إذا كان هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر مثَّل نقطة فارقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني القائم منذ 1948 من ناحية ضخامة أعداد القتلى الإسرائيليين في عملية واحدة مفاجئة، فإن أمر المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني طوال السنة الماضية، مثَّل بدوره نقطة فارقة تطعن في السردية الصهيونية وهي تزعم أن إسرائيل هي النقطة الديمقراطية الوحيدة المضيئة في بحر العرب الهمج المتخلفين.
فبالنسبة لأجيال كاملة من عمر الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته غير مأسوف عليه جو بايدن، أو جو إبادة جماعية، مثَّلت نشأة الكيان الصهيوني قبل 76 عامًا معجزةً واستكمالًا ناجحًا لمشاريع استعمارية فاشلة، بعد أن تمكنت مجموعات المهاجرين اليهود الأوروبيين التي تدفقت على فلسطين من دول لها تاريخ طويل في معاداة السامية مثل روسيا وبولندا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبفضل الدعم الغربي بسبب المحارق النازية للتخلص من ذنب الفرجة على إبادة اليهود في أفران الغاز، من بناء دولة قوية وسط بيئة معادية رفضت وجودهم من البداية.
كانت دولنا العربية مستعمَرةً بدورها من الدول نفسها التي ساهمت بدعمها في بناء الكيان الصهيوني، ولم تشعر بريطانيا العظمى سابقًا بأي غضاضة كدولة استعمارية في أن تعطي ممثلي الحركة الصهيونية وعد بلفور الذي أعرب عن دعم مشروعهم بناء "وطن قومي" على أرض فلسطين التي كانوا يحتلونها كما كانوا يحتلون مصر والسودان والعراق والأردن والجزيرة العربية، ويقسمون الأراضي ويرسمون الحدود ويختارون النخب الحاكمة.
وفي أعقاب هزيمة يونيو، زاد الانبهار الغربي بالمشروع الصهيوني وتفوق إسرائيل العسكري، خاصة بعد نجاحها في توسيع رقعتها ثلاثة أضعاف. وتدفق المتطوعون من الغرب، يهودًا وغير يهود، من أجل المساهمة في بناء المستوطنات والكيبوتسات التي قدَّمها الصهاينة باعتبارها مشاريع بناء الدولة الفاضلة حيث يعمل السكان بأيديهم على تطوير مدنهم ومجتمعاتهم ويجنون الثمار في مساواة كاملة.
صورة ناصعة تتفكك
لم يكن المواطن الغربي يشعر في إسرائيل بأنه ابتعد كثيرًا عن بلده الأم، حيث الحياة المتحررة التي يسودها البيض، مقارنة بما يحيط بها من دول عربية ينتشر فيها الفقر والجهل والحروب القبلية والعرقية واضطهاد النساء.
هذه الرؤية المنحازة لإسرائيل جعلت الغرب مستعدًا ومتقبلًا لكل ما تقوم به، ويرفض مجرد الاستماع لوجهة النظر الفلسطينية والعربية بشأن خضوعهم لدولة استعمارية عنصرية تنزع عنهم أبسط حقوقهم وهويتهم وأرضهم.
لكن هذه الصورة المبهرة بدأت تتغير تدريجيًا مع اجتياح لبنان في 1982، وبشاعة المجازر التي ارتُكبت هناك، وتحديدًا مجزرة صبرا وشاتيلا. ومع تطور وسائل الإعلام والاتصال وسهولة نقل الصور عبر الأقمار الصناعية شاهد الغرب حجم ما ترتكبه دولة الاحتلال من دمار وقتل، وهو ما لم يكن متاحًا بالقدْر نفسه من قبل.
ثم اندلعت الانتفاضة الأولى وجاءت معها مشاهد جنود الاحتلال وهم يكسرون أذرع أطفال الحجارة، لتمثل خطوة أخرى نحو تغيير صورة إسرائيل الجذابة في دول الغرب، وإدراك أن هناك شعبًا آخر يطالب بحقوقه المشروعة ويقاتل للاحتفاظ بأرضه ويرفض التهجير والخروج عنوة منها لتلبية احتياجات مشروع استعماري عنصري.
ومع كل انتفاضة شعبية وحرب إبادة تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، واستمرار المقاومة ضد توسيع الاستيطان والاستيلاء على الأرض في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، كانت صورة إسرائيل الديمقراطية تتغير تدريجيًا وببطء.
بالطبع كان هناك تعاطف واسع مع الكيان الصهيوني بعد طوفان الأقصى، وضخمت الآلة الدعائية لدولة الاحتلال حوادث خطف الطاعنين والأطفال وقتل مدنيين كانوا يحضرون حفلة موسيقية، متجاهلين مقتل المئات من جنود الاحتلال على طول نقاط المراقبة بين قطاع غزة وبقية أراضي فلسطين. وروج نتنياهو ومعه بايدن أكاذيب بشأن ذبح أطفال، وكأن إسرائيل لم تكن تخوض معركة سنوية في الأمم المتحدة لمنع وضع اسمها في القائمة السوداء للدول الأكثر قتلًا للأطفال.
غير أن هذا التعاطف سرعان ما تبخر، مع هول الانتقام الإسرائيلي والقتل العشوائي على نطاق واسع حتى تجاوز عدد الشهداء 44 ألفًا والمصابين 105 آلاف، واستخدام التجويع سلاحًا، وخرق كل المحظورات باستهداف المستشفيات والمدارس وأماكن اللجوء حتى تلك التي وصفتها سلطات الاحتلال بأنها مناطق إنسانية آمنة.
وحتى داخل الولايات المتحدة التي كان شبه محظور فيها انتقاد إسرائيل لم يتحمل الرأي العام، خاصة في أوساط الشباب والمتعلمين والأحزاب التقدمية، حجم الجرائم الإسرائيلية. ورأينا لأول مرة مظاهرات يشارك فيها عشرات الألوف يطالبون ليس فقط بوقف الحرب ولكن كذلك بإنهاء الاحتلال العنصري لفلسطين وإقرار حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة على أرضهم.
والأربعاء الماضي، طرح عضو مجلس الشيوخ المستقل بيرني ساندرز أول مشروع قرار يدعو لوقف تصدير الأسلحة الأمريكية لإسرائيل، لمنعها إدخال المساعدات الإنسانية، وبعضها أمريكية، للفلسطينيين في غزة. صحيح أن القرار رُفِضَ بأغلبية 79 صوتًا، ولكن لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يصوِّت نحو عشرين من أعضاء مجلس الشيوخ المائة لصالح قرار مثل هذا. والمدركون لمدى تغلغل وقدرة اللوبي الصهيوني الأمريكي في السياسة الأمريكية يعرفون كيف كان من المستحيل تقريبًا تخيل مثل هذا التحرك قبل سنوات قليلة فقط.
إسرائيل دولةً مارقةً
في السياق نفسه، يأتي قرار الجنائية الدولية الذي لم يكن إصداره سهلًا بكل تأكيد وتأخر ستة شهور كاملة مارست خلالها إسرائيل والولايات المتحدة كافة أنواع الضغوط والتهديدات والإغراءات لمنع صدوره، كان آخرها محاولة الطعن في نزاهة المدعي العام للمحكمة كريم خان الذي طلب إصدار أوامر الاعتقال، عبر إثارة قضية قديمة اتُّهم فيها بالتحرش الجنسي. كما تم تأجيل إعلان القرار شهرًا كاملًا بعد استبعاد قاضٍ من المحكمة واستبدال آخر به.
قرار الجنائية الدولية يرسّخ صورة إسرائيل دولةً منبوذةً مارقةً
ورغم أن مستشار الأمن القومي الأمريكي مايكل والتز الذي عينه الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب مؤخرًا ويتولى مهامه رسميًا في 20 يناير/كانون الثاني المقبل، توعد المحكمة بالانتقام والويل والثبور، فإن شيئًا لن يغير من حقيقة أن أرفع محكمة جنائية دولية أنهت المسلمات المتعلقة بدولة الاحتلال منذ نشأتها، بأن كل تصرفاتها مبررة ولا يمكن محاسبتها. كما أقرت المحكمة بحقيقة ترفضها إسرائيل، وهي أن الفلسطينيين شعب مستقل له حقوق يتساوى فيها مع كل شعوب العالم، وليس مقدرًا لهم أن يتعرضوا للقتل المتواصل باستهتار.
وقرار المحكمة الجنائية الدولية، حتى وإن كان من الصعب تنفيذه، يرسِّخ صورة إسرائيل كدولة منبوذة مارقة تمارس أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان، يتساوى قادتها في هذا الشأن مع قادة الديكتاتوريات الإفريقية التي تخصصت المحكمة الجنائية الدولية في محاكمتهم وحدهم، وهو أحد الانتقادات التي كانت تُوجَّه للمحكمة.
كما يطعن القرار في استقلالية ونزاهة النظام القضائي الإسرائيلي الذي دأب ممثلو دولة الاحتلال على إصابة الجميع بالصداع وهم يتحدثون عنه. فالقضاء الإسرائيلي غير قادر بكل تأكيد على محاسبة المسؤولين فيه عن جرائمهم في وقت يدعم فيه غالبية الإسرائيليين إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم عقابًا على هجوم السابع من أكتوبر. كما أنه لم يكن يومًا قضاءً مستقلًا أو نزيهًا في التعامل مع الفلسطينيين، بل كأي قضاء في دولة احتلال وفصل عنصري، منحاز دائمًا وأبدًا للمحتل.
لكن من الآن فصاعدًا، وإلى الأبد، سيلاحِق نتنياهو وجالانت، وربما العديد من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين الآخرين، عار جرائم الحرب، باعتبارهم مجرمين قتلوا الأطفال والنساء والمدنيين واستخدموا التجويع سلاحًا لتحقيق أهدافهم في انتهاك واضح لكل القوانين والمعاهدات الدولية.
إسرائيل دولة عنصرية قادتها مجرمون، وليست واحة للديمقراطية كما توهم الغرب وسعى أن يبيع لنا هذا الوهم على مدى أكثر من سبعة عقود.