لم أتابع الانتخابات البريطانية الأخيرة باهتمام، فقد فقدت الأمل منذ موقف رئيس الوزراء العمالي توني بلير من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، في أن يكون لبريطانيا التي تصف نفسها بـ"العظمى" موقفًا مستقلًا عن الولايات المتحدة، وبغض النظر عن الانتماء الحزبي للحكومة القائمة.
وما عزز قراري هذا بالتعامل مع نتيجة الانتخابات البريطانية كحدث هامشي حقيقة أن من قاد حزب العمال نحو النصر الكاسح كان كير ستارمر، الذي يبدو وكأنه نسخة جديدة من بلير في التماهي مع المواقف الأمريكية، ما أكده تصريحه المخزي بعد هجوم السابع من أكتوبر، عندما برر حصار جيشِ الاحتلال قطاعَ غزة، وقطع المياه والكهرباء عن سكانه، تحت عنوان "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
فعندما سأل مذيع قناة LBC البريطانية ستارمر في 11 أكتوبر/تشرين الأول "هل الحصار مقبول؟ قطع المياه؟ قطع الكهرباء؟"، رد رئيس الوزراء العمالي الجديد، لا فض فوه "إسرائيل لديها ذلك الحق. الموقف يتطور. بالطبع كل شيء يجب أن يتم في إطار القانون الدولي، ولكن لا أريد أن أبتعد عن المبادئ الرئيسية، وهي أن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها وحماس تتحمل مسؤولية العمليات الإرهابية. وأدعو كل دول العالم، وتحديدًا الدول المسؤولة في الشرق الوسط، أن تسمي الأشياء باسمها، وأن تقف مع بقية العالم في الإدانة الواضحة للأعمال التي قامت بها حركة حماس".
لاحقًا، وبعد أن اتضح للعالم حجم الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين بما يفوق أي حق مزعوم في الدفاع عن النفس، عزز ستارمر انحيازه لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، عندما منع نواب حزب العمال من التصويت لصالح قرار يدعو لوقف فوري لإطلاق النار.
كلب بوش المدلل
كان بلير نجمًا بازغًا في الحياة السياسية البريطانية، بعد أن تمكن عام 1997 من إنهاء هيمنة حزب المحافظين على الحكم منذ 1979، بعد سنوات سيطرة المرأة الحديدية مارجريت تاتشر وخليفتها جون ميجور.
قادت تاتشر ما يمكن وصفه بالتغيير الجذري في السياسة البريطانية، بتبني أفكار الليبرالية الجديدة ودعم كبار أصحاب الأعمال على حساب حقوق العمال والنقابات، وبترسيخ الارتباط بالولايات المتحدة في المواقف الخارجية، واعتبار أنهما حليفان لا ينفصمان، بغض النظر عن أي تباينات قد تطفو على السطح أحيانًا.
ولكن بعد نجاحه في انتخابات 1997 بأغلبية هي الأكبر في تاريخ حزب العمال، بنى بلير استراتيجيته على تحريك حزبه تدريجيًا نحو الوسط، والابتعاد به عن المواقف التقدمية التي تبناها تاريخيًا، وظل متمسكًا بالتبعية لواشنطن، بما في ذلك تجاه القضية الفلسطينية، ثم المشاركة في احتلال العراق عام 2003.
جعلت مشاركة بريطانيا، وحدها من أوروبا تقريبًا في هذه الحرب، معارضي بلير والإعلام البريطاني يصفونه بـ"كلب بوش المدلل/Bush’s poodle"، حتى إن صحفيًا سأل بوش في مؤتمر صحفي ما إذا كان يوافق على هذا اللقب، وعندها نظر بلير نحوه وقال له باسمًا "أرجوك لا تقل نعم".
بعد خروجه من منصبه عام 2007، تحول بلير ببساطة إلى رجل أعمال يمتلك شركة خاصة تقدم الاستشارات السياسية وتتوسط في عقد الصفقات بين الدول. ومن بين زبائنها دول عربية محافظة من بينها مصر وبعض دول الخليج، وبريطانيا وكذلك الولايات المتحدة. كما استفاد من تعيينه في وقت لاحق مبعوثًا للسلام في الشرق الأوسط، حيث كان من المفترض أن يحرك مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. بالطبع لم يحرك شيئًا، واكتفى بالكلام المعسول بينما يوثق علاقاته واتصالاته وعقوده السخية اللاحقة مع قادة دول الشرق الأوسط.
على خطى مسيرة مخزية
مثل بلير، اختار رئيس الوزراء الجديد أن يتبنى الوصفة الأمريكية. فقد كان أول إجراءاته بعد أن تولى رئاسة الحزب في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مُنى بها سلفه جيريمي كوربين عام 2019، التخلص من كل الشخصيات اليسارية البارزة داخل الحزب، بما في ذلك كوربين نفسه، بزعم تساهلهم وتسامحهم مع تفشي نزعة "معادية السامية" داخل الحزب.
وبعد هجوم السابع من أكتوبر، ثم حرب الإبادة الإسرائيلية، لم تختلف المواقف الرسمية للعمال والمحافظين كثيرًا. فبينما يؤكد ستارمر على ما يسميه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، يتحدث على الجانب الآخر ديفيد كاميرون، وزير الخارجية في حكومة سوناك، في فبراير/شباط الماضي بشكل مبهم عن إمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، لكنه لا يقرر الانضمام للدول الأوروبية التي أقدمت على هذه الخطوة.
تعليق ستارمر المشين الذي دعم فيه تجويع وتعطيش سكان غزة، ألحق ضررًا فادحًا بعلاقة الحزب والجالية العربية والمسلمة البريطانية، الذين قرروا معاقبته، ومعهم قطاعات واسعة من البريطانيين المتعاطفين مع عدالة القضية الفلسطينية، وأسمعوا صوتهم عاليًا، وتمكنوا من هزيمة مرشحي حزب العمال في عدة دوائر مهمة وتاريخية كان الفوز فيها مضمونًا لصالحهم.
حَرمت المشاركة الواسعة للناخبين المستقلين المؤيدين لفلسطين حزب العمال من الفوز بمقاعد كان يتوقع أن تزيد من حجم أغلبيته البرلمانية. ربما لم ينسَ هؤلاء أن بريطانيا كانت هي الأصل والأساس في مأساة الفلسطينيين المتواصلة منذ أن منحت الحركة الصهيونية عام 1917 دون وجه حق دولة على أرض فلسطين التي لا تمتلكها.
قد تكون الانتخابات البريطانية مثيرةً في نتائجها وفي الخروج المهين المتوقع لحزب المحافظين، ولكن تولي ستارمر المنحاز لإسرائيل منصب رئاسة الوزراء لن يمثل بكل تأكيد أي تغير في المواقف الرسمية للدولة، التي كانت تصف نفسها بـ"الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس"، لتبرر احتلالها العنصري لنصف العالم بحجة نشر الحضارة، بينما الأصل والأساس دائمًا كان نهب موارد وثروات هذه الدول وإثارة النزاعات الداخلية لضمان استمرار "عظمة" تلك الإمبراطورية.
وبما أن ستارمر، كما توني بلير، سيواصل تبعية بريطانيا لواشنطن، وبعد أن فقدت مستعمراتها وأصبح الضباب هو الغالب بدلًا من "الشمس التي لا تغيب"، يبدو التمسك بكلمة "العظمى" في الاسم الرسمي للدولة مضحكًا، وربما يجب تغييره إلى "بريطانيا التي لم تكن يومًا عظمى"، وأن تقدم اعتذارها مع تعويضات سخية، للدول التي قامت باستعمارها.