تبقى من الضفة وغزة.
وأخيرًا، تستهدف الخطة إشراك دول عربية وإسلامية في إعادة إعمار غزة، وأيضًا في إدارتها أمنيًا وإداريًا إن لزم الأمر. وتبدو هذه العناصر نفسها هي أسباب تعثر الخطة حتى الآن.
يومٌ تالٍ بلا مقاومة
ترفض إسرائيل عودة السلطة الفلسطينية لحكم قطاع غزة، وتتردد السلطة نفسها في العودة لحكم غزة على الدبابات الإسرائيلية، كما زادت القوة السياسية لحماس مع ارتفاع شعبيتها مقابل الانخفاض الشديد لشعبية السلطة ورئيسها محمود عباس، ليظل "يوم تالٍ بلا حماس" مجرد شعار بلا خطة قابلة للتنفيذ، إذ تبقى فكرة إبعاد المقاومة ومحاولة تفكيكها، دون التعامل مع المحددات السياسية والاقتصادية التي خلقتها كمن يبني قصرًا من الرمال على شاطئ بحر هائج.
تبدو السلطة بلا شرعية تجعلها قادرة على ملء الفراغ الذي ستتركه حركات المقاومة في غزة أو في الضفة الغربية
يبدو أن الإدارة الأمريكية لا تتعلم من دروس تاريخها نفسه، فمحاولات تبدو شبيهة باستئصال "طالبان" في أفغانستان، التي كانت دون رؤية واقعية لاستئصال العوامل التي خلقتها، أدت إلى كمون مرحلي للحركة صحبه انسحاب مؤقت من المراكز الحضرية الأفغانية الكبرى، دون القضاء عليها. ظلت طالبان شبحًا يظهر ويختفي حتى عادت للسيطرة على الحكم مرة أخرى مثبتة أن الحركة ابنة بيئتها.
وهكذا المقاومة الفلسطينية التي ارتفعت شعبيتها رغم الخسائر الضخمة، لأنها تمثل استجابة للتحدي الرئيسي الذي يواجه الشعب الفلسطيني، وسؤاله الأكبر: كيف نستعيد حقنا في الحياة والأرض من مستعمر لا يعترف بأي منهما؟
تهميش وتجاهل المقاومة الفلسطينية في أي مشروع للحل النهائي للقضية الفلسطينية، أو تخيُّل يومٍ تالٍ بلا مقاومة، تصور وهمي أقرب لكونه تفكيرًا بالتمني يعكس أمنيات إسرائيلية تشاركها فيها الإدارة الأمريكية أكثر منه خطة للواقع.
سلطة تعاني أزمة شرعية
لا يبدو أن الاعتماد على السلطة الفلسطينية بديلًا لتمثيل الشعب الفلسطيني، دون إصلاح هذه السلطة، يمكن أن يقدم حلًا، لذا فأي اتفاقات أو مفاوضات مع هذه السلطة، بوضعها الحالي، هي بلا ثقل ولا أثر.
السلطة الفلسطينية، التي ينظر البعض لأجهزتها الأمنية على أنها متعاونة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تآكلت بقية شرعيتها لعدة أسباب، ليس أولها الفساد والممارسات القمعية وليس آخرها التأجيل الأزلي لأي انتخابات تنتخب ممثلين شرعيين للشعب الفلسطيني.
تبدو السلطة بلا شرعية تجعلها قادرة على ملء الفراغ الذي ستتركه حركات المقاومة في غزة أو في الضفة الغربية نفسها، التي فقدت فيها السلطة قدراتها السياسية لدرجة أنها لن تقوى على منافسة حماس سياسيًا إذا ما أقيمت الانتخابات الآن دون تدخل أي عوامل لتغيير نتيجتها.
دولة غير قابلة للحياة
تهدف الإدارة الأمريكية إلى تقديم ما يغري الفلسطينيين بالقبول بسلطة بلا شعبية، بإعادة التلويح بورقة الدولة الفلسطينية، وهي تعلَم أنها ورقة لا تقدِر على تنفيذها على الأرض. يتحول حل الدولة الفلسطينية تدريجيًا إلى خيال غير علمي تطرحه الولايات المتحدة من آنٍ لآخر لتسكين الغضب المتصاعد على الجانب الفلسطيني، دون أن تملك الإدارات الأمريكية المتعاقبة أي إرادة لفرضه، إلا إذا كانت الولايات المتحدة تقصد دولة في عالم المجاز بلا أرض ولا سيادة في عالم الواقع.
جاء نتنياهو بمشروع إنهاء أي احتمال لإقامة دولة فلسطينية
على خلاف ما يُشاع بأن الحكومة الإسرائيلية غيّرت رأيها ورفضت أي تنازل لإقامة الدولة الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر حتى لا يفسر ذلك على أنه جائزة لما أسموه "الإرهاب الفلسطيني"؛ رفضت الحكومات الإسرائيلية إقامة تلك الدولة في كل المرات التي ترأس فيها نتنياهو الحكومة.
جاء نتنياهو بمشروع واحد وهو الإنهاء الواقعي لأي احتمال لإقامة دولة فلسطينية، وقامت حكوماته المختلفة التي تولى رئاستها منذ تسعينيات القرن الماضي إلى الآن بتحويل هذا المشروع إلى حقيقة دون أن يواجَه بأي إجراءات أمريكية لرفض ممارساته إلا كلمات تحمل عتاب المحبين أكثر من رفض الغاضبين.
خلال هذا العام وحده نفذت حكومة إسرائيل أكبر مصادرة للأراضي الفلسطينية منذ أوسلو، حيث أعلن اليميني المتطرف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش، الاستيلاء على 10 كيلومترات مربعة من الأراضي الفلسطينية، القليلة فعلًا، في الضفة الغربية.
لا يمكن إقامة دولة فلسطينية إلا إذا ما أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على التوقف عن سرقة تلك الأراضي، وإعادة ما سرقته بالفعل، وطالما أن ذلك غير مطروح فكل الأحاديث عن الدولة الفلسطينية محض خداع.
كرة النار التي لا يرغب أحد في إدارتها
يسعى بلينكن لإقناع دول عربية بالمشاركة في خطة تضمن بقاء حماس خارج الحكم في قطاع غزة وتفكيك قدراتها العسكرية، وتشديد الحصار على مسارات التسليح المحتملة لحماس والمقاومة الفلسطينية بشكل عام.
لذا، تطرح الولايات المتحدة الخطة على شركاء عرب للمشاركة بإعادة إعمار قطاع غزة، وخلق فرص اقتصادية لسكانه تضمن عدم تحولهم لعناصر مؤيدة لحماس، كما ناقش بلينكن خططًا مع دول عربية للمساعدة في إدارة القطاع أمنيًا وإداريًا بعد نهاية الحرب.
تفتقد خطط بلينكن الحسَ السياسيَّ، لأن أي محاولة من دولة عربية لإدارة غزة بعد الحرب سيُنظر إليها على أنها جزءٌ من خطط أمريكية إسرائيلية، نُفذت بقوة السلاح وليس باتفاقات سياسية مع أصحاب الأرض.
تبدو عملية إدارة غزة أمنيًا كرة نار مشتعلة لا يقوى أحد على استلامها بين الدول العربية والإسلامية في إطار الخطط الأمريكية، وإلا سيخاطر من يستلمها بفقد رأسماله السياسي في بلده، وبين الشعوب العربية والإسلامية.
إجمالًا، لا يمكن لخطة يوم تالٍ للحرب النجاح دون مشاركة أصحاب المصلحة أنفسهم وهم بالطبع الفلسطينيون، وممثلوهم الحقيقيون لا الساكنون في الخيال الأمريكي.