وضع اغتيال جيش الاحتلال سبعًا من موظفي الإغاثة التابعين للمطبخ المركزي العالمي في دير البلح، وسط قطاع غزة، الأسبوع الماضي، أثناء إيصالهم مساعدات غذائية إلى الفلسطينيين في غزة، الدولة العبرية في الزاوية، وجعلها منبوذة يحاول حلفاؤها التبرؤ من ممارستها "المخالفة لكل القوانين الإنسانية"، وزاد من الضغوط على حكومتها اليمينية المتطرفة لدرجة تلويح شركاء العدوان بوقف إمداد تل أبيب بالسلاح والذخائر.
الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الشريك الأهم والأقرب الداعم لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، وجدت نفسها في مأزق أمام تصاعد الإدانات الدولية ومطالب التحقيق الدولي المستقل، ليعبّر الرئيس جو بايدن عن موقف متطور، بإشارته إلى أنَّ الدعم المقدم لإسرائيل في غزة مرهون بخطوات تضمن سلامة موظفي الإغاثة وإجراءات حماية المدنيين.
فبعد اتصال هاتفي أجراه بايدن برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الخميس الماضي، قال البيت الأبيض إنَّ الرئيس "أكد ضرورة أن تعلن إسرائيل وتنفذ سلسلة من الخطوات المحددة والملموسة والقابلة للقياس لوقف الأذى الذي يلحق بالمدنيين والمعاناة الإنسانية وسلامة موظفي الإغاثة"، مضيفًا أنه "أوضح أنَّ السياسة الأمريكية فيما يتعلق بغزة ستتحدد في ضوء تقييمنا للإجراءات الفورية التي ستتخذها إسرائيل بشأن هذه الخطوات".
طلب الرئيس الأمريكي بشكل مباشر من نتنياهو "وقفًا فوريًا لإطلاق النار"، واللافت أنه لم يربطه بتسليم حماس للرهائن الإسرائيليين المحتجزين لديها في غزة منذ السابع من أكتوبر، فيما دعا منافسه في الاستحقاق الرئاسي دونالد ترامب، الذي يرى فيه نتنياهو المنقذ والحليف الأقرب، إلى "إنهاء الحرب بسرعة والعودة إلى الحياة الطبيعية"، لأنه يرى أن "إسرائيل تخسر حرب العلاقات العامة".
الانتقادات الأمريكية لم تكن من بايدن وحده، إذ قال وزير خارجيته أنتوني بلينكن إن إسرائيل "لا بد أن تكون على قدر هذه اللحظة" من خلال زيادة المساعدات الإنسانية وضمان أمن من يقدمونها. وفي رسالة تحذير غير مسبوقة منذ بدء العدوان، قال بلينكن "إذا لم نر التغييرات التي نحتاج إلى رؤيتها، فستكون هناك تغيّرات في سياستنا". وهو ما كرره المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي "إذا لم تغير إسرائيل أسلوبها في حرب غزة، فإنَّ الولايات المتحدة ستغير سياستها تجاه إسرائيل".
الأمر لا يتعلق بموظفي الإغاثة فقد قتلت إسرائيل 196 موظفًا منهم لكنهم فلسطينيون
وفي بريطانيا، الشريك الثاني لإسرائيل في عدوانها على أهالي غزة، استنكرت حكومة ريتشي سوناك الاعتداءات التي قام بها جيش الاحتلال ضد موظفي الإغاثة الدوليين، وعبرت عن صدمتها من حمام الدم المسال في غزة، مطالبة حكومة نتنياهو بالاعتذار وفتح تحقيق جدي في الحادث.
وتواجه الحكومة البريطانية التي قُتِل ثلاثة من مواطنيها في الهجوم الإسرائيلي ضغوطًا سياسيةً متزايدةً من أجل وقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل، إذ دعا ثلاثة قضاة سابقون بالمحكمة العليا حكومتهم لوقف مبيعات الأسلحة إلى تل أبيب، لينضموا بذلك إلى 600 من المحامين والمشتغلين بالقانون في بريطانيا، حذروا في رسالة إلى البرلمان من أنَّ استمرار بلادهم في تصدير السلاح إلى إسرائيل سيجعلها متهمةً بالتواطؤ في ارتكاب إبادة جماعية، فيما بدأ المشرفون على تصدير السلاح البريطاني لإسرائيل بحث وقف عملهم خشية ملاحقتهم باتهامات جنائية في التورط بجرائم حرب ضد مدنيين.
الضغوط المتزايدة على سوناك دفعته إلى دعوة إسرائيل إلى "وقف إنساني فوري للقتال في غزة يؤدي إلى وقف إطلاق نار مستدام وطويل الأمد".
العدالة التمييزية
عجلة الإدانات الداعية إلى وقف الحرب لم تتوقف، فمن أمريكا وبريطانيا إلى بلجيكا وإسبانيا وبولندا وكندا وأستراليا، ودول الاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الجميع يقف في نفس الخندق، فآلة الحرب الإسرائيلية اغتالت هذه المرة مواطنين "بيضًا"، لهم من يسأل عنهم من نواب وهيئات ومنظمات، وشعوب حية تحاسب حكوماتها على تواطؤها أو تخاذلها أو صمتها على قتل مواطنيها.
الانتفاضة الغربية الأخيرة ضد إسرائيل تأتي من منطلقات "تمييزية"، فالأمر لا يتعلق بموظفي الإغاثة كما يروج مسؤولو الدول التي يبحث بعضها تحويل تصريحات الشجب إلى إجراءات عملية، فقد اغتال جيش الاحتلال 196 موظف إغاثة منذ بدء العدوان، منهم 175 يتبعون منظمة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".
الفارق أنَّ شهداء الإغاثة السابقين فلسطينيون، لا وزن لهم لدى تلك الحكومات الغربية المنافقة التي تكيل بمكيالين.
وأمام تلك الهجمة الغربية، اضطرت إسرائيل إلى الاعتذار وبادرت بإجراء تحقيق، وإن كان شكليًا، من أجل امتصاص الضغوط، خلص إلى ارتكاب أخطاء جسيمة وانتهاكات للإجراءات، وانتهى إلى إقالة ضابطين وتوبيخ قادة كبار.
وفيما ينتفض الغرب على اغتيال جيش الاحتلال الإجرامي للمواطنين السبعة البيض، لا تزال الدول العربية تتخذ موقف "المتابع القلق" الذي يعرب عن شجبه وإدانته لإسالة دماء عشرات الآلاف في مدن وأحياء قطاع غزة خلال الشهور الست الماضية، دماء عربية، في وقت لم يتوقف صراخ أطفال فلسطين للدول العربية، حكومات وشعوبًا، وهم يخرجون من تحت الأنقاض أو وهم يشيعون ذويهم "وينكم يا عرب.. وينكم يا عرب".
قد تكون تلك اللحظة هي الأنسب لتستخدم الأنظمة العربية ما لديها من أوراق لتصعيد الضغوط على العدو الصهيوني والسعي لإيقاف العدوان، فالنخب السياسية في الدولة العبرية تشعر ولأول مرة منذ فترة طويلة أن بلادها تواجه إعصارًا يهدد وجودها، ما أوجب على المجتمع الإسرائيلي إزاحة حكومة اليمين المتطرف التي وضعتهم أمام تلك الريح العاتية.
على النظام العربي استغلال تلك الحالة وإطباق الحصار على إسرائيل، على أن يكون الحد الأدنى للإجراءات الواجب اتخاذها إعلان الدول التي تربطها علاقات مع الكيان الصهيوني قطعها مع ما يستتبع ذلك من وقف لكل الاتفاقات الاقتصادية والتجارية، مع إشهار سلاح الحصار الجوي والبحري، فإسرائيل تقع في محيط عربي خالص، ولو قررت دول هذا المحيط مجتمعة إغلاق الأبواب عليها لأعادت النظر في كل ممارستها العدوانية، ولصعَّد الغرب ضغوطه ليس من أجل نيل الفلسطينيين حقوقهم، بل لإنقاذ إسرائيل من نفسها.