اتجهت أنظار العالم خلال الأسابيع الماضية نحو لاهاي، مع إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان طلبه إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، وثلاثة من قادة حركة حماس، يُشتبه بتورطهم في ارتكاب جرائم تدخل ضمن اختصاصات المحكمة خلال الحرب التي تجري الآن في غزة بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية.
خلّفت هذه الحرب عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين، وأكثر من مليوني نازح فلسطيني داخل قطاع غزة وخارجه، الذي دُمِّرت بنيته التحتية.
ومع هذا الطلب، تثور العديد من الأسئلة حول القواعد القانونية التي تحرك المدعي العام على أساسها في طلبه المقدم إلى المحكمة، للإذن بتوجيه اتهامات لكل الأطراف، وطلب القبض على بعضهم. كما تثور أسئلة أخرى بشأن تداعيات قرارات الاعتقال المرتقبة خلال أسابيع، والسيناريوهات المحتملة للتعامل معها، وهوامش المناورة السياسية والقانونية لكل الأطراف المرتبطة بالنزاع؛ من الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس، وحتى الدول الداعمة للموقف الإسرائيلي أمام أجهزة الأمم المتحدة المختلفة.
في ماذا تُحقق الجنائية الدولية؟
أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الأساسي، وهو اتفاقية متعددة الأطراف وُقعت عام 1998 ودخلت حيز التنفيذ عام 2002، لتختص وحدها بالتحقيق في الجرائم الأشد خطورة التي ترتكب حول العالم، مثل الإبادة الجماعية والعدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومحاكمة المسؤولين عن ارتكابها، باعتبارها محكمة مستقلة لا تتبع الأمم المتحدة، وإن كانت على علاقة خاصة بها، تحكمها اتفاقية روما، بالإضافة إلى اتفاقية تعاون موقعة بين الطرفين.
حتى الآن، انضمت 124 دولة إلى نظام روما الأساسي وصادقت عليه، من بينها خمس دول عربية هي الأردن وجيبوتي وجزر القمر وتونس وفلسطين، في حين سحبت إسرائيل وأمريكا توقيعيهما على الاتفاقية عام 2001 بعد أقل من عام على انضمامهما.
ومع انضمام السلطة الفلسطينية إلى نظام روما عام 2015، أصبح بإمكانها التقدم بشكاوى إلى المحكمة، وهو ما فعلته في العام نفسه، عندما طلبت التحقيق في الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال في حرب غزة عام 2014. ومنذ ذلك التاريخ فتحت المحكمة ملف تحقيق في الحالة الفلسطينية، أضيفت له مؤخرًا الجرائم التي وقعت منذ هجوم السابع من أكتوبر، وستشمل التحقيقات أيضًا ما سيرتكب بعد هذا التاريخ.
ما الذي حدث؟ وماذا ننتظر؟
وفقًا لنظام روما، إذا استنتج المدعي العام أنَّ هناك أساسًا معقولًا لإجراء تحقيق حول جرائم تقع أو وقعت في إقليم دولة طرف، عليه أن يطلب من دائرة ما قبل المحاكمة، وهي الدائرة المختصة بمراجعة قراراته، أن تأذن له ببدء التحقيق.
هناك خياران أمام إسرائيل للتعامل مع القضية عدم الاعتراف بالمحكمة أو محاولة إجراء المحاكمة بنفسها
وهذا ما حدث في الحالة الفلسطينية الآن، فرغم تأخر مكتب المدعي العام في التحرك تجاه ما يقع من جرائم في غزة، فقد طلب أخيرًا من دائرة ما قبل المحاكمة الإذن ببدء التحقيقات، وأيضًا الإذن بأن يصدر أوامر بالقبض على بعض المشتبه بتورطهم في ارتكاب الجرائم التي يحقق فيها.
هؤلاء المشتبه بهم من قبل المدعي العام للمحكمة هم؛ من الجانب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لكونه رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية، ويوآف جالانت، لكونه وزير الدفاع في هذه الحكومة. ومن الجانب الفلسطيني؛ يحيى السنوار، لكونه رئيس الجناح العسكري في حركة حماس، ومحمد الضيف لكونه قائد العمليات العسكرية في الحركة، وإسماعيل هنية لكونه رئيس مكتبها السياسي.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ المحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم الدول أو ممثلي الحكومات بصفاتهم، لأنَّ الجرائم الجنائية، بطبيعتها، شخصية ولا يُساءل عنها إلا الأشخاص الذين تورطوا فيها وشاركوا بها. ولذلك يُستخدم للإشارة إلى المتهمين تعبير "لكونه"، لا "بصفته".
في الأسابيع القليلة القادمة، سوف تُحدد جلسة أمام دائرة ما قبل المحاكمة، المكونة من خمسة قضاة، للنظر في طلب المدعي العام للمحكمة القبض على المشتبه بهم واتهامهم.
وبعد أن تراجع دائرة ما قبل المحاكمة الأدلة المقدمة من المدعي العام، لها أن تأذن له باستكمال التحقيقات وإصدار أوامر القبض بحق المطلوبين، كلهم أو بعضهم، إذا وجدت أنها تشكل أساسًا معقولًا لتوجيه الاتهامات. وفي هذه الحالة يصدر الأمر الرسمي الأول في القضية بالقبض على المتهمين، ويُرسل إلى كل الدول الأعضاء بالمحكمة، وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة، ومجلس الأمن.
كيف ستؤثر الإجراءات على المطلوبين؟
بعد أن تصدر أوامر القبض بحق المتهمين، تصبح الدول الـ124 الأعضاء بالمحكمة ملزمة بتنفيذها، أي القبض على أيّ متهم ممن صدرت أوامر باعتقاله، وتسليمه إلى مقر المحكمة في لاهاي. ولا يعترف نظام المحكمة بالمحاكمات الغيابية للمتهمين، أي أن إجراءات المحاكمة لا يمكن أن تبدأ إلا بعد مثول مشتبه به واحد على الأقل أمام المحكمة.
ومن شأن هذا الإلزام أن يؤثر بقوة في قدرة بعض المشتبه بهم، خاصة نتنياهو وجالانت، على التحرك السياسي، بعد أن باتوا ممنوعين من السفر أو الانتقال إلى 124 دولة حول العالم، لأنهم سيعرِّضون أنفسهم للاعتقال والتسليم إلى المحكمة في لاهاي.
وتتعدد السيناريوهات المحتملة أمام أطراف الحرب الدائرة في غزة الآن، وهما بشكل رئيسي الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي، بالإضافة إلى الحكومات الداعمة لإسرائيل. فما الذي يمكن أن نتوقعه من كلٍّ منها؟
داعمو إسرائيل: خيار أقرب للمستحيل
من المرجح أن تبادر الحكومات الداعمة لإسرائيل من أعضاء مجلس الأمن، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، بتقديم مشروع للمجلس يطلب وقف التحقيقات والمحاكمة بشأن حالة غزة، وذلك باستخدام المادة 16 من نظام المحكمة، التي تمنح مجلس الأمن سلطة طلب وقف المضي في التحقيق أو المقاضاة لمدة سنة، تجدد بالشروط ذاتها، إذا كانت قرارات المدعي العام تؤثر على السلم والأمن الدوليين.
ولكنَّ هذا التحرك أمامه عائقان أساسيان؛ ضرورة أن يتحقق وقف إطلاق نار في غزة بإعلان أطراف النزاع التزامهم به، تتبعه مفاوضات لحل النزاع جذريًا، وقبول إصدار أمر مماثل بشأن إجراءات المحكمة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يلزم نظام المحكمة أن يصدر هذا القرار بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتعامل مع حالات تهديد الأمن والسلم الدوليين، ويوفر الإطار القانوني لاستخدام القوة المسلحة لحمايتهما. ويضع نظام المحكمة شرطين لا بد أنَّ يتحققا، ليصبح المضي في إجراءات المحاكمة أمرًا يهدد الأمن والسلم الدوليين؛ أن يكون الصراع المسلح توقف فعليًا وقانونيًا، وأن تكون محادثات السلام بين الأطراف المتنازعة بدأت أو أوشكت على البدء.
أي أنَّ إجراءات وقرارات المحكمة لا يمكن تعطيلها إلا عندما تكون سببًا محتملًا لعرقلة مفاوضات سلام جارية، بما يهدد بالعودة إلى نزاع مسلح توقف بالفعل.
لذلك، وللاستفادة من المادة 16، سيكون على الحكومات الموالية لإسرائيل أن تدفع بكل قوتها في سبيل وقف فوري لإطلاق النار تلتزم به الجميع، ويتزامن معه الإعلان والانخراط الفوري في مفاوضات سلام لحل الصراع العربي الإسرائيلي، مفاوضات حقيقية مقبولة من كل أطراف النزاع، غالبًا ما ستكون برعاية دول كبرى، لتصبغ عليها طابع الجدية اللازمة لاستخدام المادة 16؛ وتمكين مجلس الأمن من وقف إجراءات التحقيق والمقاضاة في الحالة الفلسطينية.
لن تنتهي الصعوبات هنا، ذلك أن تمرير القرار يستلزم ألَّا تعطله روسيا، التي ستقايض موافقتها بموافقة الدول الغربية على قرار مماثل، يتعلق بوقف التحقيقات وأوامر القبض وإجراءات مقاضاة بوتين.
يجعل ذلك من هذا السيناريو أمرًا أقرب إلى المستحيل، ويُعقد الخيارات القانونية أمام الحكومات الساعية إلى إنقاذ نتنياهو وجالانت.
إسرائيل: المقاطعة أو إثبات الرغبة
أما الجانب الإسرائيلي، فأمامه خياران للتعامل مع قرارات اعتقال مسؤوليه، إما رفض التعامل مع المحكمة، أو محاولة إقناع المحكمة بأنها ستتولى محاكمة مسؤوليها.
بإمكان إسرائيل أن تعلن رفض تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية، ورفض تنفيذ أوامر القبض على المشتبه بهما. سيعني ذلك أن يتجنب كلاهما السفر إلى دولة عضو بالمحكمة، من المحتمل أن تقبض عليهما وترسلهما إلى لاهاي.
ولكي تطيل أمد الدعوى التي لا يمكن أن تبدأ إلا بمثول أيِّ متهم أمام المحكمة بشخصه، سيعمل الجانب الإسرائيلي على إعاقة القبض على السنوار أو الضيف أو هنية، لضمان شل قدرة المحكمة على بدء إجراءاتها.
أيضًا يمكن أن يعلن الجانب الإسرائيلي تعاونه مع المحكمة، ولكن عبر استخدام قاعدة التكامل بين القضاءين الدولي والوطني، المنصوص عليها في المادة الأولى من نظام روما الأساسي. تمنح هذه القاعدة القضاء الوطني أولوية في إجراء التحقيقات والمحاكمة في تلك الجرائم، ولا يكون للمحكمة الجنائية الدولية التدخل إلا في حالة عدم قدرة أو رغبة القضاء الوطني في إجراء التحقيقات.
يعني ذلك أن تعلن الحكومة الإسرائيلية رغبتها واستعدادها للقبض على نتنياهو وجالانت، ومحاكمتهما أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية بذات التهم الموجهة إليهما من قبل المدعي العام، إعمالًا لقاعدة التكامل بين قضاء المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الإسرائيلي.
وكان المدعي العام أشار في لقاء تليفزيوني مؤخرًا إلى أنه منفتح للنظر في أي طلب تعاون قضائي من أي من الأطراف.
ولكن لتحقيق هذا السيناريو، يتعين على الجانب الإسرائيلي أن يثبت للمحكمة أنَّ نظامه القضائي مستقل، وأنه راغب وقادر على إجراء المحاكمة للمطلوبين على أراضيه، وذلك وفقًا للاشتراطات المنصوص عليها في نظام روما، التي لن يكون مرجحًا أن تلتزم بها إسرائيل.
أولًا، بسبب التغييرات التي أجرتها حكومة نتنياهو على النظام القضائي الإسرائيلي في الأشهر القليلة السابقة على اندلاع الحرب، وما ترتب عليها من مظاهرات مليونية احتجاجًا على نزع الاستقلالية عن النظام القضائي.
وثانيًا، بسبب السوابق القضائية للمحكمة العليا الإسرائيلية، التي أصدرت العديد من الأحكام القضائية في منتصف التسعينيات لمنح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الحق في استخدام الهز العنيف، الذي يُعدُّ من وسائل التعذيب أثناء التحقيقات، للحصول على اعترافات من المتهمين.
أما السبب الثالث، فيتعلق بعدم إجراء القضاء الإسرائيلي أي تحقيقات جنائية ضد أي من جنوده الذين يشتبه في تورطهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
تقطع هذه الأسباب الثلاثة أنَّ النظام القضائي الإسرائيلي ليس راغبًا في تحقيق العدالة وفقًا للمعايير الدولية للمحاكمة العادلة والمنصفة، ما يفقده الشرط الأهم لنقل اختصاصات الجنائية الدولية إليه؛ شرط الرغبة.
الفلسطينيون: مجلس الأمن أو الأمر الواقع
أما الجانب الفلسطيني، فأمامه أيضًا عدة سيناريوهات للتعامل مع أوامر الاعتقال إذا صدرت.
بإمكان الفلسطينيين أولًا الدفع لإنجاح مساعي الدول الموالية لإسرائيل، في أن يصدر مجلس الأمن قرارًا بوقف التحقيق وإجراءات التقاضي في الحالة الفلسطينية. يعني ذلك نهاية الحرب وبداية مفاوضات سلام جادة برعاية دولية لإنهاء الصراع بين الجانبين.
ولكن إذا فشلت هذه الجهود المرتبطة بمدى جدية الأطراف الدولية في حل الصراع، واتضح أنها لا تهدف إلا لعرقلة عمل المحكمة ومساعدة نتنياهو وجالانت على الإفلات من العدالة، ولأن المحاكمة لن تبدأ إلا بمثول أي من المطلوبين، فقد يبادر أحد المطلوبين الفلسطينيين إلى تسليم نفسه طواعية، لفرض الأمر الواقع على جميع الأطراف.
في اليوم التالي ستبدأ المحاكمة العلنية لإسرائيل، وستتحول المحكمة الجنائية الدولية إلى منصة عالمية حقيقية لعرض القضية الفلسطينية أمام العالم، ولفترة قد تمتد إلى سنوات.