كنت سأكتب مقالي هذا الأسبوع عن هول وفظاعة المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني في مدرسة للأونروا في مدينة النصيرات، وسط قطاع غزة مساء الخميس 6 يونيو/حزيران الجاري، وأسفرت عن استشهاد 45 فلسطينيًا، نصفهم على الأقل من الأطفال والنساء، ولم يمر على محرقة الخيام التي شهدتها مدينة رفح سوى أسبوعين، عندما قصفت إسرائيل خيام نازحين في منطقة قالت لهم إنها آمنة.
في أعقاب مجزرة النصيرات، ادعى جيش الاحتلال أن القنابل الصغيرة، أمريكية الصنع، التي أسقطتها الطائرات استهدفت مقاتلين تابعين لحماس وحركة الجهاد، كانوا في ثلاثة فصول من المدرسة، التي كانت ملجأ للنازحين. وفي اليوم التالي مباشرة، كرر الاحتلال جريمته بكل تبجح، عندما استهدف مدرسة أخرى في مخيم الشاطئ، تؤوي أيضًا نازحين، وكانت الحجة هذه المرة استهداف حاوية يستخدمها مقاتلو حماس لعقد اجتماعاتهم داخل حرم المدرسة.
اجتهد القائمون على جيش الإبادة في تبرير جريمة مدرسة النصيرات، واستعراض الصور الجوية المأخوذة من المسيرات، لزعم أنهم اتخذوا كل الخطوات اللازمة لحماية المدنيين وتقليل الخسائر في صفوفهم، ولكن "للأسف سقط ضحايا أبرياء تتحمل مسؤوليتهم حركة حماس".
أما المسؤولون الأمريكيون في إدارة بايدن، فأعربوا عن حزنهم وقلقهم، مع التنويه إلى الرواية الإسرائيلية بأنَّ القتلة الأشرار من حماس دائمًا ما يستخدمون المدنيين دروعًا بشريةً، وكأنَّ هناك كيلومترًا واحدًا في غزة خالٍ من البشر. ينتظر الأمريكيون الآن نتائج التحقيق الإسرائيلي "المحترف" والمتوقع من "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط.
يتجاهل الطرفان ما يؤكده ممثلو الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، من أنه حتى وإن كان مقاتلو حماس موجودين في حرم المدرستين، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يكون مبررًا لقتل المدنيين الأبرياء من النازحين وفق قوانين الحرب والمعاهدات الدولية.
كما يتجاهل الإسرائيليون والأمريكيون فشل الاحتلال في ممارسة الكذب، بعد القائمة الوهمية لمسلحي حماس والجهاد الذين قتلهم في الاستهداف، التي تبين لاحقًا عدم صحة العديد من الأسماء الواردة بها، تمامًا كما أورد قبل أسابيع اسم عضو مجلس الشيوخ والزميل الصحفي محمد شبانة في قائمة قادة حماس العسكريين المطلوبين.
وفي الوقت نفسه، تستمر عمليات القتل اليومي في رفح مع استكمال سيطرة جيش الاحتلال على معبر صلاح الدين الحدودي بين مصر وغزة، في انتهاك فاضح لاتفاقية السلام، يتجاهل كل التحذيرات الرسمية المصرية، فيما لا يزال الرئيس الأمريكي جو بايدن مُصرًّا، ومعه كبار مسؤولي إدارته، على أنَّ إسرائيل لم تقم بعد بشن "الهجوم الواسع" الذي حذرها من القيام به في رفح، باعتباره خطًا أحمر لم يحدد عواقب تجاوزه.
يدعو بايدن الجميع إلى التركيز على تنفيذ الخطة التي أعلن عنها قبل نحو أسبوعين للوصول إلى "وقف دائم للعمليات العدائية" عبر ثلاث مراحل، وصفها في البداية بأنها خطة إسرائيلية، قبل أن يتبين لاحقًا أنها ليست كذلك تمامًا، مع تملص نتنياهو منها كعادته.
ورغم المماطلة الإسرائيلية الواضحة والتصريحات المتضاربة بشأن الخطة وموقف تل أبيب الرسمي منها، فإنَّ الإدارة الأمريكية تصر على أنَّ المطلوب الآن هو الضغط على حركة حماس فقط، بدعوى أنها الطرف الذي يقف عقبة أمام التوصل إلى اتفاق.
الأخبار الجديدة أكثر توحشًا
لكنَّ هذا تغير ، وأصبح أخبارًا قديمةً وهامشيةً، بعد مجزرة تخليص المحتجزين الأربعة صباح السبت 9 يونيو، من منزلين في النصيرات، التي لم تكن تجاوزت بعد مأساة قصف مدرسة النازحين. وجاء القصف المُركَّز، الذي سبق عملية استعادة المجتجزين الرامبوية، ليؤكد أنَّ جيش الاحتلال لم تكن لديه نية التقليل من الخسائر في صفوف المدنيين الأبرياء.
خلال ساعتين فقط، شن جيش الاحتلال هجومًا لم تشهده الحرب منذ بدايتها قبل أكثر من ثمانية أشهر، مستخدمًا كل أنواع الأسلحة من البحر والبر والجو، وجعل الإعلام الإسرائيلي والأمريكي ينغمس في احتفالات "الانتصار العظيم"، ومتابعة صور المحتجزين الأربعة وهم يبكون فرحًا عند لقاء أسرهم، واعتبار قتل أكثر من مائتي مدني فلسطيني، أغلبيتهم من الأطفال والنساء، مجرّد تفصيلة جانبية على هامش "الإنجاز".
ولكنَّ المرعب هو حالة السعادة الغامرة التي اجتاحت الشارع الإسرائيلي دون الاكتراث لسقوط هذا العدد الهائل من الفلسطينيين، وكأنه انتقام مبرر ومشروع لهجوم السابع من أكتوبر، تمامًا كما ينظرون لقتل نحو 37 ألف فلسطيني وتدمير قطاع غزة بالكامل وتحويل كل سكانه إلى نازحين.
سكان غزة بالنسبة لكثير من الإسرائيليين هم إرهابيون، أو مشاريع إرهابيين إذا كانوا بعد أطفالًا، وبالتالي يستحقون القتل والإبادة والتهجير. وحتى مظاهرات أهالي الأسرى التي تجتاح المدن الإسرائيلية، هدفها هو وقف الحرب مؤقتًا لاستعادة بقية السجناء، ثم لا مانع بعد ذلك من إبادة كل سكان غزة.
حرب ستتواصل لسنوات
تؤكد هذه النشوة بهدر دماء الأبرياء، أنَّ حرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين ستتواصل لسنوات طويلة قادمة، وأنها لا تتعلق برئيس وزراء يميني متطرف يعتبر أن أهم إنجازاته هو منع قيام الدولة الفلسطينية، ولا تتعلق بدواعش حكومته الإرهابيين أمثال بن غفير وسموتريتش.
لا يوجد سياسي واحد في إسرائيل اليوم يستطيع الوقوف في مواجهة هذا المد الشعبوي الدموي العنصري تجاه الفلسطينيين، وإقناع الجمهور الإسرائيلي بقبول السلام معهم على أساس حق الدولتين. ويساعد على ذلك الدعم والتسامح الذي يحظى به الكيان الاستعماري من حكومات الولايات المتحدة والدول الغربية.
لم تفضح حرب الإبادة المتواصلة فقط جذور الكراهية والعنصرية المترسخة في المشروع الصهيوني، بل أيضًا العالم الغربي الذي يصف نفسه بالمتحضر، بينما يبقى عنصريًا في جوهره. فطالما أنّ الضحايا ليسوا من البيض، لا ثمن لدمائهم.
عواقب مذبحة النصيرات الأخيرة تتجاوز بكثير "خطة بايدن"، التي تبدو في النهاية محاولة أخيرة لتحسين موقفه قبل انتخابات الرئاسة في مواجهة خصمه اللدود دونالد ترامب، الذي يرى بدوره في الحرب الحالية فرصة لتحقيق مكاسب انتخابية على حساب دماء الفلسطينيين.
وحتى لو تمكن بايدن، وهو ما بات احتمالًا ضعيفًا، من إنجاح صفقته، فإنها ستكون فرصة لالتقاط الأنفاس، لتتواصل الحرب بعدها طالما بقيت مشاعر الانتقام والثأر هي الغالبة في صفوف الإسرائيليين، واستمر الانحياز الأمريكي والأوروبي الفاضح لآخر المشاريع الاستعمارية العنصرية في العالم.