دخلت حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني شهرها السادس، وسط مؤشرات على إصابة أطرافها بالإنهاك، وواقع قائم على الأرض يرجّح استمرار حالة الفوضى والمواجهات العسكرية بين إسرائيل والمجموعات المنضوية تحت ما بات يعرف بـ"محور المقاومة" بقيادة إيران، لفترة طويلة قادمة.
فمع إعلان كلِّ طرف تمسكه بمواقفه المعلنة، لم تتوقف الحرب في اليوم الأول من رمضان كما كان يأمل بايدن، الذي يعتبر الشأن الانتخابي الداخلي همَّه الأول، مع تراجع شعبيته لنحو 37% بين الناخبين، والأهم شكوك 60% من الناخبين في قدراته العقلية، ما يهدد بتقويض فرصه في مواجهة خصمه اللدود دونالد ترامب.
يؤكد نتنياهو أنَّ الحرب لن تنتهي قبل أن تحقق أهدافه، وأنه سيواصل حربه لملاحقة حماس بعد انتهاء أي هدنة مؤقتة لتبادل الأسرى. وليس هذا موقفه ودواعش حكومته المتطرفين أمثال بن غفير وسموتريتش فقط، ولكنه موقف من يوصفون بالمعتدلين أيضًا، مثل جانتس وأيزنكوت.
الخلاف بين المعسكرين يتعلق بأن الأولوية بالنسبة للمعتدلين هي استعادة الأسرى، ثم يمكن استئناف الحرب، فلن تذهب غزة أو حماس إلى أيِّ مكان، فيما يرى نتنياهو وفريقه أنَّ الأولوية هي هزيمة حماس وتصفية قادتها، على رأسهم أسماء محددة مثل يحيى السنوار ومحمد ضيف، ويمكن التضحية في هذا السياق بالأسرى واعتبارهم من ضمن خسائر هذه الحرب.
أما قادة حماس، فيؤكدون أنهم لم يقدموا كلَّ هذه التضحيات الضخمة بتدمير غزة بالكامل تقريبًا، فقط من أجل التوصل لاتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار يتم خلاله تبادل إطلاق السجناء بين الطرفين، ويتمسكون بضرورة أن يكون الاتفاق مقدمةً لوقفٍ دائمٍ لإطلاق النار وخروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة والسماح بعودة الفلسطينيين المهجرين قسريًا من جنوب القطاع إلى شماله، وهو ما يعني عمليًا انتصار الحركة وتأكيد قدرتها على البقاء وهزيمة إسرائيل.
غسيل الأيدي بتقديم الوهم
يدرك قادة حماس أنهم لو فقدوا الورقة الأهم لديهم؛ أي الأسرى، فلن يقف عائق أمام إسرائيل للعودة لاحتلال القطاع بالكامل، وهم لا يصدقون، ولديهم الحق في ذلك، خطة الأوهام التي يروج لها بايدن من أنَّ التوصل لاتفاق تبادل الأسرى سيكون مقدمة لتشكيل تحالف واسع بمشاركة الدول العربية، لإعادة إعمار غزة وتطبيع علاقاتها بإسرائيل، وتشكيل حكومة فلسطينية جديدة تتولى إدارة الضفة والقطاع، تمهيدًا لإعلان دولة فلسطينية مستقلة منزوعة السلاح بجوار إسرائيل.
يودُّ بايدن وأعضاء إدارته غسل أيديهم من المشاركة في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، بعد أن أُلصق لقب "genocide Joe/جو إبادة جماعية" بالرئيس الأمريكي. وصحيح أنَّ الهدف من التصريحات العلنية الأكثر تشددًا من جانب بايدن ضد نتنياهو انتخابي داخلي، بعد أن صوَّت أكثر من مائة ألف ناخب أمريكي عربي ومسلم في ولاية ميتشجان المتأرجحة قبل أسبوعين بـ"غير ملتزم" في الانتخابات التمهيدية للتصديق على ترشحه للانتخابات المقبلة، ولكنَّ إغضاب حلفاء إسرائيل المؤثرين داخل الولايات المتحدة سيكون له أيضًا ثمن كبير.
ولذلك ومع انتقاداته العلنية الآن لنتنياهو، يعود بايدن ليؤكد أنه لن يستخدم ما بيد واشنطن من أوراق لإجبار إسرائيل على وقف الحرب، ردًا على مطالب تعليق المساعدات العسكرية التي تُستخدم لارتكاب الجرائم في غزة، أو السماح لمجلس الأمن بإقرار وقف إطلاق النار.
وقال بايدن في مقابلته التليفزيونية التي أجراها يوم السبت مع قناة "إم إس إن بي سي" إن تنفيذ إسرائيل تهديدها باجتياح رفح، حيث يتكدس أكثر من مليون ونصف المليون نازح فلسطيني، هو "خط أحمر"، مؤكدًا أنه "لا يمكن السماح بمقتل 30 ألف فلسطيني آخرين في غزة نتيجة للسعي لملاحقة حماس. هناك طرق أخرى للتعامل مع حماس"، قبل أن يضيف "ولكننا لن نتوقف عن مد إسرائيل بالسلاح مثل القبة الحديدية التي تمكنها من الدفاع عن نفسها".
هذه الحسابات الداخلية لبايدن هي ما تدفعه لتبني هذا الموقف الفج في تناقضه: ففي الوقت نفسه الذي تمد فيه الولايات المتحدة يدها لإسرائيل وتقدم لها مختلف أنواع الأسلحة لقتل الفلسطينيين يوميًا وكل ساعة، ترسل باليد الأخرى للفلسطينيين كميات كبيرة من الغذاء، وكأنه لا يمانع في أن يموت الفلسطينيون بالصواريخ والقنابل الأمريكية، لكن إنسانيته تأبى أن يموت أيُّ فلسطيني جوعًا، بعد أن أثرت فيه صورهم التي شاهدها وهم يتدافعون للحصول على مساعدات في مدينة غزة، فقتلتهم قوات الاحتلال.
وطالما بقي الموقف الأمريكي صارخًا في تناقضه، وظلت الدول العربية مهتمةً أكثر بأوضاعها الداخلية واستقرارها عن تقديم دعم حقيقي للفلسطينيين، فإن هذا يعني أن المنطقة ستبقى في حالة من الفوضى لسنوات مقبلة، إذ لن تتحقق أوهام نتنياهو في هزيمة المقاومة، ولا طموحات بايدن في بناء شرق أوسط جديد، حال نجاحه في تجاوز الاختبار الصعب في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.