بعد 470 يومًا من مفرمة القتل الإسرائيلية اليومية التي تفوق في وحشيتها كل خيال انتقامًا من الفلسطينيين على هجوم حماس في السابع من أكتوبر، يبدو من الصعب الخوض في الجدل العبثي حول إذا ما كانت المقاومة قد تمكنت من الانتصار وإلحاق الهزيمة بإسرائيل، أو أنها الطرف الذي خسر المعركة وعليه الآن أن يقبل الاختفاء من المشهد.
والسبب الرئيسي لتأجيل هذا النقاش العبثي، هو أن الحرب عمليًا لم تنتهِ بعد، وأن المسار يبقى طويلًا، حتى مع دخول الهدنة حيز التنفيذ وبدء عملية تبادل الأسرى بشروطها المعقدة، خاصة في ظل التصريحات العنترية المتواصلة من رئيس الوزراء المتطرف بنيامين نتنياهو، وتهديداته المتواصلة باستئناف الحرب مع أي خرق للهدنة، وبموافقة أمريكية من الرئيس المنتخب الجديد دونالد ترامب، المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل.
ويزيد الطين بلة الفريق المرتبط بملف الشرق الأوسط الذي سيقدم النصح والمشورة لترامب على مدى السنوات الأربع المقبلة، بدايةً بوزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشاره للأمن القومي مايك ولتز، وكلاهما من كبار داعمي اليمين الإسرائيلي، وكذلك وزير الدفاع بيتر هيجسيث الذي صرح في جلسة دعم ترشيحه من مجلس الشيوخ مؤخرًا بأنه كـ"مسيحي" يشعر أن من واجبه دعم إسرائيل ويؤيد هدف التخلص من كل عضو في حركة حماس، وسفير واشنطن في تل أبيب مايك هاكبي الذي ينكر وجود الشعب الفلسطيني ويدعم توسيع الاستيطان في الضفة، ومندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة إليس ستيفانيك التي قادت حملة الضغط على الجامعات الأمريكية للتضييق على المظاهرات المؤيدة لفلسطين، ودفعت ثلاثة من رؤساء أكبر تلك الجامعات للاستقالة، وترى أن الأمم المتحدة "مستنقع لمعاداة السامية".
من المؤكد أن هذا الفريق الأمريكي الجديد من عتاة الصهاينة الداعمين لإسرائيل من منطلقات دينية لن يمارس الضغوط على نتنياهو أو يفرض عليه عقوبات لو عاد وقتل عشرات الفلسطينيين أثناء الهدنة بزعم أنهم كانوا يمثلون تهديدًا أمنيًا لإسرائيل. كما لن يقيم ترامب وفريقه الدنيا ويقعدوها لو تأخر جيش الاحتلال في الانسحاب من غزة وفق الجدول الزمني المقرر، لأي دواعٍ سيختلقها وأعضاء حكومته من المتطرفين.
من المؤلم الحديث عن الانتصار
لم يكد اتفاق الهدنة يدخل حيز التنفيذ، حتى بدأ نتنياهو في خطة خرقه، بالتأكيد في خطاب مساء السبت أنه لن يكتفي فقط بالاحتفاظ بأعداد القوات الإسرائيلية الحالية على محور صلاح الدين بين مصر وقطاع غزة، بل سيزيد أعدادها، رغم أن الاتفاق ينص بوضوح على ضرورة أن تبدأ إسرائيل في تخفيض قواتها الموجودة على معبر رفح لتنهي انسحابها من هناك خلال خمسين يومًا.
ورغم ما أشارت له التقارير الإسرائيلية من أن مبعوث ترامب الجديد للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، وهو صديقه الشخصي في ممارسة لعبة الجولف ومن كبار المطورين العقاريين من اليهود الأمريكيين في نيويورك ويرتبط بمصالح مالية مع قطر وعدة دول خليجية، مارس ضغوطًا قوية على نتنياهو للقبول بالصفقة، فإن المطلوب كان منح ترامب لقطة الاحتفاء بها بصفته صانع الصفقات والطرف الذي تمكن من وقف الحرب في غزة وتحقيق ما فشل سلفه، جو بايدن، وفريقه، في الوصول إليه على مدى عام كامل تقريبًا.
وسبق لترامب التصريح بأن وقف الحرب في غزة قد تبدو المهمة الأسهل بالنسبة له فور وصوله للبيت الأبيض، مقارنة بالمهمة الأصعب؛ إنهاء حرب أوكرانيا والتوصل لتفاهمات مع روسيا بجانب المعارك التي بدأ خوضها بالفعل مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، بداية بكندا والمكسيك ونهاية بالصين. كما صرح لتلفزيون إن بي سي مساء السبت بأنه أكد لنتنياهو ضرورة التوصل إلى اتفاق "مع الاستمرار في القيام بما يجب عليه القيام به".
وفي جميع الأحوال، فإن الطريق لا يزال طويلًا للغاية قبل إمكانية الحديث عن المنتصر والمهزوم، لو أن الهدف النهائي هو انسحاب كامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة والبدء في عملية إعادة إعمار حقيقية، تكون بداية للعمل نحو التوصل لحل نهائي يبدو مثاليًا للغاية في الوقت الحالي، يتضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة تضم الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
كما يبدو من الصعب والمؤلم الحديث عن انتصار وقد فقد ما يزيد عن 50 ألف فلسطيني أرواحهم، 70% منهم على الأقل من الأطفال والنساء. كيف ستكون هناك احتفالات بعد كل هذا الكم من الدماء والجثث، وصور حرق المستشفيات وتعرية الأطباء والممرضين واقتيادهم أسرى، وقصف مدارس اللجوء التابعة للأمم المتحدة وخيم النازحين في المناطق التي أعلنها جيش الاحتلال "آمنة"، واستشهاد أطفال رضع من شدة البرد، واحتراق طفل بعد سقوطه في قدر مغلي يقدم الطعام لآلاف المحتاجين نتيجة التزاحم.
المآسي اليومية والاعتياد على أرقام لا تقل يوميًا في المتوسط عن أربعين وخمسين وربما ثمانين شهيدًا، قتلت إنسانيتنا، وسط حالة العجز القائمة والاعتياد على استمرار الحرب وكأنها قدر محتوم لا ينتهي، نتفرج عليها بحسرة وصمت.
ورغم الفرح العارم المستحق الذي عبَّر عنه الفلسطينيون في غزة فور الإعلان عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، لأنهم ببساطة أصبحوا يملكون ترف البقاء أحياء دون أن يباغتهم القصف والدمار، فإنهم سيفيقون فور دخول الاتفاق حيز التنفيذ على كابوس الدمار الشامل الذي ألحقته قوات الاحتلال بكل أوجه الحياة في القطاع، وتسويته بالأرض تقريبًا.
كما أن اللهفة التي عبَّر عنها الفلسطينيون المكدسون في مخيمات النزوح في جنوب القطاع للعودة إلى مدنهم الأصلية ستكون منقوصة، عندما يجدون أنهم مضطرون إلى إقامة مخيمات نزوح جديدة بجانب ركام المنازل، الذي ستحتاج إزالته من القطاع وفقًا لتقديرات خبراء الأمم المتحدة، إلى مدة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات.
نيران سياسية صديقة
ومن المؤكد أن المسيرة نحو إعادة الإعمار ستكون شديدة الصعوبة، خصوصًا إذا استمر الانقسام الفلسطيني بشأن سؤال إدارة القطاع في اليوم التالي للحرب لو صمدت الهدنة لفترة زمنية معقولة. فحتى الآن، لم تظهر مؤشرات اتفاق بين حماس والسلطة الفلسطينية حول هذه النقطة التي لا يقررها الفلسطينيون فقط، بل كذلك العديد من الأطراف العربية والدولية المانحة.
استمرار وقف إطلاق النار قد يشعل الداخل الإسرائيلي ويعيد إلى الواجهة المطالبة بالمحاسبة
وبينما يحاول بعض أنصار حركة حماس تدعيم دعايتهم بتحقيق الانتصار في حرب الإبادة الإسرائيلية، بالزعم أن الحركة لا تزال تحكم قطاع غزة ولا تزال قادرة على توجيه ضربات موجعة لجنود العدو، فإن قادة الحركة هم أول من يعرفون غالبًا أن هذه مجرد دعاية للاستهلاك المحلي، وأن هذا الوضع قد لا يستمر كثيرًا وأنها ستضطر غالبًا لتقديم تنازلات في ظل الإصرار الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا على عدم السماح للحركة بالاستمرار في حكم غزة.
ويعرف القاصي قبل الداني كذلك أن قادة الحركة مضطرون في المرحلة الحالية، بعد الضربات الإسرائيلية الموجعة التي استهدفت الحركة ومعها جبهات الإسناد في لبنان وسوريا، إلى إعادة حساباتهم بأن يكونوا أكثر حرصًا على استمرار الهدنة ووقف القتال قدر الإمكان. من المؤكد أنه سيبقى هناك دائمًا مقاتلون لحماس قادرون على توجيه ضربات مؤلمة للعدو لو استمر الاحتلال الإسرائيلي لغزة، ولكن قادة الحركة يجب أن يضعوا في اعتبارهم كذلك قدرة الشعب الفلسطيني على تحمل استمرار آلة القتل والتدمير الإسرائيلية العشوائية والمجرمة.
وتبقى أخيرًا الحسابات الداخلية المعقدة في إسرائيل، والتي ستحكم على إمكانية نجاح اتفاق الهدنة وتمييز الطرف المنتصر من المهزوم إلى درجة ما، في حرب التحرير الممتدة التي يخوضها الفلسطينيون للحصول على وطنهم.
فاستمرار وقف إطلاق النار لفترة زمنية معقولة قد يشعل الداخل الإسرائيلي ويعيد إلى الواجهة المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الفشل الذريع لأجهزة الأمن الإسرائيلية المتفوقة، بقيادة نتنياهو، في منع هجوم السابع من أكتوبر، وكذلك تبادل الاتهامات الداخلية حول ما إذا كانت هناك ضرورة لإطالة أمد الحرب طوال تلك الفترة، وإذا ما كانت إسرائيل حققت أهدافها بالفعل. كل ذلك قد يدفع إلى انتخابات جديدة ربما تطيح بأحلام نتنياهو في البقاء بمنصبه لأطول فترة ممكنة، والحفاظ على مكانته التي سقط منها كـ ملك إسرائيل.
لكل هذه الأسباب، يبقى مبكرًا للغاية الحديث عن منتصر ومهزوم في حرب غزة التي لم تنتهِ ولن تنتهي قريبًا.